باريس سان جرمان بطلا للدوري الفرنسي    طلاب جامعة حضرموت يرفعون الرايات الحمراء: ثورة على الظلم أم مجرد صرخة احتجاج؟    كيف يزيد رزقك ويطول عمرك وتختفي كل مشاكلك؟.. ب8 أعمال وآية قرآنية    عودة الحوثيين إلى الجنوب: خبير عسكري يحذر من "طريق سالكة"    "جيل الموت" يُحضّر في مراكز الحوثيين: صرخة نجاة من وكيل حقوق الإنسان!    مذكرات صدام حسين.. تفاصيل حلم "البنطلون" وصرة القماش والصحفية العراقية    جماعة الحوثي تعلن حالة الطوارئ في جامعة إب وحينما حضر العمداء ومدراء الكليات كانت الصدمة!    النضال مستمر: قيادي بالانتقالي يؤكد على مواجهة التحديات    أسئلة مثيرة في اختبارات جامعة صنعاء.. والطلاب يغادرون قاعات الامتحان    كيف حافظ الحوثيون على نفوذهم؟..كاتب صحفي يجيب    الدوري الانكليزي الممتاز: مانشستر سيتي يواصل ثباته نحو اللقب    هيئة عمليات التجارة البريطانية تؤكد وقوع حادث قبالة سواحل المهرة    يوميا .. إفراغ 14 مليون لتر إشعاعات نووية ومسرطنة في حضرموت    الوزير الزعوري يطّلع على الدراسة التنموية التي أعدها معهد العمران لأرخبيل سقطرى    قيادات الجنوب تعاملت بسذاجة مع خداع ومكر قادة صنعاء    كل 13 دقيقة يموت طفل.. تقارير أممية: تفشٍّ كارثي لأمراض الأطفال في اليمن    طوارئ مارب تقر عدداً من الإجراءات لمواجهة كوارث السيول وتفشي الأمراض    البنك الإسلامي للتنمية يخصص نحو 418 مليون دولار لتمويل مشاريع تنموية جديدة في الدول الأعضاء    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على نيو إنجلاند برباعية في الدوري الأمريكي    بايرن ميونيخ يسعى للتعاقد مع كايل ووكر    الدوري الانكليزي الممتاز: ارسنال يطيح بتوتنهام ويعزز صدارته    اشتراكي الضالع ينعي رحيل المناضل محمد سعيد الجماعي مميز    العلامة الشيخ "الزنداني".. رائد الإعجاز وشيخ اليمن والإيمان    العليمي يؤكد دعم جهود السعودية والمبعوث الأممي لإطلاق عملية سياسية شاملة في اليمن    - نورا الفرح مذيعة قناة اليمن اليوم بصنعاء التي ابكت ضيوفها    على خطى الاحتلال.. مليشيات الحوثي تهدم عشرات المنازل في ريف صنعاء    من هنا تبدأ الحكاية: البحث عن الخلافة تحت عباءة الدين    الشبكة اليمنية تدين استمرار استهداف المليشيا للمدنيين في تعز وتدعو لردعها وإدانة جرائمها    الفنانة اليمنية ''بلقيس فتحي'' تخطف الأضواء بإطلالة جذابة خلال حفل زفاف (فيديو)    قضية اليمن واحدة والوجع في الرأس    بالصور.. محمد صلاح ينفجر في وجه كلوب    مئات المستوطنين والمتطرفين يقتحمون باحات الأقصى    وفاة فنان عربي شهير.. رحل بطل ''أسد الجزيرة''    أسعار صرف العملات الأجنبية أمام الريال اليمني    ضبط شحنة أدوية ممنوعة شرقي اليمن وإنقاذ البلاد من كارثة    مجهولون يشعلون النيران في أكبر جمعية تعاونية لتسويق المحاصيل الزراعية خارج اليمن    طالب شرعبي يعتنق المسيحية ليتزوج بامرأة هندية تقيم مع صديقها    شرطة أمريكا تواجه احتجاجات دعم غزة بسلاح الاعتقالات    تضامن حضرموت يحسم الصراع ويبلغ المربع الذهبي لبطولة كرة السلة لأندية حضرموت    فريدمان أولا أمن إسرائيل والباقي تفاصيل    دعاء يغفر الذنوب لو كانت كالجبال.. ردده الآن وافتح صفحة جديدة مع الله    اليمنية تنفي شراء طائرات جديدة من الإمارات وتؤكد سعيها لتطوير أسطولها    مصلحة الدفاع المدني ومفوضية الكشافة ينفذون ورشة توعوية حول التعامل مع الكوارث    وصول أول دفعة من الفرق الطبية السعودية للمخيم التطوعي بمستشفى الأمير محمد بن سلمان في عدن (فيديو)    القات: عدو صامت يُحصد أرواح اليمنيين!    