اليونايتد يتخطى شيفيلد برباعية وليفربول يسقط امام ايفرتون في ديربي المدينة    الضربة القاضية في الديربي.. نهاية حلم ليفربول والبريميرليغ    لغزٌ يُحير الجميع: جثة مشنوقة في شبكة باص بحضرموت!(صورة)    دعاء الحر الشديد .. ردد 5 كلمات للوقاية من جهنم وتفتح أبواب الفرج    لأول مرة.. زراعة البن في مصر وهكذا جاءت نتيجة التجارب الرسمية    رئيس كاك بنك يبعث برقية عزاء ومواساة لمحافظ لحج اللواء "أحمد عبدالله تركي" بوفاة نجله شايع    اليمن: حرب أم حوار؟ " البيض" يضع خيارًا ثالثًا على الطاولة!    "صدمة في شبوة: مسلحون مجهولون يخطفون رجل أعمال بارز    البحسني يثير الجدل بعد حديثه عن "القائد الحقيقي" لتحرير ساحل حضرموت: هذا ما شاهدته بعيني!    وفاة نجل محافظ لحج: حشود غفيرة تشيع جثمان شائع التركي    عبد المجيد الزنداني.. حضور مبكر في ميادين التعليم    وحدة حماية الأراضي بعدن تُؤكد انفتاحها على جميع المواطنين.. وتدعو للتواصل لتقديم أي شكاوى أو معلومات.    الخطوط الجوية اليمنية تصدر توضيحا هاما    شبوة تتوحد: حلف أبناء القبائل يشرع برامج 2024    إصابة مدني بانفجار لغم حوثي في ميدي غربي حجة    مليشيا الحوثي تختطف 4 من موظفي مكتب النقل بالحديدة    البرق بتريم يحجز بطاقة العبور للمربع بعد فوزه على الاتفاق بالحوطة في البطولة الرمضانية لكرة السلة بحضرموت    شكلوا لجنة دولية لجمع التبرعات    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    24 أبريل.. نصر تاريخي جنوبي متجدد بالمآثر والبطولات    الرياض.. أمين عام الإصلاح يستقبل العزاء في وفاة الشيخ الزنداني    الديوان الملكي السعودي: دخول خادم الحرمين الشريفين مستشفى الملك فيصل لإجراء فحوصات روتينية    يوكوهاما يصل لنهائي دوري أبطال آسيا    رئيس رابطة الليغا يفتح الباب للتوسع العالمي    وزارة الداخلية تعلن الإطاحة بعشرات المتهمين بقضايا جنائية خلال يوم واحد    تحالف حقوقي يوثق 127 انتهاكاً جسيماً بحق الأطفال خلال 21 شهرا والمليشيات تتصدر القائمة    صحيفة مصرية تكشف عن زيارة سرية للارياني إلى إسرائيل    رئيس الاتحادين اليمني والعربي للألعاب المائية يحضر بطولة كأس مصر للسباحة في الإسكندرية    برشلونة يلجأ للقضاء بسبب "الهدف الشبح" في مرمى ريال مدريد    المهرة يواصل مشاركته الناجحة في بطولة المدن الآسيوية للشطرنج بروسيا    الذهب يستقر مع انحسار مخاوف تصاعد الصراع في الشرق الأوسط    تحذير حوثي للأطباء من تسريب أي معلومات عن حالات مرض السرطان في صنعاء    بشرى سارة للمرضى اليمنيين الراغبين في العلاج في الهند.. فتح قسم قنصلي لإنهاء معاناتهم!!    دعاء قضاء الحاجة في نفس اليوم.. ردده بيقين يقضي حوائجك ويفتح الأبواب المغلقة    رشاد العليمي حاقد و"كذّاب" تفوّق على من سبقه ومن سيلحقه    قيادة البعث القومي تعزي الإصلاح في رحيل الشيخ الزنداني وتشيد بأدواره المشهودة    «كاك بنك» فرع شبوة يكرم شركتي العماري وابو سند وأولاده لشراكتهما المتميزة في صرف حوالات كاك حواله    «كاك بنك» يكرم شركة المفلحي للصرافة تقديراً لشراكتها المتميزة في صرف الحوالات الصادرة عبر منتج كاك حوالة    نزوح اكثر من 50 الف اثيوبي بسبب المعارك في شمال البلاد    أعلامي سعودي شهير: رحل الزنداني وترك لنا فتاوى جاهلة واكتشافات علمية ساذجة    كان يدرسهم قبل 40 سنة.. وفاء نادر من معلم مصري لطلابه اليمنيين حينما عرف أنهم يتواجدون في مصر (صور)    الاعاصير والفيضانات والحد من اضرارها!!    