هكذا خلق.. لايرى الحياة إلا في خياله.. لايعرف لون السماء ولايستطيع وصف الألوان ولايتحدث عن شيء لأنه لم ير شيئاً ليتحدث عنه ليله كنهاره، عقله مدينته.. وشوارع مخيلته طريقه الذي لايعرف التوهان.. يداه هما خدمه وحشمه لا تملان ولاتسأمان وهو يتحسس بها كل شيء حوله هما عيناه اللتان سقطتا عن كتفيه لتبقيا معلقتين بين أرضٍ وسماء.. حين كان يسمع الناس من حوله يسأل والدته كيف أنا مثل ماذا..مثل من.. ماهي أشكال البشر؟! أين عيناي؟! ثم تبكي الأم فيسأل: لم لاتبكي عيناي؟! هكذا عاش يرى الناس بقلبه فأعتاد قلبه أن يرى البشر بل ويعرف نواياهم عيناه في صدره، هناك حيث هي أسرار البشر خفاياهم أحزانهم التي لم تفلح يد الأيام أن تلغي وجودها أو تمسح آثارها هناك عاش في قلبه ولعله كان بصيراً بما يكفي ليتعلم كل شيء كيف يتلو القرآن يتحسس الطريق إلى دكان والده أمام المسجد الوحيد في تلك القرية، يلقي السلام على من حوله وهم في دهشة من أمر هذا الشاب الذي حفظ المصحف كاملاً حين بلغ السادسة عشرة من عمرٍ عاشه بين جدرانٍ أربعة والعالم كله محشور في قلب صغير خلف أضلاع صدره.. وتمر الأيام والليالي بلونٍ واحد.. الناس من حوله يفرحون يتزينون يتناولون مايشتهون من الطعام وهو لا يأكل إلا ماتقدمه له والدته بين يدي الغموض أعتاد أن يسأل والدته: كلما أحضرت الطعام مالون هذا وماشكل ذاك؟! في خلوته كان القرآن ونيسه.. وفي ظلام عينيه كانت الآيات تشعل مصابيح الرجاء فيطمئن علم والده أن لاشيء سينفعه غير القرآن فماذا يمكن أن تعلم كفيفاً لايعرف عن الحياة شيئاً سوى أنه ولد على الفطرة كان عظيماً بعصاه وبصيرته فعل مالم يفعله المبصرون وشيئاً فشيئاً يكبر الصغير وتبدأ فطرة البحث عن الوليف تسري في شرايينه وتبحث الأم طويلاً فلا تجد من نساء القرية من تدفع بابنتها للحياة مع رجل كفيف سيقضي عمراً كاملاً وهو يتحسسها أين تكون؟ حتى شاءت الأقدار بنفسها أن تزف له عروساً على بساطٍ من الحب جمع قلبيهما دون حتى أن تراه لكن الله هو العدل.. إذ منحه امرأة مطيعة.. هادئة.. وجميلة.. وهذه نعمة حرم منها كثيرون ممن يرون نساء الأرض بأعين خواصرهم المقيتة.. والشيء ذاته شعرت به عند مارأته لأول مرة على فراشها كان جميلاً جداً.. وهمست في أذن قلبها كأي امرأة إنه لي وحدي! وزادت على ذلك لن يرى سواي أبداً!!! ثم احتوته كخاتم حول إصبعها.. وحولت أرضه البور إلى حقل أخضر.. في أوقات كثيرة كان يشعر فيها بالسعادة معها يظن أنه يرى حلماً وحين توفى والده بقي بيت الإمام خالياً من الألفة.. أخواته البنات لايزرن بيت العائلة إلا في المناسبات. ووالدته لاترى في الدنيا شيئاً أجمل من سنابل القمح عشقت الأرض وأصبح بينهما لغة خاصة ومنذ أن تشرق الشمس حتى قبل الغروب يتحدثان طويلاً على أوتار الوحدة والسكون.. البيت خالٍ إلا منهما.. وأول ولي للعهد يكاد يصل قريباً كان القلق يأكل قلبه والخوف أن تلد زوجته طفلاً أعمى يغشى فؤاده لكن ولأن الأرحام قوالب لابد أن تلفظ مافيها جاء ولي العهد مبصراً.. كوريث وحيد لعيني أمه وبصيرة أبيه..وحين يأتي الولد تمجد النساء ويصبح لهن عروش على قلوب الرجال ويحظين بما لاتحظى به أم البنت حتى لو كانت البنت تقية والولد فاسق!! هذا ماورثه الناس عن آبائهم جيل الجاهلية الأولى؟ اليوم أصبحت زوجته حاكماً رسمياً في البيت أشارت عليه باستغلال الأرض التي تركها والده فكان محصولها جيداً ودفعته ليكون إماماً لمسجد القرية خلفاً لوالده أو لسنا في مجتمع يرث فيها الولد كل شيء يرث القوامة المتسلطة على والدته لكنه لم يكن كذلك.. كان إماماً وكفى تمر أيام العمر سريعاً ويصبح له خمسة من الأبناء لايرى النور إلا كبيرهم.. يضيق المرء أحياناً إذا انطفأت الشموع.. أو حرم من رؤية حبيب فما بالكم بمن حرموا أن يروا الحياة بأشكالها وألوانها وكم هي الأقدار مؤلمة حين لاتتوفر لمثل أولئك الرعاية الكاملة والاهتمام اللازم هكذا كمن وقعت على رأسه صاعقة كان يصعق فيها حين يعلم أن له أبناً مثله.. لايرى النور لكن هي لم تكن كذلك بل كانت تبتهل طويلاً أن يخلف الله عليهم بالبصيرة حتى يكونوا أكثر قرباً من الخير متجافين عن الشر كان لأوسطهم نزعة خوفٍ من كل شيء كيف لا وهو لايدري من يقف خلفه أو من يمر أمامه من يبتسم له ومن يكشر عن أنيابه من يحبه ومن يكرهه كيف لا يخاف وهو لايعرف معنى ولايدرك حساً.. ولايميز ساعة الليل عن ساعة النهار.. كان خوفه من كل شيء حوله يدفعه للصراخ حيناً والبكاء أحياناً أخرى يكثر العزلة والانطواء حتى كان ذلك اليوم الذي بدا فيه سعيداً فرحاً يهمس لوالدته، أمي سأذهب إلى جدي فيضطرب نبضها وهي تسمع مايقول ..