إعلان قضائي    إعلان قضائي    لجنة أراضي وعقارات القوات المسلحة تسلم الهيئة العامة للأراضي سبع مناطق بأمانة العاصمة    بحضور نائب رئيس هيئة الأركان وقيادات عسكرية.. وزير الخارجية يلتقي طاقم سفينة "اترنيتي" الذين تم انقاذهم من الغرق في البحر الأحمر    جامعة صنعاء... موقف ثابت في نصرة فلسطين    لا مكان للخونة في يمن الإيمان والحكمة    الراحل عبده درويش.. قلم الثقافة يترجل    مرض الفشل الكلوي (15)    اتحاد إب يظفر بنقطة ثمينة من أمام أهلي تعز في بطولة بيسان    الرئيس المشاط يعزّي مدير أمن الأمانة اللواء معمر هراش في وفاة والده    من بائعة لحوح في صنعاء إلى أم لطبيب قلب في لندن    مكتب الصناعة بشبوة يغلق ثلاث شركات كبرى ويؤكد لا أحد فوق القانون "وثيقة"    أبين.. مقتل شاب بانفجار عبوة ناسفة في لودر    عدن وتريم.. مدينتان بروح واحدة ومعاناة واحدة    أبو عبيدة: مستعدون للتعامل مع الصليب الأحمر لإدخال الطعام للأسرى    بتوجيهات الرئيس الزُبيدي .. انتقالي العاصمة عدن يُڪرِّم أوائل طلبة الثانوية العامة في العاصمة    عدن.. البنك المركزي يوقف ويسحب تراخيص منشآت وشركات صرافة    الشخصية الرياضية والإجتماعية "علوي بامزاحم" .. رئيسا للعروبة    المعتقل السابق مانع سليمان يكشف عن تعذيب وانتهاكات جسيمة تعرض لها في سجون مأرب    2228 مستوطناً متطرفاً يقتحمون المسجد الأقصى    اجتماع يقر تسعيرة جديدة للخدمات الطبية ويوجه بتخفيض أسعار الأدوية    أبين.. انتشال عشرات الجثث لمهاجرين أفارقة قضوا غرقًا في البحر    اجتماع للجنتي الدفاع والأمن والخدمات مع ممثلي الجانب الحكومي    بدلا من التحقيق في الفساد الذي كشفته الوثائق .. إحالة موظفة في هيئة المواصفات بصنعاء إلى التحقيق    إصابة ميسي تربك حسابات إنتر ميامي    من يومياتي في أمريكا .. تعلموا من هذا الإنسان    الاتحاد الرياضي للشركات يناقش خطته وبرنامجه للفترة القادمة    وفاة مواطن بصاعقة رعدية في مديرية بني قيس بحجة    الهيئة العليا للأدوية تصدر تعميماً يلزم الشركات بخفض أسعار الدواء والمستلزمات الطبية    مونديال السباحة.. الجوادي يُتوّج بالذهبية الثانية    تدشين فعاليات إحياء ذكرى المولد النبوي الشريف في محافظة الحديدة    مجلس القضاء الأعلى يشيد بدعم الرئيس الزُبيدي والنائب المحرمي للسلطة القضائية    انتشال جثة طفل من خزان مياه في العاصمة صنعاء    قيادة اللجان المجتمعية بالمحافظة ومدير عام دارسعد يعقدون لقاء موسع موسع لرؤساء المراكز والأحياء بالمديرية    هناك معلومات غريبيه لاجل صحتناء لابد من التعرف والاطلاع عليها    العسكرية الثانية بالمكلا تؤكد دعمها للحقوق المشروعة وتتوعد المخربين    تشلسي يعرض نصف لاعبيه تقريبا للبيع في الميركاتو الصيفي    عدن .. جمعية الصرافين تُحدد سقفين لصرف الريال السعودي وتُحذر من عقوبات صارمة    توقعات باستمرار هطول امطار متفاوة على مناطق واسعة من اليمن    الحكومة تبارك إدراج اليونسكو 26 موقعا تراثيا وثقافيا على القائمة التمهيدية للتراث    مجموعة هائل سعيد: نعمل على إعادة تسعير منتجاتنا وندعو الحكومة للالتزام بتوفير العملة الصعبة    الرئيس الزُبيدي يطّلع على جهود قيادة جامعة المهرة في تطوير