مصرع وإصابة عدد من عناصر المليشيات الحوثية الإرهابية غربي تعز    الحوثيون يغلقون مسجد في عمران بعد إتهام خطيب المسجد بالترضي على الصحابة    شاب يقتل شقيقه جنوبي اليمن ووالده يتنازل عن دمه فورًا    صاعقة رعدية تنهي حياة شاب يمني    محمد المساح..وداعا يا صاحبنا الجميل!    صورة ..الحوثيون يهدّون الناشط السعودي حصان الرئيس الراحل "صالح" في الحديدة    آية في القرآن تجلب الرزق وفضل سورة فيه تبعد الفقر    العليمي يكرّر كذبات سيّده عفاش بالحديث عن مشاريع غير موجودة على الأرض    رفع جاهزية اللواء الخامس دفاع شبوة لإغاثة المواطنين من السيول    نصيب تهامة من المناصب العليا للشرعية مستشار لا يستشار    على الجنوب طرق كل أبواب التعاون بما فيها روسيا وايران    مقتل مغترب يمني من تعز طعناً على أيدي رفاقه في السكن    انهيار منزل بمدينة شبام التأريخية بوادي حضرموت    ما هي قصة شحنة الأدوية التي أحدثت ضجةً في ميناء عدن؟(وثيقة)    وفاة الكاتب والصحفي اليمني محمد المساح عن عمر ناهز 75 عامًا    العليمي يتحدث صادقآ عن آلآف المشاريع في المناطق المحررة    صور الاقمار الصناعية تكشف حجم الاضرار بعد ضربة إسرائيل على إيران "شاهد"    عاجل: انفجارات عنيفة تهز مدينة عربية وحرائق كبيرة تتصاعد من قاعدة عسكرية قصفتها اسرائيل "فيديو"    صورة تُثير الجدل: هل ترك اللواء هيثم قاسم طاهر العسكرية واتجه للزراعة؟...اليك الحقيقة(صورة)    وزير سابق يكشف عن الشخص الذي يمتلك رؤية متكاملة لحل مشاكل اليمن...من هو؟    الدوري الايطالي: يوفنتوس يتعثر خارج أرضه ضد كالياري    نادي المعلمين اليمنيين يطالب بإطلاق سراح أربعة معلمين معتقلين لدى الحوثيين    مبنى تاريخي يودع شبام حضرموت بصمت تحت تأثير الامطار!    رئيس الاتحاد العربي للهجن يصل باريس للمشاركة في عرض الإبل    شروط استفزازية تعرقل عودة بث إذاعة وتلفزيون عدن من العاصمة    تظاهرات يمنية حاشدة تضامنا مع غزة وتنديدا بالفيتو الأمريكي في مجلس الأمن    لماذا يموتون والغيث يهمي؟    اليمن تأسف لفشل مجلس الأمن في منح العضوية الكاملة لدولة فلسطين في الأمم المتحدة مميز    تعز.. قوات الجيش تحبط محاولة تسلل حوثية في جبهة عصيفرة شمالي المدينة    الممثل صلاح الوافي : أزمة اليمن أثرت إيجابًا على الدراما (حوار)    - بنك اليمن الدولي يقيم دورتين حول الجودة والتهديد الأمني السيبراني وعمر راشد يؤكد علي تطوير الموظفين بما يساهم في حماية حسابات العملاء    بن بريك يدعو الحكومة لتحمل مسؤوليتها في تجاوز آثار الكوارث والسيول    المانيا تقرب من حجز مقعد خامس في دوري الابطال    الحوثيون يفتحون مركز العزل للكوليرا في ذمار ويلزمون المرضى بدفع تكاليف باهظة للعلاج    لحظة بلحظة.. إسرائيل «تضرب» بقلب إيران وطهران: النووي آمن    تشافي وأنشيلوتي.. مؤتمر صحفي يفسد علاقة الاحترام    الأهلي يصارع مازيمبي.. والترجي يحاصر صن دوانز    اقتحام موانئ الحديدة بالقوة .. كارثة وشيكة تضرب قطاع النقل    بعد إفراج الحوثيين عن شحنة مبيدات.. شاهد ما حدث لمئات الطيور عقب شربها من المياه المخصصة لري شجرة القات    سورة الكهف ليلة الجمعة.. 