يجلس على الرصيف المجاور للمقهى العدني المشهور ، بشعره الأبيض المنكوش المنسدل على كتفيه ,تتوسط جسده العاري قطعة قماش متهالكة بالكاد تستر عورته , يتأمل الدخان المتصاعد المختلط برائحة التوابل من علبه ملأها للتو بالشاي, تجتاحه لذة ونشوة عارمة مع كل رشفة تنتهي بصوت خارج من أطراف شفاهه المزمومة: أووم ممم اح ح ح ح........ يتمتم باسماء كثيرة لرفاق اغتالتهم لحظة عابرة , منذ ما يقارب ثلاثة عقود , يسترق النظرات إلى ساحة الميدان الذي تتوسطه سارية يرفرف أعلاها علم يقف شامخاً منذ صباح يوم جميل من صباحات آيار يطاول البنيان المجاورة للساحة يقبّل وجه السماء بكبرياء بينما يرسم هو على محياه ابتسامة عريضة ويعاود رشف الشاي.. تتعالى أصوات هتافات وشعارات جوفاء ,ترتفع معها عشرات الأيدي ممسكة بخرق بالية, تقتحم ساحة الميدان فجأة, تزحف ببطء باتجاه المنصة, تضيق الدائرة حولها ,بينما عيناه جاحظتان تراقبان المشهد بصمت, عاد بذاكرته إلى الوراء قليلاً تداخلت في رأسه أصوات الهتافات من حوله مع دوري المفرقعات والكلاشينكوف ذات يوم كانوني أسود توالت على ذاكرته وجوه رفاقه الذين يتمتم بأسمائهم كل صباح, أطبق على أذنيه بكلتا يديه , أغمض عينيه بحركة قابضة , إلى آخر الشارع اقتحم أحد المحلات عاد يحمل جالوناً على أحد منكبيه , اخترق الجموع قبل أن تصل المنصة , أمسك ريشته ، غمسها في فوهة الجالون, أخرجها بحركة خاطفة, رسم دائرة حمراء حول المنصة توقفت عند حدودها أقدام ركيكة لأجساد هلامية , سقطت من على جسده الناحل, قطعة القماش المتهالكة ,صعد إلى المنصة عارياً , وقف بجانب السارية , رفع يده اليمنى بمحاذاة جبينه , صرخ عالياً: رددي أيتها الدنيا نشيدي ردديه وأعيدي وأعيدي واذكري في فرحتي كل شهيد رددي أيتها الدنيا نشيدي .................... ...................... التهم صوته الأجش أصوات الجموع المحتشدة , تلاشت الوجوه الملونة بين أزقة المباني المجاورة لساحة الميدان, بينما ظل هو واقفاً حتى إشعار آخر. الإهداء: إلى وطني الكبير