التعليم الأكاديمي بالمحافظة    طعم وبلعناه وسلامتكم.. الخديعة الكبرى.. حقيقة نزول الصرف    الشيخ الجفري: قيادتنا الحكيمة تحقق نجاحات اقتصادية ملموسة    عمره 119 عاما.. عبد الحميد يدخل عالم «الدم والذهب»    يافع تثور ضد "جشع التجار".. احتجاجات غاضبة على انفلات الأسعار رغم تعافي العملة    نيرة تقود «تنفيذية» الأهلي المصري    السعودي بندر باصريح مديرًا فنيًا لتضامن حضرموت في دوري أبطال الخليج    صحيفة امريكية: البنتاغون في حالة اضطراب    قادةٌ خذلوا الجنوبَ (1)    مشكلات هامة ندعو للفت الانتباه اليها في القطاع الصحي بعدن!!    تدشين فعاليات المولد النبوي بمديريات المربع الشمالي في الحديدة    من تاريخ "الجنوب العربي" القديم: دلائل على أن "حمير" امتدادا وجزء من التاريخ القتباني    من يومياتي في أمريكا.. استغاثة بصديق    من أين لك هذا المال؟!    ما أقبحَ هذا الصمت…    تساؤلات............ هل مانعيشه من علامات الساعه؟ وماذا اعددناء لها؟    رسالة نجباء مدرسة حليف القرآن: لن نترك غزة تموت جوعًا وتُباد قتلًا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تأملات في كتابة القصيدة 1-2
نشر في الجمهورية يوم 02 - 04 - 2011


1-
أتساءل، أحياناً : ألا يعد حديث الشاعر عن سلوكه الشعري نميمة من نوع خاص، هتكاً للسر، أو وشاية بالقصيدة؟ ألا يعني ذلك أن الشاعر يفتح ورشته الشعرية للريح وفضول المارة؟
ثم ألا يكشف حديث كهذا لعبة الشاعر التي حرص، دائماً، على أن تظلّ سرّية، وعصية على الفضح؟
حين يتصدى الشاعر لمهمة شاقة وشيقة كهذه لابد له من عدّة مميزة. أعني أن تكون له أسراره الخاصة فعلاً؛ فالحديث عن مخبّآت متوهمة، أو مدعاة ضرب من الوهم، أو دعوة للصيد في الظلام. هذا أولاً.
أما ثانياً: فإن في حديث الشاعر عن حركة القصيدة، أو تململها الأول، أو انبثاقها من شقوق الروح، تكذيباً لسقراط، وإقلاقاً لقناعته التي لا تزال، ربما، تسكن ما بقي من رماده العظيم. أما كان يرى، دائماً، أن الشعراء هم أقل الناس قدرة على الحديث عن قصائدهم؟
إن الشاعر لا يملك، على الدوام، لغة فضاحة أو نضّّاحة. أقصد اللغة/ الشبكة القادرة على الغوص إلى عوالمه السفلية وملاعبة كائناتها الخطرة. اللغة التي تجسد أقسى ما في النفس من عويل أخرس، أو نوايا تتوتر تارة وتتآكل تارة أخرى، وهي تحتدم، هناك، بين قاع البئر وفراشة الضوء.
-2-
ما زالت ذاكرتي، حتى هذه اللحظة الموحشة، مبتلة بذلك الصباح الخريفي الذي كان يغمر طفولتي وجدران المدرسة وأشجارها بالبرد واللذة والفضول. في تلك اللحظة فقط، من يوم الدراسة الأول، عرفت أن للقصيدة قائلاً من لحم وحنين وقدمين تلامسان الأرض. لقد صادف أن أحد معلمي المدرسة كان شاعراً. وصادف أن أحد التلاميذ كان يقرأ قصيدة من قصائد ذلك المعلم، وكان الفصل خريفاً.
كانت تلك القصيدة تتناثر في ذلك الهواء الصباحي الطازج. وتبتل بأنفاس التلاميذ، وتلذع قلبي بطريقة لذيذة غامضة. قبل تلك اللحظة لم أكن أدرك، أنا القادم إلى المدينة من قرية مرشوشة بالماء والأسى والخرافة، أن الشاعر يمكن أن يكون إنساناً كباقي البشر: يمشي ويأكل ويتأوه. كنت أظن أن الشعر لغة فوق إنسانية، تهبط من غيب ما، وتصوغها جوقة من المجانين أو الملائكة، ربما.