صحة غزة: ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 34 ألفا و183    السعودية تضع اشتراطات صارمة للسماح بدخول الحجاج إلى أراضيها هذا العام    مؤسسة دغسان تحمل أربع جهات حكومية بينها الأمن والمخابرات مسؤلية إدخال المبيدات السامة (وثائق)    دعاء مستجاب لكل شيء    من هو الشيخ عبدالمجيد الزنداني.. سيرة ذاتية    مستشار الرئيس الزبيدي: مصفاة نفط خاصة في شبوة مطلبا عادلًا وحقا مشروعا    مع الوثائق عملا بحق الرد    لماذا يشجع معظم اليمنيين فريق (البرشا)؟    الحكومة تطالب بإدانة دولية لجريمة إغراق الحوثيين مناطق سيطرتهم بالمبيدات القاتلة    لحظة يازمن    بعد الهجمة الواسعة.. مسؤول سابق يعلق على عودة الفنان حسين محب إلى صنعاء    المساح واستيقاف الزمن    - عاجل فنان اليمن الكبير ايواب طارش يدخل غرفة العمليات اقرا السبب    وفاة الاديب والكاتب الصحفي محمد المساح    تصحيح التراث الشرعي (24).. ماذا فعلت المذاهب الفقهية وأتباعها؟    وزارة الأوقاف تعلن صدور أول تأشيرة لحجاج اليمن لموسم 1445ه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جولة مع الدكتور أحمد الشريف
حول الطب والتأليف والمراعين ..

قبل أيام قليلة تواصلت مع الزميل الأخ الدكتور أحمد الشريف هاتفياً لأشرح له بعض الأمور المتعلقة بأعراض مرضية تشكو منها زوجتي، فكانت فرصة سانحة لكلينا أن نلتقي عبر الهاتف بعد فترة طويلة من الانقطاع الذي يبرره مشاغل كل منا في محيط عمله.وقد حسبت المسألة أن الدكتور الشريف كان في العيادة حيث المرضى ينتظرونه، فالوقت إذن ملك للمرضى وليس لأي من كان، فلم يدم حديثنا طويلاً، رغم كونه كان شيقاً وممتعاً خلال فترة زمنية قصيرة حسبناها بالثواني وقد أشرت في حديثي إلى أنني أتابع حديثه في صحيفة الجمهورية عن المرضى الذين تعلمنا منهم جميعاً دروساً كثيرة في مجالات متعددة.. وقد أخبرني أنه قد حجز نسخة من كتابه باسمي منذ فترة غير قصيرة وسوف يقوم بإرسالها في الحال.
وجدت الكتاب أنيقاً في شكله، معتدلاً في حجمه وأنيقاً في أوراقه وحروفه، فأغراني ذلك أن أترك مابيدي من كتب لأنني عادة أفتح أكثر من كتاب في وقت واحد، حتى أتغلب على الملل، فأنتقل من كتاب إلى كتاب، لكنني في النهاية أصل إلى نهاية الكتاب وربما أعدت قراءته من جديد.
ولأنني وجدت الكتاب من منظره فعلاً يفتح النفس، فقد فتحته من النصف وبدأت القراءة من هناك، ولما أعجبني ما قرأته فتحته من الربع الأول فزاد إعجابي به، فقلت في نفسي: أنه كتاب جيد أراه يجمع بين الفائدة والتسلية.. إنه كتاب يستحق أن أترك مافي يدي وأوثره بالقراءة قبل غيره، فبدأت القراءة من أول صفحة حتى بلغت الصفحة رقم مائة، حينذاك قررت أن أقطع القراءة بصورة مؤقتة لأعود إليها بعد أن أفرغ من كتابة هذه الصفحات التي لايجب أن تنتظر حتى يخبو الحماس الذي أجده يتأجج الآن إعجاباً بالكتاب.
علاقتي بالدكتور أحمد الشريف علاقة حميمة جداً منذ حقبة السبعينيات حيث كنت يوم ذاك أشارك في إدارة مستشفى الثورة العام.. حيث كان الدكتور محمد عبدالودود هو المدير العام وكنت نائباً له وكنت أيضاً المدير الفني للمستشفى ورئيس قسم الأطفال.. وكنت أتمنى يوم ذاك أن استطيع إقناع الدكتور أحمد الشريف أن يتحول إلى طبيب أطفال ويمسك رئاسة القسم.
لكنه لم يفعل، فقد كانت له ميوله الخاصة عن وعي وفهم وقناعة.