وزارة الحج والعمرة السعودية تحذر من شركات الحج الوهمية وتؤكد أنه لا حج إلا بتأشيرة حج    «كاك بنك» يدشن برنامج تدريبي في إعداد الخطة التشغيلية لقياداته الإدارية    الذهب يتجه لتسجيل أول خسارة أسبوعية في 6 أسابيع    القبض على عصابة من خارج حضرموت قتلت مواطن وألقته في مجرى السيول    الزنداني لم يكن حاله حال نفسه من المسجد إلى بيته، الزنداني تاريخ أسود بقهر الرجال    «كاك بنك» يشارك في اليوم العربي للشمول المالي 2024    أكاديمي سعودي يلعنهم ويعدد جرائم الاخوان المخترقين لمنظومة التعليم السعودي    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    نقابة مستوردي وتجار الأدوية تحذر من نفاذ الأدوية من السوق الدوائي مع عودة وباء كوليرا    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    لحظة يازمن    لا بكاء ينفع ولا شكوى تفيد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قصيدة النثر وإشكالاتها عند عبدالعزيز المقالح 1-3
نشر في الجمهورية يوم 09 - 04 - 2011

ربما يكون من المجازفة القول: إن الشعر في جانب كبير منه يختزل بعض خواص الإيديولوجيا في استبطان الذاكرة الجماعية, وتعميق الإحساس بإنسانية الإنسان، ولهذا فكثيراً ما يثير الخروج على قواعده وتقاليده الفنية أوار المعارك والخصومات، فتتولد الأسئلة, وتطرح الإشكالات, وينقسم الناس بين متقبل مؤيد, ومعارض رافض، ولأنه – أي الشعر– لا يمتلك صفة المقدس كما هو الحال مع الإيديولوجيا؛ فإن معاركه لا تلبث أن تخبو, وتتلاشى وتخمد نارها على مدى ليس ببعيد، مما يتيح للصيغ الجديدة التبلور والانتظام في سلك الإبداع واكتساب شرعية التقبل من الذائقة الفنية الجماعية..
وقد يكون من فائض القول ونافلة الإيضاح الإشارة إلى مفاصل التحولات والتجديد في شعرنا العربي, وما أثارته تلك التحولات من معارك وخصومات منذ العصر العباسي وحتى الآن. ابتداءً من بشار وأبي نواس وأبي تمام, ومروراً بالمتنبي والمعري إلى شعراء الإحياء وأبولو والمهجر, ووقوفاً عند نازك والسياب وجماعة شعر التفعيلة.
ومع ما أثارته تلك التجارب وما قوبلت به من الإنكار والصد, إلا أن ذلك لا يبلغ معشار ما أثارته وقوبلت به تجربة قصيدة النثر. فلا تزال حتى الآن – وبعد مرور نصف قرن من عمرها – مثار جدل واختلاف واسع في الأوساط الأدبية والنقدية. وربما يحق لنا القول: أنه لا وجه للمقارنة بين ما أحدثته أصداؤها, وبين أصداء التجارب السابقة، صحيح أنها – أي التجارب السابقة – لم تنتزع الاعتراف النقدي بها إلا مؤخراً، ولكنها في الغالب اخترقت حصن الذائقة منذ الشرارة الأولى, «فقد كان جريرٌ والفرزدق والأخطل وأمثالهم يعدون محدثين. وكان أبو عمر بن العلاء يقول: لقد كثر هذا المحدث وحسن حتى لقد هممت بروايته»(1). فأبو عمرو لا يعترف نقدياً بالتجربة الجديدة عند شعرائها الثلاثة: جرير والفرزدق والأخطل؛ ولهذا أحجم عن رواية شعرهم, ولكن إعجابه بالتجربة واستحسانه لها يعني أنها قد اخترقت ذائقته الشعرية ولامست حسه الفني.