3 آيات مجربة تجلب راحة البال يغفل عنها الكثير    عملة مزورة للابتزاز وليس التبادل النقدي!    مولر: نحن نتطلع لمواجهة ريال مدريد في دوري الابطال    الفلكي الجوبي: حدث في الأيام القادمة سيجعل اليمن تشهد أعلى درجات الحرارة    رغم وجود صلاح...ليفربول يودّع يوروبا ليغ وتأهل ليفركوزن وروما لنصف النهائي    ريال مدريد وبايرن ميونخ يتأهلان لنصف نهائي دوري ابطال اوروبا    تنفيذي الإصلاح بالمحويت ينعى القيادي الداعري أحد رواد التربية والعمل الاجتماعي    بمناسبة الذكرى (63) على تأسيس العلاقات الدبلوماسية بين اليمن والأردن: مسارات نحو المستقبل و السلام    قبل قيام بن مبارك بزيارة مفاجئة لمؤسسة الكهرباء عليه القيام بزيارة لنفسه أولآ    وفاة مواطن وجرف سيارات وطرقات جراء المنخفض الجوي في حضرموت    "استيراد القات من اليمن والحبشة".. مرحبآ بالقات الحبشي    دراسة حديثة تحذر من مسكن آلام شائع يمكن أن يلحق الضرر بالقلب    تصحيح التراث الشرعي (24).. ماذا فعلت المذاهب الفقهية وأتباعها؟    السيد الحبيب ابوبكر بن شهاب... ايقونة الحضارم بالشرق الأقصى والهند    ظهر بطريقة مثيرة.. الوباء القاتل يجتاح اليمن والأمم المتحدة تدق ناقوس الخطر.. ومطالبات بتدخل عاجل    أبناء المهرة أصبحوا غرباء في أرضهم التي احتلها المستوطنين اليمنيين    وزارة الأوقاف تعلن صدور أول تأشيرة لحجاج اليمن لموسم 1445ه    تأتأة بن مبارك في الكلام وتقاطع الذراعين تعكس عقد ومرض نفسي (صور)    النائب حاشد: التغييرات الجذرية فقدت بريقها والصبر وصل منتهاه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يوم 13 يناير 1986م
أنا والحياة سيرة ذاتية
نشر في الجمهورية يوم 09 - 03 - 2010

(إلى الأجيال المعاصرة والأجيال القادمة أهدي هذه السيرة الذاتية التي تعتبر ليست وقائع لحياة كاتبها فحسب، ولكن فيها وقائع من حياة شعبنا اليمني وصدى لبعض ما كان يجري من حولنا في أقطارنا العربية الشقيقة.
فإلى هؤلاء أقدِّم سيرتي الذاتية لعلهم يجدون فيها ما يفيدهم في حياتهم القادمة التي لاشك أنها ستكون أحسن من حياتنا الماضية)
استيقظت من النوم صباح يوم 13 يناير من عام 1986م في حوالي السادسة والنصف على صراخ زوجتي ، وهو شيء غير مألوف لدي في مثل تلك الساعة من الصباح، فأيقنت بأن شيئاً ما قد حدث، رميت بالغطاء جانباً ونهضت من فراشي وكلمات زوجتي تصلني قوية منذرة ومهددة ابني إيهاب الذي كان يستعد للخروج إلى مدرسته الثانوية، وعندما وصلت إليهما في الغرفة المجاورة كانت زوجتي تصيح في الولد قائلة:
هل سمعت كلامي؟ أحذرك أن تتبع هؤلاء العيال من هذا اليوم.
