سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
يبقى دائماً مع الدمعة بسمة الليل يحرك أوجاع"الأم" الراكدة ،ولم يتبق لهذه المسكينة إلاَّ تجاعيد مهدمة وذكريات توقفت لحظة قرر زوجها مغادرتها وأطفالها" العميان الخمسة" تاركاً لها ولهم أحوالاً بائسة وآمالاً تجوب قريتهم ببطء وترقب..
هل يمكن أن يتنازل أب عن أطفاله بسهولة .. لايمكن تخيل ذلك تحت أي ظرف كان.. لكن في هذا الزمن الرديء وتحت وقع ظروفه السيئة أصبح كل شيء ممكناً. ذات صباح بعيد كان أحمد سعيد القدسي يلملم أغراضه ويغادر منزله في القرية خلسة حتى لايشعر أطفاله الخمسة بوقع خطواته المنسحبة وبغير رجعة من حياتهم، لم يتوقع أبداً أثرها المؤلم عليهم ولم يتخيل مدى الحزن الذي خلفته لهم.. ربما ظن أنهم وقد ابتلاهم الله بفقدان البصر قد فقدوا بصيرتهم وأصبحوا مجردين من كل الأحاسيس والمشاعر.. أو ربما لايستحقون أن يضيع حياته من أجلهم.. وهكذا بكل أنانية غادر أطفاله وإنسانيته.. وتخلى عن فلذات كبده ببرودة أعصاب عجيبة. الغيب المستور فاجأهم غير مكترث لحالهم، ادخر لهم أوجاع رحيل غادر رافقهم خلال سنوات نموهم.. فراحوا يكبرون وسط ضجيج الحياة التي لم يروها أبداً .. ومنذ نعومة أظافرهم هجرهم الفرح، فلا مكان للهو واللعب في قاموس حياتهم التي عبث الحزن بها وظل مصاحباً لهم هو وذاك السواد الذي لم يعرفوا لوناً غيره وتخيلوه شبيهاً بأبيهم. ولكن يبقى دائماً مع الدمعة بسمة، ومع الخوف أمن،ومع الفزع سكينة.. تصدرت الأم المسكينة لمعاناة أطفالها وراحت تنسج لهم الأمل متوارية خلف جدار كبير من العفاف.. استحت أن تطلب الناس وتستجديهم واختارت السير في طريق غير سالك. فيصل، نائل، رفيق، عبدالله .. ووردة،تجاوزوا محنتهم، وتعاملوا بالإحساس مع الأشياء من حولهم، تزدحم عقولهم بعديد أسئلة تنتظر الإجابات. بعيداً عن اليأس قرر فيصل “27عاماً” وأخوه نائل “25عاماً” الاستنجاد بكتاب الله الكريم ،وبإرادة كبيرة حفظوه عن ظهر قلب،معززين بذلك فرصهم في عالم لا يرحم ولايعير ظروفاً كالتي يعيشونها أدنى اهتمام.. ويبدو أن عاهاتهم ساعدتهم إلى حد غير متوقع.. فاليتم والعمى والفقر قد تكون أسباباً للتقدم وتجاوز العثرات. وبالقرآن ومنه استمد الاخوان القوة والصبر ومضيا محفوفين بدعاء والدتهما،متشحين برداء الإيمان الذي عوضهما بنور البصيرة بدلاً من البصر. في تلك القرية التي تحتوي بحب العميان الخمسة تخطو عقارب الساعة متجاوزة نصف الليل آنذاك تتدثر القرية العتيقة بصمت رهيب ينتصب كصمت المقابر الموحشة، وتخور تلك الأجساد المنهكة في سبات ليدب صوت حزن فيصل وإخوته مفتتحاً ليلاً من السكون المميت يتداخل معه أمل متقطع ومتكاسل،سرعان مايخبو لتغرق القرية في ظلمة عاتية وسكون رتيب ممل .. لاشيء هنا سوى الليل وأوجاع تجوب القرية ببطء وترقب. في طرف القرية تقطن تلك العجوز التي لم يتبق لها إلا تجاعيد مهدمة وذكريات طويلة من الآهات.. ذكريات توقفت لحظة قرر زوجها مغادرتها بكل بساطة لتظل تمضغ ألمها ووحدتها دون تذمر وانشغلت بتوفير لقمة تقيها وأطفالها من الهلاك عند النهار الذي تستجمع فيه قوتها لتبدو أمام صغارها متماسكة.. ليأتيها الليل من جديد محركاً مواجعها الراكدة، فتستجد بصوت ولدها المنبعث من ثنايا الليل مرتلاً بصوت مجروح ماتيسر له من آيات الذكر الحكيم الذي يمشط أمنياتها فتصغي له بحنين متوجع حتى يشارف الصباح على التنفس فتمسح دموعها وتنام. يجود الخيرون رغم بساطة إمكانياتهم لتعيش هذه الأسرة المنكوبة .. وسيظل فيصل الحافظ لكتاب الله وإخوته وأمه يتسلحون بالصبر.. وطالما الخير صفة حميدة لم تغادر مجتمعنا بعد، حتماً سيأتيهم الخير ليستقر بينهم .. ويبقى الأمل قريباً منهم يحوطهم بسلام على وقع آيات مرتلة يصدح بها فيصل ويرددها إخوته.. {الذين يُنفقون أموالهم في سبيل الله، ثم لايُتبعون ما أنفقوا منّاً ولا أذى، لهم أجرهم عند ربهم ولاخوفٌ عليهم ولا هم لايحزنون..} صدق الله العظيم.