وبنوع من المغامرة المستندة إلى كثير من الحقائق والأدلة نرى أن موقف أبي عمرو بن العلاء – كنموذج لرفض الجديد «نقدياً» وتقبله «جمالياً» – يكاد يكون موقفاً عاماً, وينطبق على كل حركات التجديد الشعري ما قبل قصيدة النثر. فمع الانبثاقات الأولى في مسار التحول والتجديد لكل حركة كان النقاد والمحافظون يهاجمون الجديد بشدة, ويعتبرونه مارقاً وخارجاً على القواعد والأعراف الفنية المتبعة؛ ومع ذلك فقد كان – أي الجديد – في الآن ذاته متقبلاً ومستساغاً من الذائقة العامة ومتصالحاً معها, يحمله الركبان وتغني به الجواري وينشد به في المجالس العامة ومجالس البلاط.
غير أن الوضع يختلف مع قصيدة النثر؛ فهي وإن «استطاعت خلال العقدين الأخيرين أن تنتزع الاعتراف النقدي بها, لكنها لم تستطع اختراق الذائقة الشعرية التي مازالت تفصل فصلاً تاماً بين حقلي الشعر والنثر, مستندة في فصلها هذا إلى ضرورة وجود إيقاع وزني تستطيع الأذن أن تعرفه والتمتع بترديد صداه في الشعر»(2).
وعلى الرغم من الاعتراف النقدي بقصيدة النثر إلا أن ذلك لم يسهم بشكل حاسم في بلورة مفاهيمها، سواء على المستوى النقدي أو التنظيري «فالكتابات النقدية العربية عن هذا النمط من الكتابة الشعرية مازالت تراوح مكانها منذ أن بشرت حركة مجلة «شعر» بها, بوصفها مخرجاً لأزمة الحداثة الشعرية»(3). ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا: إن بعض تلك الكتابات كانت أقرب إلى الدعاية الرخيصة منها إلى النقد البناء المؤسس. وأما الدراسات الجادة – وهي النزر القليل – فقد ظهرت مشوبة بكثير من الحذر والخوف من الانجرار إلى سوق الدعاية. ومن الدراسات التي قاربت قصيدة النثر كتاب «النص المشكل»(4) للناقد محمد عبدالمطلب, وهو من الكتب القليلة التي تناولت قضايا القصيدة في تجلياتها المختلفة, سواء على المستوى التنظيري أو التطبيقي. وفيه قام المؤلف – من منطلق المؤيد للظاهرة – برصد المستوى الإيقاعي للقصيدة باعتباره – أي الإيقاع – من أكثر القضايا التصاقاً بمفهوم الشعر في الذاكرة العربية. وما يهمنا من ذلك أنه وبعد نصف قرن من إعلان ميلاد الظاهرة, ومع الاعتراف النقدي بها منذ ما يزيد على العقدين, فمازالت النظرة النقدية الفاحصة للمؤيدين – ناهيك عن المعارضين – تتعامل مع قصيدة النثر على أنها ظاهرة إشكالية بكل معنى للكلمة. ولعل إطلاق «عبدالمطلب» تسمية «النص المشكل» – وهو يريد بالطبع قصيدة النثر – على كتاب ينظّر لهذا المستوى من الكتابة لهو خير شاهد على عمق الفجوة الفنية التي تعيشها القصيدة. فهي بحق ظاهرة إشكالية ليس بمستواها الإيقاعي والفني فحسب؛ بل إن جوانب الإشكالية فيها متنوعة ومتعددة: ابتداءً من التسمية والتجنيس, مروراً بالخصائص والشروط الفنية, وانتهاءً بالمشروعية والانتماء. ويبدو أن هذا الثراء الإشكالي يقابله فقر المواهب التي ارتادت هذا النبع – باستثناء المواهب المؤسسة: أدونيس والماغوط والحاج, وبعض التسعينيين, ونفر من هنا وهناك – هو من دفع نقاداً وشعراء كثر إلى تسجيل مواقف متباينة ومتعددة تجاه هذا الوليد, تتراوح بين: الرفض والقبول والتحفظ, وقد تبدأ بالتأييد لتنتهي إلى الرفض(5), وربما تبدأ من الرفض لتنتهي إلى القبول أو التحفظ.
وفي التجربة النقدية للأستاذ الدكتور: عبدالعزيز المقالح ما يكشف صحة هذا الاستنتاج. فهو واحد من النقاد الذين تباينت مواقفهم, وتعددت رؤاهم إزاء قصيدة النثر. ولاشك فقد كان له – كما كان لغيره من النقاد المجددين – فضلاً عن المبررات الفنية, مبرراتهم الموضوعية: كالانحياز للجديد والانتصار لأشكاله المختلفة مهما بلغت مغايرتها وتجاوزها. إلا أن الخروج الصارخ والمغايرة التامة في قصيدة النثر لما تأصل من أعراف الشعر وقوانينه مما ألفته الذائقة الجمعية يظل أهم المبررات التي صنعت تلك المواقف.
