يقول الله عزوجل في سورة التوبة {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله}إن تقديس وتعظيم الأشخاص داء خطير وآفة فتاكة أصابت الأمم السابقة بمقتل فذمها القرآن....لكنها تسربت إلى الأمة منذ بداية عصور الانحطاط بداية بتغييب مبدأ الشورى والقول بأنها معلمة وليست ملزمة وما زالت تكرس بطريقة أو بأخرى إلى اليوم. ولقد حارب الإسلام هذه العادة الجاهلية المذمومة والتي تعتبر من علل التدين عند الأمم السابقة وجبل عليها العقل العربي القديم ما قبل الإسلام نظراً للتقسيم الاجتماعي (سادة وعبيد) حاربها وقضى عليها خصوصاً في عهد النبوة الخلفاء الراشدون، فجاء القرآن ليلفت أنظار المسلمين إلى تقديس الدعوة لا الداعية لأن هذه الآفة تؤدي إلى الإشراك عبر اتخاذ العلماء والمشائخ والوجهاء الأحبار والرهبان (أرباباً من دون الله) وذلك بإشراكهم في القداسة والتنزيه الذي لا يجوز إطلاقه إلا على الله عز وجل. ولذلك فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يربي أصحابه على تقديس الفكرة لا الأشخاص بل ويقاوم كل محاولة لإطرائه ، كي لا يقدس (كشخص) على حساب الرسالة التي كلف بها، وكان صلى الله عليه وسلم متواضعاً متخلقاً بأخلاق القرآن الكريم، ذلك الدستور الخالد الذي أكد عبودية الرسول لله تعالى، فقد ورد الخطاب المباشر له من قبل الله بصيغة فعل الأمر ( أَعبُدَ) خمس مرات في القرآن،وجاء لفظ ( العبودية) على لسانه عليه الصلاة والسلام (أَعُبدُ) اثنتي عشرة مرة، ووصفه الله (بالعبد) عشر مرات في القرآن كلها في حالات مرتبطة بالتشريف مثل إنزال القرآن{تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً} والإسراء {سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير}وحتى لا يتحول هذا التكريم إلى نوع من التقديس في أذهان المسملين، علم القرآن محمداً صلوات الله عليه كيف يظهر بشريته{قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليَّ أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً}فهو صلى الله عليه وسلم وإن اصطفاه الله للرسالة الخاتمة فهو يبقى بشراً يجري عليه ما يجري على بقية البشر من الاتصاف بالضعف والنسبية والعجز أمام الخالق جل وعلا وتتوالى الآيات التي تربي رسول الله على ذلك، يقول تعالى {قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إليّ} أي حتى وإن كنت رسولاً من عندالله فلا يمكن أن أقوم بخرق سنن الله في الكون فأنا بشر مثلكم أخطئ وأصيب وإنما عصمتي هي فيما أوحي إليّ، وقد {أدبني ربي فأحسن تأديبي}...ولذلك لا أستطيع الإتيان بآية إلا بإذن الله { وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا أئت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إليّ إن أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم} إن حالات الفشل التي منينا بها كانت بسبب العودة إلى تصنيم وتعصيم نماذج من البشر. ولقد كان القرآن أكثر صراحة في لفت الانتباه إلى أن الواجب هو التمحور والدوران والارتكاز حول الرسالة لا حول الرسول قال تعالى{وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قُتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين} يورد السيوطي في أسباب النزول ، سبب نزول هذه الآية: أخرج ابن المنذر عن عمر رضي الله عنه قال: تفرقنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد فصعدت الجبل، فسمعت يهود تقول: قُتل محمد، فقلت:لا أسمع أحداَ يقول قتل محمد إلا ضربت عنقه، فنظرت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس يتراجعون إليه، فنزلت الآية:{وما محمد إلا رسول}. وقد أُثر أنه في سياق نفي التقديس لشخصه على حساب رسالته قال صلى الله عليه وسلم (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبده) وفي رواية (فإنما أنا عبدالله ورسوله) فكيف بعد هذا نقدس سادتنا وكبراءنا؟ فإذا مات فلان من الناس فقد ثُلم من الدين ثلمة! وكأن الدين أشخاص لا مبادىء وقيم !؟ إنه علاج هذه الآفة هو تقديس الأفكار الصحيحة جاءت من صغير أو كبير فالحق أحق أن يتبع واحترام صاحب تلك الأفكار لا تقديسه هو الصحيح، ومن هنا فتقديس القرآن يعني من وجه آخر احترام للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وبذلك نعطيه حقه، ويتغير حال أمة الإسلام إلى أحسن حال...وما ذلك على الله بعزيز.