ويجيب الولد في هدوء:
هؤلاء الأولاد أصحابي، ولي مدة طويلة أمشي معهم، فلماذا هذا اليوم تصرين على أن أبتعد عنهم؟
فتجيب زوجتي في عناد وإصرار:
أقول لك ابتعد عنهم ولابد أن تسمع كلامي.
وتدخلت في الحديث قائلاً:
الولد عنده حق، هاتي سبباً واحداً مقنعاً وهو بالتأكيد سوف يسمع كلامك.
قالت:
البارحة حلمت حلماً فظيعاً.
خير إن شاء الله.
ما رأيته البارحة لا خير فيه.
أضغاث أحلام وهلوسة نوم.
أحلامي دائماً تصيب.
قلت بنفاد صبر:
طيب احكي لنا لنرى.
قالت:
حلمت أن عدة أولاد أحرقوا مدينة عدن، وأخذوا بعد ذلك يتبادلون التهم فيما بينهم، حتى أنهم اتهموا ابني أيضاً.
قلت :
ولهذا منعته من مصاحبة أصحابه اليوم؟
نعم،وإذا كان يحبني صحيح لا يصاحبهم منذ اليوم.
ما هذا الكلام الذي تقولينه يا امرأة، كلنا نحلم كل ليلة ولو تحققت كل أحلامنا لخربت الأرض.
لكن أحلام عن أحلام تفرق كثير، ثم إنني مجربة أحلامي، فهي لا تخطئ أبداً.
قولي خيراً يا امرأة،وهل هذا كلام تقولينه في مطلع يوم جميل كهذا!
لقد حذرتكم ،وإنني في قرارة نفسي لأرجو أن تكون أحلامي مخطئة هذه المرة.
بعد هذا الحوار، وفي حوالي السابعة خرج ابني إلى مدرسته، ثم بعد ساعة خرجت أنا أيضاً واتجهت أولاً إلى سوق الخضار وتزودت بحاجة البيت وعدت إلى عملي بمتجر رويال، وبدأت العمل بكتابة بعض كشوفات العام المنصرم، واستغرقت في العمل تماماً ونسيت ذلك الحلم المزعج.. وفي حوالي الساعة العاشرة وخمسين دقيقة من صباح ذلك اليوم رن جرس التلفون في المتجر وحالما رفعت السماعة إذا بصوت زوجتي تحدثني قائلة:
صباح الخير.
صباح الخير والنور، هل تريدين شيئاً؟
لا .. ماذا تعمل؟
أكتب بعض كشوفات السنة الماضية.
اترك ما بيدك وتعال.
لماذا؟
سمعت أن هناك بعض الحوادث حصلت اليوم.
قلت ساخراً:
وهل مر يوم دون أن تحدث فيه حوادث ! ثم ما دخلي أنا بذلك؟
قالت في تردد كمن لا يريد أن يفصح بالحديث بالتلفون:
تعال اليوم بسرعة ولا تتأخر كثيراً.
سأنجز ما بيدي، وفي الثانية عشرة سأعود كالعادة.
وهل اشتريت البيض والخضار؟
اطمئني فقد اشتريت جميع طلباتك.
قالت بعد فترة صمت قصيرة.
الأفضل أن تصل اليوم قبل الثانية عشرة.
قلت :
سأحاول.