جناية الموقف النقدي:
وقبل أن نقف على حقيقة موقف المقالح, نعود فنؤكد أن النقد المجاني الذي جايل قصيدة النثر وناصر قضاياها بدون وعي منهجي أو نقدي لا يقل جناية عليها عن جناية بعض المواهب الضحلة والفقيرة التي مارست فوضى الكتابة الشعرية وأغرقت القصيدة بوابل الغموض والضبابية والتعمية وانتهكت أخص خصائص العمل الفني بمبرر التجريب والتحديث.
ولاشك في أن الخطاب النقدي هو من يتحمل فوضى الخطاب الشعري, ليس من منطلق الوصاية عليه – فذلك أمر مرفوض – بل من موقع المسؤولية الوظيفية؛ فإنارة الأعمال الإبداعية, وتوجيهها, وتقويمها, وإضاءة جوانب السلب أو الإيجاب فيها, هي وظيفة النقد وأصل وجوده. وعندما يتخلى النقد عن وظيفته وأصل وجوده, تتسابق الأصوات المتشاعرة, والمواهب الضحلة والفقيرة لأبسط مقومات الفن؛ لاعتلاء عرش الشعر والتباهي بالانتماء إلى مملكته العظيمة, وهو منها براء, ومن هذه الزاوية يرى بعض النقاد: «أن قصيدة النثر أصبحت في أغلب الكتابات «حمار الشعراء» يمتطيها كل من يفتقر إلى توازن كي يصعد سلم الشعر الطويل والصعب. وقد أدى هذا إلى سطوع نجم شعراء «حداثيين» ضحلي الموهبة فقراء في لغتهم وخيالهم. وعوض أن ينبري النقد العربي إلى تقويم هذه الوضعية الشعرية عبر تطوير المجهودات الأولى في التنظير لقصيدة النثر فإنه ساير تلك الجوقة المتنافرة الأصوات مرة تحت ذريعة النزعة الوصفية الفجة, وتارة عبر حشو المقاربة النقدية بمفاهيم غامضة تقمع القارئ, وتفقده ثقته بنفسه, وتلوي عنق النص من خلال تأويلات بعيدة, همها الوحيد أن تسبغ مشروعية على نص شعري, ليس فيه من الشعر سوى الاسم»(6).
إننا لن نبالغ إذا قلنا إن النقد قد أصيب في حضرة قصيدة النثر بجلطة دماغية وشلل نصفي أفقدته فاعليته وصوته النقي فغدا يهمهم بكلمات متناثرة غير مفهومة, وما يثير الاستغراب أن الشق الآخر منه – وهو المتجه صوب القصيدة الجديدة «قصيدة التفعيلة»– ظل معافىً وقائماً بدوره الوظيفي على الوجه الحسن, وهو ما يدفعنا للتساؤل عن أسباب أزمة النقد المصاحب لقصيدة النثر. ولأنه ليس في نيتنا تقصي كل أسباب الأزمة ومظاهرها – إذ ليس هذا مكانه – فإن ما يعنينا منها هو ما نعتقد أنه رأس الأسباب وذروة سنامها؛ ألا وهو غياب المرجعية النقدية والإطار النظري لهذا النمط من الكتابة سواء في خطابنا النقدي العربي, أو في الخطاب النقدي الغربي, وباستثناء كتاب الباحثة الفرنسية «سوزان برنار» الموسوم ب«قصيدة النثر منذ بودلير إلى الوقت الراهن» والذي هو في الأصل أطروحة الباحثة للدكتوراه وصدرت طبعته الأولى 1958م؛ فقد ولدت قصيدة النثر العربية «مصطلحاً ومفهوماً» خلوا من أي سند تأصيلي أو مرجعية نقدية.
وكان أدونيس قد تلقف الكتاب في طبعته الفرنسية ليطرح العام التالي لصدوره 1959م «قصيدة النثر», ويعدد خصائصها والتمايزات الأساسية بين الشعر والنثر. ساعده في تبني القصيدة والتنظير لها الشاعر اللبناني أنسي الحاج وبقية أعضاء مجلة «شعر» التي انحازت تماماً لهذا المشروع وقامت بدور المروج له.