جدك مات!!! فيقول أدري.. أدري سأذهب إليه هو أخبرني بذلك.. أخفت الأم قلقها ولم تحاول أن تعرف تفاصيل الزمان والمكان وهي تعلم أنه مجرد حلم.. كيف رآه؟ من أخبره أنه جده؟! كيف يرى العميان أحلامهم؟! هل يرونها كما نراها نحن؟! ورغبته في كل شيء حوله.. فقد فارق الحياة بصمت بينما كان الجميع نائماً.. نام طويلاً ليرتاح من سنوات قليلة عاشها أسيراً لخياله في منزله عاد ليجد ابنه راحلاً عن الحياة في صورة ملك صغير ابتعد لسنوات عن اللعب مع الأطفال وأحب العزلة التي سقته اليقين وصورت له حياة أخرى هناك غير هذه التي يحياها البشر.. حياة يرى فيها مايحب أن يرى دون أن يمنعه من الرؤية مايكره. كان الوالد شديد الحرص على تعليم القرآن لأبنائه لأنه كان يؤمن أن لانور إلا نور القرآن ومتى مااستقر في صدورهم سيكون هو الدليل الذي يحركهم حيثما أرادوا بأمان لكن يحثهم أيضاً على السعي لأن في ذلك إعمار لأنفسهم وللأرض التي هم ضيوف عليها حتى تحين ساعة الرحيل.. إنما الله دائماً في أقداره حكمة لانعلمها نحن البشر فحين أكمل العام نصابه وأوفى تمامه بعد موت ابنه الأول ها هو الآخر يتعثر في طريقه إلى البيت ويسقط ولايلبث بعدها أياماً إلا وقد لحق بركب الراحلين إلى ربهم. يا الله كم يعطي.. وكم يأخذ.. لكن بميزان فلا عطاء إلا بعد شكر ولا أخذ إلا بعد كفر.. لكن في كثير من الأحيان يصبح أخذ وعطاء كهذا الذي سلب الله منه نظره وأربعة من أبنائه لايرون النور مثله ولكنه أعطاهم نور البصيرة وحفظ القرآن وهذا ملك من الدنيا عظيم لايؤتاه إلا من كان بينه وبين الله عمار وسكينة وولاية.. امرأة دؤوب ترفع من شأن زوجها بين البشر لتصنع منه عظيماً لعلمها أنه فاقد لأهم نعمة يمتلكها البشر.. ولذا يكافأ فاقدها عند الله كثيراً.. كثيراً فالصبر على العيش في ظلام دامس وتركيز الحواس كلها كأجراس إنذار حولك جهد وتعب لايعلمهما إلا الله وأبناء ينكبون كماء المطر من السماء على شيوخ القرية يتعلمون منهم حفظ القرآن. ورجل قنع بحياته كفيفاً يسترشد طريقه بعصا هي دابته وبصره وسلاحه. إنها الأسرة التي حدثني عنها أكبر أبنائها الذي كتب له خالقه أن يرى النور ليكون سنداً لآخرين لايرون من الدنيا إلا أنهم هنا.. هذه تذكرة لمن كان له قلب.. أو فكر حر، تذكرة لأولئك الذين يرون الأزهار والثمار البحار والقفار يميزون لون الرمل من لون الجبل.. يرفلون بثياب الغنى والترف.. لكنهم لايبيتون ركعاً سجداً لله.. بل يمرون على آيات الكون صماً وعمياناً..فإذا منحك الله نعمة البصر استخدمه فيما ينفعك وينفع الآخرين حتى يزدك الله بعدها نور البصيرة الذي تستطيع بعده أن تميز الخبيث من الطيب حتى تحين لحظة الموت التي لامفر لأحدٍ منها.. وأن تبصر نفسك وتتأمل ملامحك وتشذب ماكان نافراً من مكونات شخصيتك هذه نعمة مابعدها نعمة وفضل عظيم قد يراه البعض فضولاً من النعم قال تعالى: “إنها لاتعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور” صدق الله العظيم الحج(46) هذه حقيقة علمنا إياها هذا الكتاب العظيم فإنما البصر ترجمان لما يرى القلب وهو أيقونة جمال على وجه الإنسان فإذا خانتك عيناك يوماً فأعلم أنما قد خانك قلبك وتمرد عليك ضميرك. لكن عيناك لن ترى إلا مايرضيك من بعد رضى ربك عندما يكون قلبك بصيراً وضميرك حياً وكل مافيك رابض حول مقام السمو والتعالي عن حقير الدنيا ووضيعها “بصير” اسم ذلك الأعمى الذي حرك جمود الحياة حوله بنور قلبه كثيرون مثله يبحثون عن من يأخذ بأيديهم لاليعبروا شوارع المدن إلى أرصفتها لكن ليعبروا صراط الآخرة إلى جنان ربهم.. مطمئنين بالوصول إلى مقعد صدقٍ عند مليك مقتدر.