هكذا كانت نظرتي إلى القصيدة؛ كلام يهطل، غامضاً، من سماء مبتلة بالفضة، أو امرأة تنبثق من جرح في الريح. وهكذا كانت نظرتي إلى الشاعر؛ إنسان أثيري يصعب الإمساك به. عصي على أن يكون عادياً. هل كان الأمر كذلك حقاً؟ كان الشاعر، بالنسبة لي، إنساناً كرسته الطبيعة لمهمة خارقة، أن ينطق الكون بالحلم ويملأ اليباس بالرأفة.
وكان ثمة سؤال يشتعل رنينه الرمادي في العظم والروح، هل يمكن أن يتجاور، في الشاعر نفسه الحلم والوشاية؟
طفولة اللغة والنوايا السوداء؟
الأسى العظيم والدجل؟
كرامة الروح والابتذال؟
كانت هذه النظرة، ولا تزال، نسيج ذلك الوهم الذي يرافقني. فالشاعر عندي، أعصى خلق الله على النفاق والمساومة. هل كنت أؤمن، وفي وقت مبكر، أن الشاعر هو من ينطبق عليه وصف غوتيه لشيلر، شاعر حتى في طريقة تقليم أظافره؟ ربما.
-3-
على الرغم مما يتكبده الشعر، كل يوم، من خسائر فإن إيماني لا نهاية له بأن الشعر قوة خفية آسرة، تدفعنا إلى الاكتمال الصعب. وأن القصيدة هي ذلك الملاذ الذي أشيده دائماً من بقاياي النائحة لأحتمي به، ثانية، من القبح والكذب والتشتت. وكم كنت مديناً لهذا الإيمان الكاسح، فقد كان يدرأ عني الكثير من الأذى الذي يحاول أن يحاصر قصائدي، ويبعثر نيرانها الجريحة. لم أكن أحفل أبداً، رغم تاريخ طويل من الفقر الكريم والوحشة الهائلة، بولائم الجن وتمتمات السحرة. لم أحفل بالغنى الرخيص والشعراء الذين كانوا ينحتون قصائدهم حسب الحجوم والأيام والمناسبات.
للشاعر غيومه المغردة في الروح، تحجب عنه ضجيج الشعراء المفتعلين وغرورهم المغشوش. وحين كانت مباهجهم العابرة تزداد ارتفاعاً كانت نشوته لا حدود لها، وهو يفرغ من قصيدة جديدة، صياد مفتون برائحة الطرائد الحرة، وهمهمة الموج. كان يحسّ، بعد كل مكسب أرضي لهم، أنهم يزدادون إيغالاً في التراب بينما ترتفع به قصائده، هكذا يحسّ، خفيفاً مشعاً، يتكاثر في الريح مأخوذاً بخسائره ومفتوناً بحزنه العظيم.
-4-
يؤلمني كثيراً ما في نصوصنا الحديثة من ادعاءات مخيفة. إن شعراءنا كثيراً ما يستعيرون لغة أخرى ورؤى لا تمت لتجربتهم الروحية أو خبرتهم الشعرية بصلة عميقة. إنني أتفتت ألماً حين أقرأ قصيدة تقتفي خطوات أدونيس أو محمود درويش حتى تكاد تسقط إعياءً، لغة أدونيس الجسدية، المختنقة بالدلالات وتوهجات الفكر، والشطحات الصوفية، والإيماء إلى الأساطير، والانزياحات الأسلوبية.
وكذلك حين يفعل شاعر آخر الشيء نفسه مع محمود درويش، حين يحاكيه في لعبته الداخلية، في سهولته المضللة أو شراسته المغرية، أو حين يحاول اللحاق المستحيل بتلك الغنائية الفجائعية، أو ذلك الضمير الجمعي الذائب في فردية فريدة.
وفي الحالتين لا يملك هذان المقلدان شيئاً من سحر أدونيس أو درويش، ولا يملك أيّ منهما أن يكون أي منهما على الإطلاق، ليس إلا الادعاء، ومشقة المحاكاة، وعذابها الفائض عن الحاجة.