مازلت حتى اليوم لا أنظر لنفسي بعين الرضا بسبب قبولي مناصب إدارية في مواقع متعددة سواء في مستشفى الثورة أو مكتب الشئون الصحية أو غيرها من المواقع، فلماذا يدرس الواحد منا الطب ويذهب بعيداً للتخصص والحصول على معلومات وخبرات طبية، تم لاتجد الإدارة الطبية مكاناً مناسباً لمثل هذه الكفاءات والقدرات سوى أن تضعه مديراً هنا أو هناك مستغلة بذلك سذاجة وطيش شبابه أو غروره في أنه قد أعتلى منصباً يميزه عن زملائه الذين هم في الحقيقة يحسدون على أنهم يقدمون للمرضى ماقد اكتسبوه من معارف طبية وخبرة فنية، أما الطبيب في المواقع الإدارية فماذا يقدم؟ ومع ذلك فإنه يجد من يحسده ويناكفه ومن يتطلع لاقتلاعه من مكانه لكي يحل مكانه.. وكم أتمنى اليوم أن يكون الوقت قد حال لوزارة الصحة أن تعد طاقماً متكاملاً من الإداريين المتخصصين في إدارة المستشفيات، من أولئك الذين مشهود لهم بالذكاء والفطنة والأمانة والإخلاص والأخلاق العالية وليس من أولئك العاطلين الفارغين الذين لايؤتمنون على تنظيم العمل في أي موقع من مواقع الصحة مهما كان ضئيلاً وخافتاً.
أذكر أنني سعدت كثيراً أن يجمعني بالدكتور أحمد الشريف أكثر من موقع عمل كانت هناك نخبة طيبة من الأطباء وغير الأطباء جمعهم العمل الخيري في صعيد واحد منهم: الدكتور محمد عبدالودود والدكتور عبدالقادر الجنيد والدكتور أحمد الشريف والحاج عبدالله عبده سعيد، وغيرهم نخبة سبقت عصرها في توفير خدمات طبية نوعية متميزة في مستشفى الثورة العام، تحت تسمية جمعية تحسين الصحة، وهناك مواقع أخرى جمعتني بالدكتور الشريف وقد أعتاد الدكتور الشريف أن يترك لزملائه قبل مغادرته لهم قبساً أو شعاعاً من شخصيته يجدونه قد تسلل إلى نفوسهم، لايكون من السهل التخلص من مجال جاذبيته.
هذا الكتاب: "المرضى الذين علموني" يفتح للقارئ نوافذ جديدة يتعرف منها على الجوانب الأدبية في شخصية الدكتور الشريف.
ولقد كنت أعلم أن الدكتور الشريف يمارس مهنة الطب عن رغبة وهواية وشغف، لذلك فهو دائم الاطلاع، ساعده في ذلك ذاكرة متألقة وذكاء فطري وشخصية متوازنة.
فلا عجب إذا وجدناه يتذكر اسم مريضة عرف موضوعها وقصة مرضها منذ ثلاث سنوات خلت، يتذكر قصتها بالتفصيل ويرويها للأستاذ في أنه قد أجريت لها عملية في البنكرياس وأنها كذا وكذا.. أنني أعلم مثلما يعلم الدكتور أحمد الشريف أنه لولا تلك الذاكرة التي أتاحت للأستاذ الذي أنصت باهتمام بطبيب مبتدىء أقتحم عليه سدة حكمه وجبروته وسلطانه بدون تقديم أوراق اعتماده مسبوقة بالأذن للحديث ومشفوعة بالرجاء والتوسل بالسماح بتحريك اللسان للنطق أمام سيادته..
لولا تلك الذاكرة المتميزة والمثيرة للإعجاب لوجد الأستاذ رئيس القسم مسوغاً أن يُحرم على المتحدث دخول المستشفى وربما سعى أيضاً أن يُرحل في أقرب وقت ممكن من البلاد، فأنا أعلم أن سلطة الأستاذ رئيس القسم تقارب سلطة رئيس الجمهورية.
حدث ذات مرة في جامعة الإسكندرية،حيث درست علوم الطب هناك أن طبيباً مبتدئياً،صادف وجوده في طريق الأستاذ رئيس القسم فكان خطأه أن تجرأ أن يحي رئيس القسم وهو رافعاً يده بتحية عسكرية قائلاً: بثقة وانتفاخ أوداج:صباح الخير يا دكتور:
التفت الأستاذ في اتجاه الطبيب وعلامات الاشمئزاز والقرف تنطق بها ملامحه، مسلطاً عليه شواظاً من نار في نظرات قاسية مؤنباً له بعبارات الاستنكار والاستهجان:
قال: نعم ؟ نعم يا خويا؟
أنت مين يا له؟
تفتكر نفسك كنت صاحبي؟
كنا نلعب كوتشينة سوا؟
ثم أطلق صرخة قذيفة صوتية هائلة:" أطلع برع ياكلب!!!
