لطبيب عندما يلزم نفسه أن يكون طبيباً ملتزماً بأخلاقيات المهنة وآدابها وسلوكياتها فهو ذلك الطبيب الذي يجب أن يجد لدى المجتمع الحب والتكريم والتقدير، فلابد أن يعلم الناس أن دراسة الطب ليست سهلة، والقدرة على استيعاب العلوم الطبية ليست بالأمر الهين، وإذا لم يجد الطبيب المناخ المناسب الذي يهيئ له مواصلة القراءة والاطلاع بصورة مستمرة، بحيث تعيش المعلومات والمعارف الطبية في حالة نشطة ومتجددة تنبض بالحياة تتدفق من عقله وذاكرته عندما يستدعيها كما يتدفق النبع الغزير من عيون رقراقة لاينضب لها معين..وهذا لايتأتى إلاَّ بمجاهدة النفس بمواصلة القراءة على حساب راحة الطبيب وعلى حساب أوقات نومه وعيادته وعلاقاته الأسرية. نصحني أحد الأطباء في بداية حياتي العملية كطبيب نصيحة عجيبة وغريبة يرحمه الله ويعفو عنه فقد ترك عالمنا إلى عالم البقاء وأحمد الله حمداً كثيراً أنني خالفت نصيحته وعملت عكسها تماماً، فقد كنت وماأزال لا أستطيع مقاومة الرغبة في القراءة والاطلاع، ليس فقط في العلوم الطبية وإنما في كل أنواع القراءة طبية وغير طبية.قال - رحمه الله -: لاتتعب نفسك بالقراءة ولاتجهد عقلك في المسائل الطبية لأن ذلك لن يفيدك بشيء!! فالمريض سوف يأتى إلى العيادة يشكو من أوجاع في البطن أو الظهر والرقبة والرأس أو في الحلق والحنجرة أو الأطراف العلوية أو السفلية..حاول أن تتظاهر أنك تبحث عن أسباب مرضه لكي ترضيه نفسياً أما العلاجات فاحفظها أو قال خذها مني كما سأمليها لك أو عليك: مضادات حيوية، مضادات للمغص..مضادات للأوجاع ومضادات للديدان.وكفى الله المؤمنين القتال، وتأكد أنك ستكون أنجح طبيب في اليمن لو سمعت نصيحتي..ولن يكلفك ذلك عناء التفكير ولا عناء السهر بين دفات الكتب ومن ناحية ثانية سوف تجعل المرضى يفدون إلى عيادتك زرافات ووحدانا..سألته: وماذا عن التشخيص؟ قال: لن تكون بحاجة إليه قلت: كيف؟ قال: مادامت الروشتة قد جمعت فيها العلاجات التي تغطي كل مايدعيه المريض من أعراض فما حاجتك للتشخيص؟ قلت له: ولكن العلاجات نفسها لها جوانب سلبية ضارة وقد تودي بحياة المريض.. قال: اسمع نصيحتي وسوف ترى!! قلت له: مستحيل أن تكون جاداً فأنت تمزح بكل تأكيد وقلت له: أنصحك أن لاتحمل نفسك فوق طاقتها من الآثام والأوزار فما تقوله يتعارض مع القسم الذي أقسمته عند تخرجك..قال: لم نقسم بشيء فقد كانت جامعة «لومومبا» أرحم بنا من جامعاتكم..قلت له: وأين هذه جامعة لومومبا قال: هي في البلاد التي درسنا فيها الطب «....».قلت له:وأين الله؟؟ وأين رسالة الطبيب؟ وهل ترضى لنفسك أو أحد أبنائك أو أحد أفراد أسرتك أن يجدوا طبيباً يعاملهم بنفس الطريقة التي تعامل بها الآخرين الذين منحوك ثقتهم؟قال بغيظ وحنق: أنت تضيق المسائل بأكثر مما تستحق ويتملكك الزهو ويسيطر عليك الغرور فيما عندك من معارف طبية، معتمداً على سمعة الجامعة التي تخرجت منها وسمعة البلاد التي درست فيها.. قلت له: الأفضل أن نتوقف حتى لانتشاجر.. وتمضي الأيام بنا مسرعة وتمتلئ عيادته بالمرضى الوافدين من القرى ويدخل المختبر إلى عيادته وتدخل الكشافة السينية والموجات فوق الصوتية وجهاز رسم القلب ورسم الدماغ ويتحرك السوق ويقتدي به كل الذين قدم لهم النصح وكانت عيادتي مكتظة بالكتب الطبية وغير الطبية.. أما المرضى فلم يبق سوى القليلين الذين قدروا أن الطب ليس روشتات مكتظة بالعلاجات وإنما هو دقة في التشخيص وأمانة في النصح وشعور بالمسئولية تجاه حياة المريض. كانت المستشفيات الحكومية تحاول النهوض من كبوتها أو غفلتها وكانت هناك محاولات جادة ومخلصة في تحسين الخدمات الطبية والتمريضية وتحسين بيئة المرضى الراقدين في المستشفى ابتداءً من السرير والبطانيات والملايات والوسادات ثم نظافة الأرضيات والحمامات بصورة متواصلة ودائمة وانتهاء بعناية أمينة ومخلصة من جانب الأطباء والممرضين والمساعدين الطبيين..