في هذا السياق يرى غير واحد من النقاد والأدباء أن أدونيس قد أخذ حرفياً جهود «سوزان برنار» وما كتبته عن قصيدة النثر في مرجعيتها الغربية, ونظر به لقصيدة النثر العربية دون أن يشكك في تلك الجهود, أو أن يمارس عملية نقدية عليها(7). ويرى آخر – بعد مقابلته الأفكار الواردة في مقدمة ديوان «لن» بالأفكار الواردة في كتاب سوزان برنار «أن أنسي الحاج يترجم عبارات الناقدة الفرنسية أو يعيد صياغتها للتعبير عن رؤيته لمفهوم قصيدة النثر ولا جديد في كلام أنسي الحاج سوى الشحنة الحماسية والرغبة في الهدم»(8). وبعضهم يغالي فيرى أن «أدونيس أمم – لعشرين عاماً تالية – مصطلحات «سوزان برنار» حول الشعر: الكشف, الرؤيا, العرافة, الهدم, الشاعر النبي ...إلخ لتشكل مرتكزات خطابه الكتابي؛ فتنتقل – من جديد – عبره إلى الآخرين, دون إحالة – هذه المرة – إلى المصدر, أو معرفة به»(9). ومغالاة هذه النظرة يدفعنا للاختلاف وإياها, لعلمنا أن أدونيس – مهما كان موقفنا من بعض أفكاره – صاحب مشروع حداثوي نهضوي, وله رؤيته النقدية المستندة إلى كم معرفي تراثي قل أن يلتمس عند غيره من أعضاء حركة شعر أو أنصار الحداثة, ومع أننا لا نشك في إفادته من قراءته للآخر الغربي لكن لا أحد بإمكانه التشكيك في قدراته الإبداعية أو النقدية.
وما يعنينا من هذا كله أن قصيدة النثر في ولادتها العربية افتقرت كلياً لخلفية تنظيرية ذات جذور عربية, ومسوغ هذا الغياب – برأي الناقدة وجدان الصائغ – «الانقسام الحاد في أركان واقعنا الفكري بين متحمس لشرعية هويتها وضرورة حضورها المتسق مع طبيعة العصر وآلياته الجبارة.. في حين يصمها بعضهم بأقسى السمات حتى أنهم يقرنون بينها وبين التغريب من أجل تهميش التراث والإطاحة بالأصالة»(10), ولهذا ظلت معتمدة كلياً ومنذ يومها الأول على الإطار النظري الذي قدمه أدونيس وأنسي الحاج؛ وهو كما رأينا مستمد بحرفيته أو معاد الصياغة – على أحسن الأحوال – من كتاب «سوزان برنار» وتحديداً من فصول بعينها. وقد ظلت هذه النتف التي قدمها أدونيس والحاج المرجعية المتاحة – وربما الوحيدة – لكل من تتوق نفسه إلى معرفة الإطار النظري والمرجعية النقدية لقصيدة النثر ما يقرب من أربعين عاماً في ظل غياب تام للكتاب, لا ترجمة, لا قراءة نقدية, لا عرض للمحتويات, حتى أصبحت تلك الشذرات كما يقول رفعت سلام: «مواصفات جاهزة, مجردة, مطلقة لقصيدة النثر, صالحة لكل زمان ومكان.. بما حولها – تاريخياً – إلى «مانيفيستو» لقصيدة النثر العربية, سيدخل دائرة المحفوظات المقررة على الشعراء القادمين»(11). وقد استمر غياب الكتاب – وهو المرجع النقدي الوحيد لقصيدة النثر– إلى أن قام الباحث العراقي د/ زهير مجيد مغامس بأول ترجمة له صدرت عن دار المأمون ببغداد 1993م بمساحة300 ورقة, وفي المقدمة يقول المترجم: إن الكتاب في الأصل «814» ورقة وأنه – أي المترجم – قد نظر فيه فوجد للمؤلفة استطرادات كثيرة, وملاحظات هامشية, وقصائد لشعراء غير معروفين مما اضطره للتغاضي عن قسم كبير من ذلك, واكتفى بترجمة ما رآه جديداً ونافعاً مما يمكن أن يضيف لوناً جديداً إلى ألوان معرفتنا, وبمبرر فني بحت – حسب رأيه – تخلى المترجم أيضاً عن نقل بحور الشعر الفرنسي في الفصل الثاني, كما أهمل ما وصفه بالعرض التاريخي الطويل للدادية والسريالية بحجة أنها من الموضوعات التي باتت معروفة للقارئ العربي(12). يتضح