على أن هذا القدر من الشدة والقسوة قد أعطى انضباطاً لا مثيل له في المستشفيات المصرية..هناك احترام كبير للطبيب الكفء والأقدم فالأقدم .. هناك تقديس للكفاءات والقدرات حسب مواهب الأطباء وخبرتهم وتخصصاتهم هناك في المستشفيات المصرية الأستاذ أستاذ حجماً ووزناً وموقفاً وكفاءة فلا يضيرنا أن نجد الأستاذ على هذا القدر من الصرامة بحيث يحافظ كل الذين بعده على مقاماتهم ومواقعهم الأكاديمية والوظيفية كانت أحلامنا تراودنا أن تصل إلى درجة الأستاذية لأننا لم نكن نعرف شيئاً عن ظروف بلادنا ولما عدنا إليها وجدنا أطباء لايحملون أي مؤهل سوى تلك الورقة التي حصلوا عليها مفادها أن فلان الفلاني قد أعطى له "إجازة" في ممارسة مهنة الطب في بلاده فقط لا يجوز له أن يتجاوزها إلى بلدان أخرى ..
وقد ظل هذا الوضع الشاذ للأطباء الوافدين من تلك البلدان يدغر صدورهم بشتى أنواع الانفعالات ضد زملائهم الذين يحملون درجات طبية من البلدان التي لاتتهاون في مسألة المؤهل الدراسي، بحيث لا يقل هذا المؤهل عن الثانوية العامة وليس الابتدائي أو الإعدادي.. وبسبب المستويات الضعيفة لبعض الأطباء وشعورهم بمركب النقص أخذوا على عاتقهم الترويج إلى أنه لا يوجد فرق في المستوى العلمي بين طبيب وآخر.. فكلنا أولاد تسعة ومادام الأمر كذلك ففهمنا واحد ولا يوجد مستوى ضعيف ومستوى آخر أعلى منه والدليل على ذلك هو أننا جميعاً أولاد " تسعة" وقد ساد هذا المنطق الساحة الطبية فترة طويلة تحدث الدكتور عن العلقة الطبية وعن كيفية معالجتها في تلك الأيام!
وقد تمنيت لو شاركت المعالجين في التخلص منها بسبب الخبرة الكبيرة التي لا يملكها أحد غيري إلاَّ القليلين من أساطنة الطب في العالم فأنا من أولئك القلة من الناس الذين يمكنهم تقديم استشارة ناجحة في هذا الخصوص، فقد تلقيت خبرة عميقة في طب العلقات والتخلص منها،وكانت المشرفة على إعطائي هذه الخبرة العميقة هي جدتي مريم يرحمها الله ويسكنها فسيح جناته.
فقد بقيتُ زمناً طويلاً والألم الشديد لا يبرح حنجرتي عندما كان عمري تسع سنوات وربما أقل من ذلك فأنا مازلت أذكر العلقة وأذكر الألم وأذكر أن أهل القرية جميعاً قد فشلوا في معالجتي رغم أنهم قد شرطوا لابن علوان قارورة سمن وشرطوا لأولياء كثيرين السمن والشمع والبيض والوزف، لكنهم لم يفعلوا شيئاً حتى جاءت جدتي ومنعتني من شرب الماء ثلاثة أيام سوياً، وفي اليوم الرابع جاءت بالماء ولكن ليس لأشربه وإنما فقط لأفتح فمي فوق الوعاء دون أن يسمح لي بقطرة واحدة وقد كانت الدهشة الكبيرة والفرحة العظمى عندما وجدت العلقة في إحدى فتحات الأنف تسعى سعياً حثيثاً للوصول إلى إناء الماء، فما أن أحسست بها حتى استعجلت الأمر ومددت أصبعين نحيلتين نحو جسم العلقة فسحبتها بشدة وغيظ، والدنيا لاتسعني من شدة الفرح لخروج هذا الكائن المزعج الذي أستوطن حنجرتي فترة طويلة بدم بارد بعدوانية لا مثيل لها تفوق عدوانية اليهود الذين يستوطنون أرضاً غير أرضهم فلا يبقى شيء في هذه الأرض التي يستوطنونها بصورة مستمرة إلاَّ وامتصوا دماءه واستأثروا بخبراته.. فأين لنا بحكيم مثل جدتي مريم يرسم للأمة خططا ناجحة في اقتلاع العلقات اليهودية التي استأثرت بالأرض وامتصت الخيرات وأثخنت الإنسان بالجراح ولم تترك سبباً من أسباب القهر والتنكيل بالإنسان الفلسطيني إلاَّ مارسته.