وفي نصوصنا الشعرية الحديثة، أو في معظمها، مجافاة واضحة لشروخ الذات وتفجعاتها. تقرأ القصيدة، أحياناً، فلا يعلق بروحك أو ضميرك وجدان ما: ندم ، أو شهوة، أو خذلان، أو رفض، أو يأس. إنها خارج اصطدام هذه الانفعالات، أو بعيداً عن هبوبها القاسي غالباً. وتسأل نفسك أين يقيم هذا الشاعر؟
ولست أدرى سبباً لهذا الضمور الوجداني في الكثير من نصوصنا هذه الأيام. أهو الانحراف بمقولة إليوت الشهيرة عن اتجاهها الصحيح، على الشاعر أن يهرب من عواطفه؟ مع أن إليوت كان يعني، بعبارة لا تحتمل متاهات التأويل، أن على الشاعر أن يعبر عن عواطفه بطريقة غير مباشرة.
هل فهم بعض شعرائنا إليوت بطريقة لا تمثل مفاهيمه النقدية على حقيقتها؟ هل نسي الكثير من هؤلاء الشعراء أن اليوت كان يعدّ أعماله النقديه مجرد ناتج جانبي لنشاطه الخلاق؟ وكثيراً ما عبر عن استيائه لأن بعض الكتاب يقتبسون عباراته، التي كتبت قبل أربعين سنة، وكأنها كتبت أمس، كما كشف عن حيرته لشيوع مصطلحاته بين الباحثين الجادين وتلاميذ المدارس.
لقد ركضنا وراء مفاهيم الفصل “بين العقل والعاطفة”، و”المعادل الموضوعي”، و”الهرب من العواطف”، و”الموضوعية في الأدب” حتى صار الكثير من قصائدنا جافاً، خشناً، لا يسيل منه ماء المعنى ولا دم الكارثة.
إن للشعر، حتى في أقصى مدياته تجريبية، دافعاً ما، وغاية يسعى إلى الإيحاء بها، بوسائله الشعرية الخاصة. كلام، كالبدهيات، لا خلاف عليه بين عاقلين. والشعر لا يبعد كثيراً عن أن يكون تعبيراً غير مألوف، عن تجربة مألوفة. والشعر بعبارة لوتمان، معنى يبنى بطريقة معقدة. ليس الجدال إذن حول تجربة القصيدة أو موضوعها، في حد ذاته، بل حول طرائق الإفصاح عنه بحيوية راقية. خلافنا لا يتعلق ب“ماذا” النص الشعري بل ب“كيف” التجسيد، أعني خصوصية أدائه، وتمايزه، وروغانه الجميل.
-5-
تبدأ القصيدة، لديَّ، دون تخطيط، أو تصميم مسبق، هكذا همهمة جسدية وروحية تظل، على الدوام، عصية على التحديد، عشبة من دخان اللغة، ورعدة ذات إيقاع خاص تتصاعد متشابكتين من بين الأنقاض. ولست، قادراً، لحظتها، على تمييز ما يحصل في تلك البئر الفياضة بالضوء الغائم، والمباهج المنكسرة، كل شيء يبدأ مشوشاً، مرتبكاً، لكنه يظل، مع ذلك، لذيذاً يحفز الحواس باستمرار ويغذيها باللهب، والتصدعات والتمتمة.
لا أقوى، أحياناً، على الفرز بين اللغة والإيقاع، فهما يندفعان سوية، يتقاطعان تارة وينسجمان في هبوبهما تارة أخرى. وأظلّ مسكوناً بهذه الهمهمة، ممتلئاً بدخانها العالي، وهو يهطل على الروح والجسد لفترة قد تطول وقد تقصر، حتى أجد نفسي في اشتباك لا أتبين أطرافه بسهولة، جسد ينز لغة، وإيقاع مؤلم لم يعثر على لغته بعد. في هذه الحيرة الوارفة، تتجمع فلول الإيقاع، وتتلبد الروح باللغة شيئاً فشيئاً.
وكما تقبل غيوم الخريف الأولى، أو ينبثق رعد على حافة أفق بعيد، هكذا تماماً، تقبل القصيدة متأججة غامضة، لا ملامح لها، تدفعني أمامها مثل ليل كاسح. ويستمر هطولها الكثيف، سيل هائج لا أتبين اتجاهه تماماً، يوقظ في طريقه آلاف الطيور والمآتم، والأنهار الخرساء.