ووضعت السماعة، وعدت إلى مزاولة عملي وأنا غير مبال بما قالته زوجتي، وانهمكت تماماً في العمل، وفي الثانية عشرة إلا ربعاً، كنت قد أنهيت ما أريد إنجازه ذلك اليوم، فحملت حوائجي وأغلقت المتجر متجهاً إلى المنزل، وفي الطريق لفت نظري أن جميع المتاجر من حولي قد أغلقت أبوابها على غير عادتها، كما أن الناس في الشارع كانوا يهرولون في السير متخذين كل الاتجاهات، وكل واحد منهم يحمل بيده شيئاً ما .. كيس .. علبة لبن .. تنك سمن .. مشيت بينهم وقد أخذ ذهني ينشط لمعرفة أحداث هذا اليوم ومن أي نوع هي وأخذت أستعيد أحاديث الناس التي سمعتها عن الانقسامات والتعصبات المستمرة التي تجري بين فصيل وآخر من قادة السلطة، وما وصلت إليه من الحدة في الأيام الأخيرة مما قد يؤدي إلى الانفجار وإن هذه المرة لن تكون مثل الدورات الدموية السابقة.. أفقت من تأملاتي تلك لأجد نفسي بالقرب من مسكني وقد تجمع في الشارع أمام العمارة التي أسكن بها بحارة “الشريف” بعض من أعرفهم من تلك الحارة، انضممت إليهم وأرهفت أذني لما يقولون، ودون أن أسأل قال لي أحدهم:
أسرع اشتري مؤونة لبيتك، هناك ضرب نار بالتواهي.
قلت في خوف:
وماذا يعني هذا ؟
قال:
لا أحد يدري، ولكن الحذر أحسن.
قال:
الله وحده يعلم ماذا سيحدث لو استمر هذا الضرب الليل بكامله.
وفي سرعة أخذت أستعرض في ذهني كل الحوادث التي وقعت لنا منذ فجر الاستقلال،فوجدتها تبدأ وتنتهي في يوم أو ويومين فقلت في نفسي إن هذا من ذاك وما أشبه اليوم بالبارحة، ولكن ما سمعته من أحاديث من قبل أن التكتلات والانقسامات هذه المرة خطيرة جداً وأن هذا الضرب بالنار ماهو إلا المقدمة لها، ولهذا عندما أحسست بالخطر القادم وثبت إلى منزلي ووضعت حاجاتي وعدت سريعاً إلى الشارع واتجهت إلى دكان يقع خلف عمارتنا بحارة القاضي فوجدته غاصاً بالناس، ومن نظرة واحدة إلى تلك الجموع المحتشدة، تبين لي أنني إذا وقفت أنتظر فلن أحصل على شيء من طلبي، لهذا شمّرت عن ساعدي واخترقت تلك الجموع التي أمامي حتى وصلت أمام الميزان وعشرات الأيدي تتزاحم عليه، وكل واحد يريد أن يزن ما يحمله قبل الآخر، فلم يعد صاحب الدكان يستطيع أن يفعل شيئاً إلا أن يستلم نقوده، وعلى الشاري أن يأخذ ما يحتاجه من الدقيق والأرز والسكر وغير ذلك ويضعه بنفسه على الميزان، تلفت حولي أبحث عن جوالات الدقيق فإذا بها في القسم الداخلي من الدكان، وقد تجمع حولها الناس وقد أخذ كل واحد يملأ كيس الورق الذي يحمله، اندفعت شاقاً طريقي بينهم بصعوبة حتى وصلت أمام أحد جوالات الدقيق ولم يكن به إلا أقل من الربع، ولما صعب علي إدخال يدي لاستخراج الدقيق منه أدخلت رأسي في الجوال وجعلت أملأ الكيس الذي بيدي حتى امتلأ،ثم عدت إلى الميزان أزن وأدفع القيمة، وهكذا خرجت من المتجر وقد ابيض شعر رأسي،وأمام البيت وجدت ابني هو الآخر يحمل عدة أكياس أخرى، بعد ذلك وفي حوالي الساعة الواحدة والنصف بعد الظهر كنا داخل البيت ننتظر ما يخبئه لنا القدر.
في الساعة الثانية والنصف من ظهر ذلك اليوم خرجت ابنتي “مها” من الحمام وهي تصيح قائلة:
أما تسمعون؟ هناك من يدق باب العمارة من أسفل.