لم يكن بالإمكان التعرف على شخصية الدكتور أحمد الشريف بهذا القدر من العمق إلا من خلال قراءة أفكاره، ولم يكن بالإمكان التعرف على أسلوبه وطريقته في التعامل مع مرضاه سوى من خلال هذا العرض الشيق للكيفية التي يتم بها التغلب على الصعوبات التي تواجه عادة الطبيب، فيكون من أمر هذه الصعوبات في بعض الأحيان أن توصل الطبيب إلى حافة اليأس، وربما قد يكره الاستمرار في مزاولة المهنة أو ينشأ عنده رد فعل يجعله كما يقولون "يغش غله" في المريض، فيغلق أمام نفسه فرص النجاح، لأن الطب ليس فقط سمعة وفحص حكمي أو أكلينكي وأجهزة وفحوصات مخبرية، وإنما الطب أهم من ذلك كله، أخلاق وبشاشة وعطف وإحسان.. وقد نجح الدكتور الشريف في أن يجعلنا نميل إلى طريقته في التعامل مع المريض في كثير من المواقف، والكلام موجه للأبناء من الأطباء الجدد الذين هم في حاجة لأن يتعلموا فن مخاطبة المريض وأسلوب التعامل معه، أما القدامى من الأطباء من أمثال فقد كان لهم أسلوبهم الذي مضى مع دقائق أعمارهم فلم يبق لهم سوى الذكرى الحسنة إن كانوا قد أحسنوا إلى أنفسهم من خلال إحسانهم لمرضاهم أو الذكرى السيئة إن كانوا قد خرجوا في واجباتهم، خصوصاً أولئك الذين لم يلتزموا بأخلاقيات المهنة وأدبها قال الله تعالى في كتابه العزيز: "تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم، ولا تسألون عما كانوا يعملون".
هناك قلة قليلة من الأطباء يمارسون مهنة الطب على ضوء معارفهم التي حصلوا عليها من كليات الطب في البلدان التي تخرجوا منها واكتسبوا خبرة من المرضى في المستشفيات وعيادتهم الخاصة فاستمر نجمهم يلمع أو يسطع تدريجياً حتى وصلوا إلى مستوى من الخبرة في إعادة العلمية والجوانب الأخلاقية ما جعلهم موضع تقدير واحترام الكثيرين من مختلف الفئات والمستويات ولا أريد هنا أن أشير إلى أسماء الأطباء الممتازين حتى لا أجد نفسي في موقع حرج إذا سقط اسم أحدهم سهواً حتى وإن كانوا ليسوا بالكثرة التي يتعذر عليَّ إحصائهم عداً.
لكنني لا استطيع إغفال ذكر الدكتور أحمد الشريف، لأن الحديث هنا يدور حول كتابة الذي يتحدث عن أسلوبه في التعامل مع مرضاه فهو بدون أدنى شك يمثل أحد أفراد النخبة الممتازة من الأطباء حتى وإذ لم يكن هناك طنين أو عجيج حول قدراته وكفاءته، فهو واحد من أولئك الأطباء الممتازين الذين لا يعتمدون على الترويج المزيف لبضاعتهم بل يتركون الأمر للمريض نفسه الذي عادة ما ينقل عن طبيبه كل ما يستحقه الطبيب من تقدير وإعجاب، حتى وإن كان من المرضى من لا يعجبه العجب.
سأل أحد المحاضرين جماعة الحضور الذين كانوا ينصتون باهتمام لماذا نأكل بيض الدجاج ولا نأكل بيض البط، مع أنه قد يكون أفضل منه؟ فتعددت الإجابات، ولكن المحاضر قال: نحن نأكل بيض الدجاج لأن الدجاجة عندما تبيض تصيح وتجعل الكل يعرف أنها وضعت بيضة، بينما البطة تضع بيضها بهدوء دون أن يعلم عنها أحد، فأقبل الناس على أكل بيض الدجاجة دون البطة لأنها أعلنت عنها بصياحها.
