مر من أمامي بملابسه البيضاء وغطاء رأسه الذي اعتاد أن يرتديه أهل بلدته . مستندا على عصا رمى عليه ثقل جسده الذي هدّته السنون وأعيته المنون . مشى بخطوات تجر إحداهن الأخرى . توقف فجأة ليعلن بداية خطوة أخرى ومضى سائرا باحثا عن ميناء يرسو إليه ويرمي بحمولته عليه . انتهى به المطاف ليجلس على كرسي قديم في مقهى شعبي , يكاد يحمل نفسه , فقد اختاره ليعيد ذكرياته الماضية , أو ربما اختاره لأنه الوحيد الذي يعاني حالته , تاه شريد الفكر , غارقا في أعماق الماضي إنه لا يفكر في مستقبل أو أمل يبني عليه أحلاما , فالماضي حبيس فكره ووجدانه .رسم الزمن خارطته على وجهه الحزين.. عينان نصف مغمضتين فقدت بريقهما , ولحية بيضاء , أما نظارته الغليظة فكانت النافذة التي يرى بها عالمه الخاص , وامتدت يده المرتعشة تكاد تصل ببطء نحو جبهته لتمسح عرقا نقيا من عناء الشرود. استجمع قواه ووقف مقوّس الظهر مكملا رحلة الشرود , حاملا للوحدة , ممسكا باليأس , سائرا على طريق عسر.