وأنصتنا جميعاً.. كانت أصوات المدفعية الثقيلة ومدافع الدبابات قد بدأت عملها في مكان ما، فقلت موضحاً:
هناك دق صحيح ولكن ليس في أسفل العمارة كما تظنين، هناك ضرب قوي وعنيف بالمدافع والدبابات ويحتمل أن يكون هذا الضرب في التواهي أو خور مكسر.
قالت زوجتي في خوف:
مدافع ودبابات آلية؟.. هل نحن على حدود إسرائيل؟!
قلت:
إسرائيل نائمة ومطمئنة وفي أمان، صوت المدافع والدبابات اليوم لا يتردد صداها إلا في العواصم العربية وبأيد عربية أيضاً.
وماذا يعني هذا هل حكم علينا أن نخوض حرباً أهلية بعضنا ضد بعض كلبنان؟
قلت لها مطمئناً:
لا .. لا أظن ذلك، وماهي إلا ساعات ويهدأ كل شيء.
ومرت لحظة صمت قطعتها زوجتي قائلة وهي تتجه إلى الغرفة التي بها التليفون.
سوف أتلفن لبيت أختك لأطمئن عليهم.
قلت:
هذا واجب علينا.
وغابت ربع ساعة وعادت تقول:
الحمد لله جميع بنات أختك وأولادها قد عادوا من مدارسهم، ولا شيء يقلقهم إلا أصوات طلقات الرصاص التي يسمعونها من خلف العمارة بين آن وآخر،وقد عرضت عليهم اللجوء إلى منزلنا إذا ما اشتد الضرب حولهم.
قلت:
حسناً فعلت .. ولكن ماذا عن أخبار بيت خالي بالخساف؟
قالت:
اطمئن كل الأسرة متواجدة داخل البيت.
قلت :
لم يبق إلا بيت جمال.
قالت:
جمال وزوجته وأولاده تركوا منزلهم بالميدان، وجلسوا عند خالك محمد بالخساف، كما أخبرتني امرأة خالك أن بنتها الأخرى قد عملت لها تلفوناً من المنصورة وطمأنتها عنها وعن أولادها وزوجها.
قلت:
الحمد لله عليك الآن أن تسألي عن خالي سالم بفندق الحرية، إذا كان قد وصل إلى الفندق من الدورة الصحية التي يشارك فيها بخور مكسر.
قالت زوجتي :
هذا عليك أنت.
اتجهت إلى الغرفة المجاورة وأنا أتساءل مع نفسي:” ترى هل كان مجيئه من المكلا قبل يومين لأن القدر أراد له أن يعيش معنا هذه الحوادث؟” وكنت على علم بوصول خالي سالم من المكلا يوم السبت مع ثلاثة آخرين لحضور ندوة في المجال الصحي وقد نزلوا جميعاً بفندق الحرية بكريتر وكان خالي يأتي لزيارتنا كل مساء، وهذا اليوم هو اليوم الثاني في دورتهم التي تقام بالمعهد الصحي بخور مكسر، وكانت نيتي أن أطمئن على عودته من خور مكسر سالماً، رفعت سماعة التلفون وطلبت رقم الغرفة التي ينزل بها في الفندق وجاءني صوته قوياً حاداً:
ألو..
قلت ..
الحمد لله .. متى وصلت؟
قال :
الآن.
ثم أخذ يحدثني مازجاً حديثه بضحكاته الرنانة كعادته في الحديث:
تصور لقد وصلت من خور مكسر مشياً على الأقدام.
قلت:
لماذا ؟
عند الطريق البحري وبجانب محطة شمسان أوقفوا كل السيارات المتجهة إلى كريتر، مما جعلني أطلب من السائق عطوان.. بأن يعود بالسيارة إلى خور مكسر،بينما عدت أنا مشياً على الأقدام.
كنا قلقين عليك.
قال:
لا تخافوا .. أنا بخير.. كيف الأهل؟
بخير وهم بانتظارك.