إن مهنة الطب ليست مهنة سهلة وإنما هي محفوفة بكل أنواع المخاطر والتحديات ولا يليق بمن لا يملك صفات الطبيب الناجح من حيث العلم والسلوك.. أن يخاطر في أن يتقدم "لخطبة" مهنة الطب، كما لو كانت فتاة بهية الطلعة عظيمة الجاه، دون أن تؤهله لهذه الخطية، صفات نفسية وشخصية مدعومة بتربية متوازنة وأخلاق عالية، جعلته في سبيل الحصول على بغيته أن يسهر الليالي ويواصل ليله مع نهاره في كد وجد، حتى لا يجد نفسه أقل شأناً من خطيبته التي إن رأته لا يستحقها تركته للجهل والفشل، ليس له من علاقة في مهنة الطب سوى فتح أبواب شقة في عمارة، يسميها "العيادة" مقابل أن يستعين بمن هم على شاكلته في جلب المرضى له من كل مكان وفي نهاية المهزلة " وقت العيادة" يتقاسم معهم المال حسب عدد الرؤوس...!!
لم أصل حتى الآن إلى نهاية الكتابة، لكن إعجاب الشديد بالأسلوب الذي تعامل به المؤلف مع الحكايات التى رواها لنا جعلني أتوق لمعرفة الحكاية التالية، بينما أكون لازلت في منتصف الحكاية الأول..
فهناك لاشك صدق في العبارة وإلاَّ ما كنت وصلت بهذه القوة بحيث تتأثر بها ونرفع شأن صاحبها المكانة التي يستحقها سئل ونستون تشرشل: ما سر البلاغة في القول؟.
فأجاب: إن تحقيق البلاغة في القول يعتمد أساساً على إيمانك بما تقول، إنَّ صدق القول يعني أن لا تتحدث بما لا تؤمن به، فمن لا يستطيع إقناع نفسه بما لديه فكيف يستطيع إقناع الآخرين.
وفي ذلك يقول سيد قطب رحمه الله: آمن أنت أولاً بفكرتك، آمن بها إلى حد الاعتقاد الجاد.. عندئذ فقط يؤمن بها الآخرون، وإلا فستبقى مجرد صياغة لقطية خالية من الروح والحياة.
فلا غرابة إذن ولا عجب في أن يكون لكتاب الدكتور الشريف هذا الأثر كله في نفوسنا، لأنه استطاع أن ينقل إلينا نبضات قلبه ودفقات مشاعره فكان لا بد لهذا التأثير أن يبلغ في نفوسنا وقلوبنا نفس الأعمق التي خرجت منها النبضات أو تدفقت منها المشاعر.
وما أحب كتاب الدكتور الشريف إلا أنه من الأسفار التي ستجد لها مكاناً في وعي الأمة، فما أشد حاجتنا أن نجد المكتبة اليمنية بين كل آونة وأخرى كتاباً ينبض بالحياة والحيوية على النحو الذي يمكن الاستفادة منه، ليس فقط بين فئات الأطباء والمساعدين الطبيين، بل أيضاً بين عموم الفئات المختلفة التي يمكنه الاستفادة من الكتاب في التعرف على الصعوبات التي يواجهها الأطباء والصعوبات التي يواجهها المريض وأقارب المريض في التعامل مع الأطباء بسبب الاعتقادات الخاطئة حول الطب والأطباء وكل ما يتعلق بمهنة الطب.
إضافة إلى المتعة الفنية التي يمكن أن يحصل عليه القارىء من خلال الأسلوب السهل الذي استخدمه الدكتور الشريف في سرده للحكايات التي صادفته، وهي حكايات جميلة، شيقة ضمنها الكاتب قدراً كبيراً من الصدق والعفوية الراقية في التعبير.
أرجو أن يكون حظ الدكتور أحمد الشريف أفضل من حظي في مجال الكتابة والتأليف، وأنا على يقين من ذلك، فانفتاح الدكتور أحمد الشريف على الدنيا وعلى المجتمع ليس فقط من خلال عيادة طبية ناجحة وإنما أيضاً من خلال علاقات اجتماعية لا تقل تألقاً وازدهاراً.