كان ذلك قبل ظهور الحزبية القبيحة في مستشفياتنا..قبل أن توجد تغطية حزبية للفاشلين من المديرين والمساعدين وأطباء «الترسو» الذين حولوا المستشفيات إلى مراكز «تحويل» للمرضى إلى عياداتهم الخاصة.. في تلك الأيام لم يكن قد وجد الطبيب الذي يضع شروطاً مجحفة للمريض أن يدفع له أتعاباً إضافية مقابل العملية الجراحية التي سيجريها له وأتعاباً إضافية مقابل زيارة الطبيب للمريض في سريره..وفي تلك الآونة لم يكن قد وجد المدير الذي يدير ظهره لواجباته ومسئولياته في المستشفى لكي يتفرغ لمسائل حزبية لا علاقة لها بهموم المستشفى ولا بالنهوض بالخدمات الطبية ولايعرف شيئاً عن حقيقة مايجرى في أي موقع من مواقع مسئولياته، وليس الأمر مقصوراً على محافظة تعز أو على مستشفى بعينه في المحافظة وإنما نحن نتحدث عن «صحة مريضة» يعاني من شدة مرضها المواطن اليمني في كل ربوع بلادنا.. وأتساءل ونحن في نهاية العقد الأول من القرن الواحد والعشرين كم يوجد مستشفى حكومي في غير العاصمة صنعاء يستطيع أن يستقبل «للرقود» مدير المستشفى أو أحد أفراد عائلته كمرضى يجدون الرعاية الطبية والتمريضية في أي قسم من أقسام المستشفى ويجدون الغرفة النظيفة والسرير المهندم ويجدون الوجه البشوش والملامح غير المتجهمة، وهل يجرؤ أياً كان من هؤلاء المديرين والموظفين المميزين أن يسمح لنفسه أو أحد أقاربه الرقود بين المرضى في أي قسم من أقسام مستشفياتنا العليلة؟ وباختصار: هل أستطيع أنا مثلاً أو رئيس تحرير صحيفة الجمهورية أو مدير عام مكتب الشئون الصحية أو مدير عام مستشفى الثورة أو الجمهوري أو العسكري أو ماشئت من أمثالنا أن ننزل كمرضى «لاقدر الله» في أحد مستشفياتنا الحكومية؟؟أسأل الله العظيم أن لايوقعنا في مثل هذه التجربة القاسية والمرة والكئيبة.آمينولا أريد أن أقلل من الجهود التي يبذلها مديرو المستشفيات الحكومية لتحسين الأداء وتجميل الصورة وترقيع الثوب القديم والمهلهل للصحة في مستشفياتنا تأتي في مقدمة هؤلاء الدكتورة أروى بهران مديرة المستشفى الجمهوري التي لم يمض على تسلمها إدارة المستشفى سوى بضعة شهور، لكنها استطاعت أن تثبت خلال فترة وجيزة أنها تستحق التقدير والاحترام والاعجاب الشديد على قدرتها الفائقة في مواجهة الصعوبات والتحديات التي وجدت نفسها وجهاً لوجه أمامها، فواجهتها بمهنية عالية وإخلاص منقطع النظير..لذلك فإنني من هنا من منبر «الجمهورية» أهيب بالأخ الأستاذ الدكتور عبدالكريم راصع، وزير الصحة والأخ الشيخ حمود الصوفي، محافظ تعز والأخ الدكتور عبدالناصر الكباب، مدير عام مكتب الشئون الصحية أن يقفوا موقف الداعم للدكتورة أروى بهران بكل وسائل الدعم المادي والمعنوي حتى تستطيع من خلال هذا الدعم مواجهة عناصر الهدم من داخل المستشفى وخارجه، ثم نحن لانستطيع إثبات جدارتنا المهنية وإثبات درجة عالية من النضوج إذا لم نعمل على تنمية الاعتبارات الشخصية غير الحميمة إذا وجدت بيننا وبين من نختلف معهم في الرأي أو الأداء.