سوف أصلكم بعد العصر إن شاء الله.
وهو كذلك لتسترح الآن قليلاً من تعب الطريق.
ووضعت السماعة وعدت إلى غرفة الجلوس حيث بادرتني والدتي قائلة:
شقيقي بخير؟
قلت :
اطمأني لقد وصل الآن من خور مكسر.
وما الذي يقعده بالفندق حتى الآن بعد الذي حصل؟
قال إنه سيأتي إلينا في العصر.
لن ندعه يعود إلى الفندق بعد الآن.
صحيح كلامك يا أماه، وليمكث معنا حتى تهدأ الأحوال.
وفي هذه اللحظات لم نكن نسمع إلا طلقات الرصاص البعيدة ودوي المدافع الذي يصلنا مكظوظاً كطرقات طفل مشاغب على أحد الأبواب الخشبية.
ولما اقتربت الساعة من الثالثة والنصف أخذت أتهيأ للخروج إلى مسجد بانصير المجاور لتأدية صلاة العصر، وفيما أنا أخطو في طريقي إلى باب الشقة إذ بالمذياع يبدأ نشرته المسائية الأولي، توقفت لحظة لأسمع موجز الأنباء، ذكر المذياع عن محاولة لاغتيال الرئيس علي ناصر محمد وإعدام زعماء مدبري تلك المحاولة، ولم أستطع البقاء لاستماع الأخبار بالتفصيل فواصلت سيري، كان المسجد غاصاً بالمصلين بين راكع وساجد بينما أخذ البعض الآخر يتهامس مع جاره عن آخر الأخبار، واقترب مني أحد الزملاء فهمست في أذنه قائلاً:
لا أظن ذلك إلا بداية البداية ، فإعدام كل هؤلاء القادة سيثير حرباً ضروساً.
وهنا ارتفع صوت الإمام يدعو لإقامة الصلاة، فقام الجميع للصلاة والهمسات لا تزال تتردد بينهم حتى كبر الإمام تكبيرة الإحرام، بعد ذلك وفي الركعة الرابعة وبعد الاعتدال، رفع الإمام يديه يدعو في خشوع بالدعاء المأثور في مثل هذه المواقف: “اللهم سلمنا والمسلمين وجنبنا مصائب الدنيا والدين” إلى آخر هذا الدعاء.
ولم يكد ينتهي الإمام من التسليمة الثانية حتى عاد الهرج في المسجد من جديد، وقام أكثر المصلين فمنهم من عاد إلى منزله والبعض انضم إلى من كان بالشارع يستمع للمذياع.
وصلت المنزل وقد كان موعد البث التلفزيوني قد بدأ وبعد السلام الوطني والقرآن الكريم .. أعاد بث نفس البيان الذي أذاعه الراديو في الثالثة والنصف ثم تلا بعض الأناشيد الوطنية ولكن فرحته لم تدم طويلاً،فقد انقطع البث التلفزيوني فجأة تبعه بعد ذلك انقطاع البث الإذاعي، وأصبحنا تائهين لا نعلم شيئاً مما يدور حولنا، وفيما نحن كذلك سمعنا طرقاً على الباب، كان خالي سالم هو الطارق، دخل وصوته يسبقه وقال هو على عتبة الباب:
هل سمعتم الأخبار؟
قلت :
ادخل أولاً.
دخل واجتمعنا حول المذياع الأخرس نحاول أن يعود إلى النطق ولكن دون جدوى.
قال خالي سالم:
لقد ضربت محطتا الإذاعة والتلفزيون وهذا يعني الشيء الكثير.
وجاءت والدتي من أقصى المنزل قائلة لخالي سالم:
هل أنت بخير؟
قال ضاحكاً :
الحمد لله .. اجلسي اسمعي ما حدث لي.