أما كاتب هذه السطور فقد أغلق عيادته منذ أكثر من عشر سنوات، ليس عن فشل فقد كانت العيادة في أوج نشاطها ورواج سمعتها لدى طائفة كبيرة من أفراد المجتمع حتى جاء الربو واستمرار الضيق في التنفس بسبب التعامل مع الأطفال الذين لا يكفون عن الصراخ، خصوصاً عندما يحاول الطبيب فحص الحلق والحنجرة، فإنه يهدى إليه كمية هائلة من الرذاذ المتطاير، بالإضافة إلى الروائح القوية التي يحملها المرافقون فوق أجسامهم وملابسهم، كما أن عوادم السيارات والدراجات النارية وروائح الأزقة المتعفنة وغير ذلك من المنغصات، كلها أمور جعلتني اتخذ القرار الصعب في التخلي عن مهنة الطب الذي كانت العيادة هي المحطة الأخيرة لوضع حد لمهنة الطب التي قضيت سنوات طويلة مضنية ومرهقة من أجل الإعداد للوصول إليها في مشوار طويل بدايته كانت في مصر ثم انتهى المشوار الدراسي في المملكة المتحدة "بريطانية" وإذا كانت أندم على شيء في حياتي العملية، فإنني أندم على قبول أن استسلم لإرادة الآخرين ليضعوني مديراً تارة هنا وتارة هناك وكان جدير بي أن أرفض كل تلك العروض وأتفرغ تفرغاً كاملاً للمهنة التي أمضيت جل عمري في الإعداد لها من أجل أن أكون طبيباً ناجحاً وقد كنت كذلك لولا المشاغل الإدارية في مواقع متعددة ومتنوعة.
ولكي أملأ الفراغ الذي تركه في ذهني عدم تفرغي لممارسة مهنة الطب فقد وجدت نفسي مشدوداً للكتابة، كنت وما أزال أجد متعة كبيرة في القراءة والكتابة، فسرت في هذا الاتجاه وكنت أظن أن الرواية الأولى "الراعية والحنش" سوف يكون لها صدى كبير وإقبال على اقتنائها فكلفني طبعها في القاهرة كل ما كان في حوزتي من نقود..
ولأنني لا أملك قيمة الدعاية لها فقد تركتها دون أن يعلم الناس عنها شيئاً، ثم دفعني حبي للقراءة والتأليف أن أكتب رواية أخرى من جزئين اسمها "مدينة الرهائن" لكنها أيضاً لم تجد من يبشر بها وكانت الثالثة: ملكات الحقول وهناك الكثير من هذه الروايات.
كنت أقرأ لبعض الكتاب والأدباء، وأشعر بالعجب كيف أنهم يزعمون أن نتاجهم الفكري أو الأدبي،القصصي أو الروائي أو ما شئت من تلك الجهود الفكرية والأدبية يعتبرونه بمثابة "الولد" يحبونه مثل محبتهم لأبنائهم ويحافظون عليه كما لو كان أعز ولد أو على الأقل أعز صديق وعندما وجدت أن هناك أكثر من رواية قمت بالإعداد لتأليفها ومراجعتها ومتابعة طبعها حتى كلَّ ساعدي ونضبت مواردي، فلم استطع مواصلة الاهتمام بها، فكان لابد لها أن تقبع في مكانها، ملقية على كاهلي بأثقال همها والحسرة على أفكار حبست من غير ذنب اقترفته وحددت إقامتها الجبرية في انتظار شاعر مثل الحطيئة الذي استطاع الخروج من السجن بسبب أولاد له زغب الحواصل لا ماء ولا شجر...
فقد بدأت قصة الحطيئة مع السجن بسبب هجاء مقذع أصاب به الزبرقان ومنها قوله:
ودع المكارم لا ترحل لبغيتها
واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
سُجن الحطيئة بسبب هجائه المقذع، فأخذ يفكر بأبنائه ،من لهم من بعده؟كيف يستطيع أن يعولهم وهو قابع في السجن فأخذ يناشد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب أن يفرج عنه إكراماً لأطفال زغب الحواصل، عبر عن ذلك بشعر جميل فيه الرقة والعذوبة وحسن الطلب:
ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ
زغب الحواصل لا ماء ولا شجر
ألقيت كاسيهم في قعر مظلمة
فاغفر عليك سلام الله ياعمر
أنت الإمام الذي من بعد صاحبه
ألقى إليك مقاليد النهى البشر
بكى سيدنا عمر حين قال:ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ..فقال عمرو بن العاص:ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أعدل من رجل يبكي على تركه الحطيئة...والقصة طويلة انتهت بالإفراج عن الحطيئة من أجل أفراخ زغب الحواصل، فكم هناك في عصرنا هذا من فراخ زغب الحواصل قد لقى آباؤهم جزاءً يستحقونه وربما لا يستحقونه ، لم يجدوا من ينصفهم إذا كانوا مظلومين أو من يعتني بأبنائهم، فيكون الحال أن يتشرد الأبناء وتكثر الآلام وتزيد المفاسد وكلما تذكرت ذلك هانت عليّ مسألتي، فماذا يساوي سجن أوراق مقارنة بما هو عليه حال الناس في السجون أو حال أبنائهم خارج السجون فسلمت الأمر لله، كما يفعل أولئك المقهورون أو المغلوبون على أمرهم عندما يجدون النوافذ كلها مغلقة أمام رغبة الإنسان في توصيل خير المعرفة والثقافة للآخرين حتى بدون أجر إن هم أرادوا ذلك!!
