كما تنحني السنبلةْ كما الصبح، يلقي السلام على وردة ذابلةْ يعود البعيد... البعيد من الذكريات التي لم تزل خضلةْ، أرانا... تلمّ المدارس أقدامنا، وتعلمنا كيف نصغي لصوت المعلم يفرش خارطة يتدافع بين تضاريسها اللون والكلمات، فتهمي على صحونا لجّة الأسئلةْ. يقول لنا: هاهنا يقع "الوطن العربي" مساحة ما بين ماءين يكتنفان حواشي أثوابه الدافئةْ. وإذ ينحني فتميل الرؤوس الصغيرة خلف عصاه يقول المعلم: هنا... في أقاصي التماثل بين المياه وبين السماء التي ترتمي مثل ثوب شفيف ترون "اليمن" (ويكسره الشجو) وقد أصبحت يمنين: هنا اليمن ال... وذي اليمن ال... تدور العيون على محجرين من القلق المتهافت وتملأ أفواهنا غصة قاحلةْ. لماذا، وهذي البلاد امتداد، وذاكرة ويقينْ؟ وكيف سينقسم "العرب العاربةْ" عربين؟ وأين ستبسط "بلقيس" عرش جلالتها؟ ومن أيما موطن في خيالاتنا سوف يؤتى ل"سيف بن ذي يزن" بتواريخه؟ و"امرؤ القيس" في أي ماء قصائده المدعاة تبدى له النسوة العاريات؟ هنا... أم هناك؟ ولكنّ صوت المعلم منهمك بالتفاصيل: وتلك البلاد تمدُّ شواطئها، فتجيء البحار إليها لتغفو قليلاً، ومن ثم تصحو، لتشرب قهوتها وتغادرها وادعةْ. وهذي البلاد مسيل من الضوء والدفء والخضرة الناصعةْ تمر على صحوها تمتمات السماء فيخضرُّ حتى الحجرْ وتزهو بأشجارها واللبان الطريّ ورائحة البُنِّ تملأ خيشوم ما حولها باللذائذ ..... .... والقاتْ... تفزّ قناديل أصواتنا وهي مسكونة بالتوهج: ما القات...؟ أستاذ! أستاذ! ما القات...؟ نبات يلوذ بأوراقه اليمني لكي يتذكر... ثمّ لينسى!! يندّ توزعنا... ووساوسنا ولكن صوت المعلم يسبقنا: لينسى زحام التواريخ تلقي بضاعتها عند أوجاعه الراهنةْ. لينسى ملامح كل الغزاة، وكل الطغاة الذين استبدوا بأيامه الواهنةْ لينسى وجوه بنيه وهم يرحلون إلى كلّ فجّ عميق ولا يرجعون لينسى الخرافة تجثو على بابه وتطارد أحلامه وتفاصيل سحنته... ولباسهْ ... وينسى... السياسةْ. هنا... تتكأكأ ضجتنا حوله فيمسّد قاماتنا بتأمله قلقاً ويلمّ طباشيره وخرائطه تاركاً رجفة للسؤال على غضّ أصواتنا، وفوق الأيادي التي سوف تكتب درس القراءة واجمة وتدلف درس النشيد مشردة، نردد بعد المعلم: "بلاد العرب أوطاني من الشام لبغدان ومن نجد إلى يمن إلى..." ولكنّ رغو السؤال العنيدْ الذي مايزال يقارع آذاننا سوف يكسر إيقاع أصواتنا ليذبل فيها النشيدْ. يرانا المعلم منكسرين، فيهتف: لا... إنها يمن واحدةْ. بلاد... تؤجج حكمتها كلما سقطت نجمة الظن مقرورة. بلاد... بها ساحل البحر أقرب مما تظن النوارسْ بلاد... بها المطر الموسمي إذا ما استفاق فسوف يشاكس كل الدروب، وكل البيوت بطيش انهماراته الباردةْ بلاد... تحطّ الفصول على ذيل أثوابها دفعة واحدةْ ليشتجر البرد والحر، والصحو والغيم، والأمس واليوم وإذ يتعبون، يفيئون نحو "المقيلْ" لتصفو أحاديثهم مثلما العسل "الدوعني" الأصيلْ. يناقل صوت المعلم فيض ابتسامته بين هدئة أعيننا، واكتمال تأملنا، ويضيف: اسمعوا يا صغار! إذا ما كبرتم، وسال الزمان على مهل بين أعماركم فسوف ترون "اليمن" بلاداً "تفيق على فجر يوم صبي" وتستل من بين عتمة هذا الدجى "فجرها المختبي" وتكتب تاريخ وحدتها الأبديةْ. وحين ترون طيور النبوءة تلك عياناّ أضيئوا حناجركم، واصدحوا بالنشيد: "بلاد العرب أوطاني من الشام لبغدان ومن نجد إلى يمن..." ويرفع سبابته: واحد...