وشرع يحكي:
كنا في أمان في ندوتنا في المعهد الصحي بخور مكسر، وفي حوالي الساعة الحادية عشرة لاحظت خروج بعض الرفاق من أبناء عدن إلى خارج القاعة لكنني لم أشك في الأمر، وظننت أنهم ملوا من المحاضرة،وبعد حوالي نصف ساعة انتهت المحاضرة وخرجت كالمعتاد وركبنا سيارتنا الخاصة التابعة لفرع المعهد الصحي بالمكلا متوجهين إلى كريتر، ونحن لا نعلم شيئاً مما يدور حولنا وما إن وصلنا إلى محطة بترول “شمسان” التي على البحر حتى أوقفنا رجال مسلحون ومنعونا من التوجه إلى حي كريتر بالسيارة،فطلبت من السائق “ عطوان” أن يعود بالسيارة إلى خور مكسر ويضعها في مكان أمين، ويلجأ إلى منزل قريبه الذي يعمل بالمستشفى وعدت إلى كريتر مشياً على الأقدام وما كدت أصل حتى وصلني التلفون منكم.
قلت له:
الحمد لله على كل حال، فوجودك الآن بيننا نعمة كبيرة وإلا لكنا قلقنا عليك.
وكنا حينذاك قد يئسنا من الراديو وقد خيم على الجميع صمت ثقيل كان يقطعه بين آن وآخر لعلعة الرصاص أو دوي مدفعية الدبابات وفجأة شق ذلك الصمت زخة رصاص كثيف انطلق غير بعيد منا، ولعل مصدره مركز الشرطة الذي يقع خلف عمارتنا فصاحت والدتي في ارتياع قائلة:
ياربي ما هذا؟
قلت:
لا تخافي نحن في حي كريتر في أمان، وصوت الرصاص لا يقاس بمدافع الدبابات التي تقصف الآن خور مكسر والتواهي والمعلا وتحصد العديد من المواطنين.
وهدأت والدتي بعض الشيء ولكن الذعر كان ليس بادياً عليها فحسب ولكن بدا على الجميع،وفي المساء أخذت إذاعات العالم تنقل لنا أخبار المعارك التي تدور رحاها في خور مكسر وفي أماكن أخرى، وقد أخذت إذاعة لندن طوال الليل تنقل لنا وتبالغ كعادتها في الأخبار.. مما يشيب له الولدان لتزيد من روعنا وقلقنا، وسرحت الأذهان تتصور حالة النساء والأطفال والشيوخ في كل مدن التواهي والمعلا وخور مكسر وسائر مدن محافظة عدن التي يدور فيها القتال، وفيما نحن كذلك إذا بصوت زوجتي يقطع ذلك الذهول الذي استولي على الجميع قائلة: سوف أتلفن إلى ابنة عمي بالمعلا وأسألها وأطمئن عليها وعلى أولادها ومنها سوف نعرف مايدور عندهم.
وغابت لحظة وعادت لتقول:
الله يكون في عونهم لقد امتلأت شوارع المعلا بالدبابات ومدافعها تطلق النار في كل اتجاه، والحرائق منتشرة والجثث تملأ الشوارع، والناس في بيوتهم مثل الجرذان المذعورة بالمصيدة لايعرفون مصيرهم وقد عرضت عليهم اللجوء إلينا فقالت إنهم لايستطيعون أن يخطوا خطوة واحدة خارج المنزل، فالشوارع وأسطح العمارات ممتلئة بالقناصة، وأنهم سلموا أمرهم لله.
وزادت هذه الأخبار من قلقنا وخوفنا.
هكذا مر النهار وأعصابنا متوترة، وأفكارنا تضج بشتى الاحتمالات.. وخفنا من أن تجتاح تلك الدبابات حي عدن فاندفعنا عند دخول الليل لنحتمي بأوسط غرفة من الشقة، ملتصقين بعضنا ببعض بينما أخذت ساعات الليل تمر بنا بطيئة جداً حتى خيل لنا أنها لن تنتهي أبداً.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.