وما إن ينتهي هذا الاشتباك ، حتى تبدأ ملامح النص بالاتضاح: فجر يطل مرتبكاً على قرى مهدمة، وذكريات تتوهج باستمرار، وجوه لم أعد أعرفها لكثرة ما تراكم بيني وبينها من غياب كثيف. الكتابة، عندي، حالة من الكدر الروحي، والعناء الجسدي. إنها تجربة شديدة المرارة، وقد تكون بداية الكتابة أكثر مراحلها أذى ووعورة. فكم هو شاق وممض البيت الأول من القصيدة، أو الأبيات الأولى منها. إنها فترة من التهيب والخوف اللذين لا أدري سبباً لهما. أهو غموض ما أنا مقبل عليه؟ ربما. فالقصيدة تتمرد على صاحبها منذ البدء، تتخذ طريقاً أخرى تماماً، حتى تبدو، في النهاية، قصيدة عن موضوع آخر، أو فكرة لا تمت إلى الفكرة التي توهمتها أول مرة. مع أني كما قلت لا أضع تخطيطاً للقصيدة التي أسعى إلى كتابتها.
وحين تأخذ قصيدتي طريقها إلى النشر، لا يعني ذلك اكتمالها النهائي، فاكتمال القصيدة بالنسبة لي، عمل يناقض آدمية الشاعر، تلك الآدمية المفعمة بالندم المهلك والإحساس بالنقص. أينا يملك القدرة على الاكتمال؟ بل أينا يملك الجرأة على قول ذلك؟
ولهذا السبب، كثيراً ما تتعرض القصيدة لدي إلى التآكل أو النمو. كان كيتس يقول إن قصيدته جزء منه، وهي عرضة للتغيير دائماً، وأنا أطارد قصيدتي باستمرار محاولاً أن أقربها من ذلك الوهم الجميل، أو الاكتمال العنيد. قد لا تصل بعض قصائدي إلى شكلها النهائي إطلاقاً، فهي في القراءة قد لا تكون ذاتها مطبوعة في الجريدة، وهي في الجريدة أو المجلة غيرها في الديوان، أو على الأصح ليست هي تماماً. قد يطال التغيير عنوان القصيدة فقط، وقد يشمل عناصر جوهرية في دلالتها، أو نسيجها اللغوي.
أذكر مرة أن الدكتور سلمان الواسطي، وهو مترجم بارع، وأستاذ مرموق في الأدب الإنجليزي، ترجم قصيدة لي بعنوان “دخان الشجر” كانت منشورة في مجلة الأديب المعاصر، ونشر الترجمة في مجلة كلكامش، الصادرة عن دار المأمون. وحين ظهرت القصيدة في مجموعتي “فاكهة الماضي”، كانت قد تعرضت لجملة من التغيرات، كانت نصاً يكاد يكون مختلفاً عن النص المنشور في المجلة، وكم كنت محرجاً من الأستاذ الواسطى. لقد ظن البعض أن ترجمته بعيدة عن القصيدة، وهم لا يعلمون أن قصيدتي هي التي ابتعدت عن ترجمته، فهي نص يختلف، إلى حد واضح، عن ذلك الذي قام بترجمته الواسطي باقتدار ورهافة عاليين.
-6-
القصيدة لغة قبل كل شيء، ولغتها هي التي توصلنا إلى عناصرها الأخرى. في الشعر تكون اللغة خاصية الشاعر الأولى أو مأثرته الكبرى، ولذلك نتحدث عن لغة السياب، ولغة أدونيس، ولغة محمود درويش، وآخرين. ولا أعني باللغة هنا، مفردات الشاعر، التي يكثر معدل ترددها أو تكرارها في قصائده، لا أعني معجمه الشعري فقط، بل شمائله اللغوية وعاداته في بناء العبارة، وقدرته على تحويل الجملة اللغوية إلى جملة شعرية، أي القدرة على تليين القاعدة اللغوية السائدة، وتكييفها شعرياً. لا بمعنى إلحاق الأذى بها، واختلاق المعاذير للإساءة إليها، بل ما أعنيه شيء آخر تماماً. هو الإصغاء لهاجس الشعر لا لمنطق اللغة فقط.