مازلت الآن في المائة الأولى من الكتاب أي أنني لم أنته من قراءته بعد. ولأنني كنت حريصاً منذ البداية أن أتناول موضوع "المراعين" كما ورد في كتاب الدكتور الشريف بحيث أضيف إليه شائعات كثيرة وأحاديث متنوعة ومتعددة فقد رأيت أن أتناول هذه القضية بتوسع أعمق ومعان أبعد تضيف إلى ما ورد في الكتاب إضافات من التاريخ ومن التراث.
فقد أورد الإمام ابن القيم الجوزية في كتابه "مدارج السالكين" حديثاً شيقاً ممتعاً من الطبائع البشرية...حديثاً يستحق أن نقف عنده للتأمل والتفكر وإعادة النظر في معلوماتنا عن الإنسان وعن طبائع البشر.
يقول الإمام ابن القيم الجوزية: فمشهد الجهال، الذين لا فرق بينهم وبين سائر الحيوان، إلا في اعتدال القامة ونطق اللسان.
ليس همهم إلا مجرد نيل الشهوة بأي طريق أفضت إليها،فهؤلاء نفوسهم نفوس حيوانية، لم تترق عنها إلى درجة الإنسانية، فضلاً عن درجة الملائكة، فهؤلاء حالهم أخس من أن تذكر وهم في أحوالهم متفاوتون بحسب تفاوت الحيوانات التي هم على أخلاقها وطباعها.
فمنهم: (من نفسه كلبية) لو صادف جيفة تشبع ألف كلب لوقع عليها وحماها من سائر الكلاب ونبح كل كلب يدنو منها.
ومنهم :( من نفسه حمارية)لم تخلق إلا للكد والعلف
ومنهم: (من نفسه سبعية غضبية): همته العدوان على الناس وقهرهم بما وصلت إليه قدرته.
ومنهم :( من نفسه فأرية) : فاسق بطبعه،مفسد لما جاوره.
ومنهم : (من نفسه على نفوس ذوات السموم والحمات) كالحية والعقرب وغيرهما وهذا الضرب هو الذي يؤذي بعينه (المراع) يدخل الرجل القبر والجمل القدر والعين وحدها لم تفعل شيئاً، وإنما النفس الخبيثة السُمية تكيفت بكيفية غضبية، مع شدة حسد وإعجاب، وقابلت المعين على غرة منه وغفلة وهو أعزل من سلاحه فلدغته كالحية التي تنظر إلى موضع مكشوف من بدن الإنسان فتنهشه.
فإما عطب وإما أذى ولهذا لا يتوقف أذى العائن(المراع) على الرؤية والمشاهدة، بل إذا وصف له الشيء الغائب عنه وصل إليه أذاه والذنب لجهل المعين(الممروع)وغفلته وغرته عن حمل سلاحه كل وقت(القصد:سلاح الإيمان والأدعية والأذكار والتعوذات).
فالعائن (المراع) لا يؤثر في شاكي السلاح، كالحية إذا قابلت درعاً سابغاً على جميع البدن ليس فيه موضع مكشوف، فإنها لا تستطيع فعل شيء.
مزيد من التوضيح لهذا الأمر، يقول ابن القيم : فاعلم أن اللدغة تكون من ذوات الحمات والسموم وهي ذوات الأنفس الخبيثة التي تتكيف بكيفية غضبية، تثير فيها سمية نارية، يحصل بها اللدغ، وهي متفاوتة بحسب تفاوت خبث تلك النفوس وقوتها وكيفيتها، فإذا تكيفت أنفسها الخبيثة بتلك الكيفية الغضبية أحدث لها ذلك طبيعة سمية، تجد راحة ولذة في إلقائها إلى المحل القابل، كما يجد الشرير من الناس راحة ولذة في إيصال شره إلى من يوصله إليه، وكثير من الناس لا يهنأ له عيش في يوم لا يؤذي فيه أحداً من بين جنسه ،ويجد في نفسه تأذياً بحمل تلك السمية والشر الذي فيه حتى يفرغه في غيره، فيبرد عند ذلك أنينه وتسكن نفسه ويصيبه في ذلك ما يصيب من اشتدت شهوته إلى الجماع فيسوء خلقه وتثقل نفسه حتى يقضي وطره هذا في قوة الشهوة وذاك في قوة الغضب.!!!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.