الهاجس والمنطق في اشتباك لا يهدأ، المنطق يسعى في المقام الأول إلى الصحة اللغوية، والصرامة، والشيوع، أما الهاجس فيدفع إلى العدول عن الشائع، المكرور، إلى الأقل شيوعاً والأكثر مفاجأة. إن الامتثال للنمط الشائع، في بناء الجملة، انصياع مطلق للقاعدة في أكثر وجوهها تزمتاً، أما الكشف عن جوازات هذه القاعدة واستثناءاتها أو احتمالاتها الأقل شيوعاً فكشف عن المخبوء، وغير المتوقع من مدخرات اللغة من الليونة والتكيف. لماذا كان بيت المتنبي التالي مثيراً للاهتمام:
جللاً، كما بي، فليك التبريحُ
أغذاء ذا الرشا الأغنَّ الشيحُ
هل سيكون له الوقع ذاته لو سار على الترتيب الشائع لبناء الجملة المكونة من كان واسمها وخبرها؟
وقد نما لدي إحساس، منذ البداية، بأن عليّ أن أنأى بلغتي عن المألوفية، والشيوع قدر ما أستطيع، مؤمناً إيماناً قاسياً، أن على الشاعر أن يكشف عما وراء أحطاب اللغة من خضرة محزنة، وعما وراء رمادها من أنهار فوارة. كنت أُعنى في الكثير من قصائدي، عناية خاصة، بالعلاقات اللغوية.
لقد صار من البديهي جداً، أن الكلمة، في حد ذاتها، لا تشتمل على أية إثارة شعرية. صحيح أن كلمات مثل: امرأة، بلدوزر، غيمة، برميل، وردة، مقصلة، كلمات ذات حظوظ متفاوتة من الإيحاء. فالبون شاسع مثلاً بين المرأة والبلدوزر، وبين المقصلة والوردة، لكن هذا الإيحاء، كما أرى، لا يعود إلى شعرية هذه الكلمة أو نثرية تلك، بل يعود إلى قوة الذاكرة وما تدخره من ثقافة وأعراف وعادات تتباين من حضارة إلى أخرى. إن قوة الشعر هي التي تحول هذه الكلمات إلى كلمات جديدة لم نألفها، أي تضعها من جديد، في سياق آخر، وتحولها إلى كلمات دون ذاكرة.
والعلاقات التي أعنيها لا تتوقف عند العناصر الأساسية للجملة، بل تمتد إلى ضواحيها أيضاً. تلك الضواحي التي يمكن أن يتفجر منها الكثير من الرذاذ والهزات واللطائف. كنت أنتبه على سبيل المثال إلى وظيفة الصفة في الجملة الشعرية، فهي مهلكة، أحياناً، وكاتمة للضوء. فالصفة الخاملة قد تجهز على لجملة الشعرية، وتطفئ ما فيها من إثارة حين تظل مشدودة إلى ميراثها الأول من المعنى. أما إذا انزاحت تلك الصفة عن مكانها المتوقع، واحتلت مكاناً مفاجئاً، فإنها تربك عاداتنا اللغوية والانفعالية، وتقلب توقعاتنا الراسخة رأساً على عقب.
ما زلت أذكر، وأنا في بداياتي الأولى، كيف توقفت أمام بيت لنزار قباني:
يا شعرهاً على يدِيْ
شلالَ ضوء أسودِ
وكنت مندهشاً من وصفه الضوء بالسواد، قبل أن تصبح هذه المخالفة من بلاغة القصيدة الحديثة وصورها النمطية الشائعة، وقبل أن أكتشف أن المتنبي كان سباقاً إلى ذلك في بيته عن كافور الأخشيدي:
تفضح الشمسَ كلما ذرَّتِ الشمسُ
بشمس منيرة سوداءِ
إضافة إلى دور الصفة في الجملة، فإن العلاقة التي تربط بين عناصر العطف النسقي، يمكن أن توفر للنص هذه الهزة المفاجئة. وقد يبدو الأمر في البداية، كأنه لعب مجاني باللغة أو معها. في قصيدتي (حرس لنوم الحبيبة) مثلاً يرد هذا المقطع:
أغنّي حولَ سيدتي،
وأحرس نومَها المائيّ، أفتح جمرَها
يأتي المساكينُ،
الغزالاتُ،
العصافيرُ
النحيفة، خشنة في البردْ
تجاورني،
وتترك فوقَ قمصاني
حصىً،
أو وحشةً،
أو وردْ..
ما كنت أعلم تماماً لماذا يبعث فيَّ ترتيب البيت الأخير إحساساً بالنشوة. أهو التنويع في عربات هذه القاطرة اللغوية: حصى، وحشة، ورد؟ أم هو المزج بين الجامد والحي، بين الممعن في لطفه والممعن في شراسته؟ أم هو التجاور بين المجرد والمحسوس؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.