من مقدمة المترجم أنه اجتزأ قسماً كبيراً من النص الأصلي للكتاب, وقد وصف الدكتور رفعت سلام هذا الاجتزاء بقوله: «إن الكتاب المترجم لا يساوي أكثر من عشر مساحته الكلية. وأما الحذف الذي أتى على تسعة أعشار الكتاب فلم يستند إلى معيار واحد.. ولهذا يصف الترجمة بالعشوائية(13). والحقيقة أن الكتاب جهد علمي متميز, ويكفي المترجم مجداً أنه جعله في متناول القارئ العربي: المتخصص والعادي بعد أن احتجب عنه ما يزيد عن أربعة عقود, ولو كانت ترجمته معيبة أو مبتسرة بالشكل الذي أشار إليه «سلام» ما حاز على المركز الأول كأفضل كتاب مترجم عام 1997م بعد أن أعادت الهيئة العامة لقصور الثقافة المصرية طباعته في ديسمبر 1996(14). ومع ذلك تبقى الملاحظة جديرة بالاحترام خاصة أنها صادرة عن باحث متخصص وله اتصال مباشر بالنص الأصلي للكتاب(15). وما يعنينا هو أن الكتاب حتى في ترجمته المتأخرة «1993» لم يمثل بأكمله أمام القارئ العربي. ومع ذلك فسنعد تاريخ صدور الترجمة الأولى منه – أيا كانت الملاحظات عليها– هو تاريخ الاطلاع على كتالوج قصيدة النثر(16). وإذا كان الأمر كذلك فللقارئ أن يتساءل – ونحن معه – عن الكيفية التي تعامل بها الخطاب النقدي, والمرجعية التي استند إليها في حواره وتعاطيه مع القصيدة..!! أم أنه وقف مبهوراً أمام هذا النص المغاير في اسمه, ونسبه, وشروطه الفنية كما وقف من قبل أمير الشعراء أحمد شوقي مبهوراً بتقنية الصاروخ والطائرة فكان وصفه لهما وصفاً شكلياً مسطحاً هو أقرب إلى التقرير منه إلى الشعر. والمؤسف حقاً أن يتمثل النقد هذه الوضعية, مكتفياً بما أملاه عليه موقف الانبهار والإعجاب, فأخذ يصف ويمدح بعيداً عن الغوص في أعماق القصيدة, ودون الاشتباك مع نماذجها المختلفة, والأدهي من ذلك أن هذا الموقف المسطح – المسمى مجازاً نقداً – لم يطرح نفسه بمنطق الحوار والموضوعية, بل إن النزق والتعصب كانا رئته التي يتنفس بها, ومنطقه الذي يحاور به. ولهذا ليس غريباً أن يتقلص جمهور قصيدة النثر, وينفض الناس من حولها, فخطاب – كهذا – لا يستند إلى قوة المرجعية والمحاجة المنطقية – ظناً منه بأن الزعيق كفيل بإرهاب الآخر وبالتالي إقناعه – هو خطاب لا يخدم نفسه فضلاً عن خدمة من يصرخ باسمه, بل إن جنايته عليه أكبر من جنايته على نفسه لأنه أصلاً في حكم المنتهي.
وفي هذا السياق يرى الناقد الدكتور عبدالعزيز المقالح أن خطورة هذا المسلك النقدي, وجنايته على قصيدة النثر لا يقل عن الجناية التي ألحقها بها أعداؤها, كما يقول: «إذا كانت تسمية هذا الجديد الشعري ب«قصيدة النثر» قد أعاقت انتشاره, وأفقدته التعاطف الحميم, وإذا كان التشكيك في نشأته العربية قد أفقده جمهوراً واسعاً من محبي التراث وأنصاره, فإن النقد المتعصب المتحرر من الموضوعية قد جنى على هذا الجديد الشعري ربما أضعاف ما جنته التسمية والتشكيك معاً, وأية جناية في حق هذا الشكل الإبداعي الأجد قياساً لأقدميته من هذا التسطيح النقدي»(17), ويستدل المقالح بعينة لهذا النقد بقول السوري محمد عضيمة: «قصيدة النثر هي قصيدة وعي وصحو, أما قصيدة الإيقاع فهي قصيدة سكر ودوخة.. ألم نتعب من الدوران والدوخة, ألم تضجر الذائقة العربية من الإيقاع وسلاسته.. التفعيلة في طريقها إلى الانقراض.. ألا يكفيها هذا الزمن الممتد.. أنصح شعراء الإيقاع بأن يكتبوا المراثي لشاهدات قبور قصائدهم الموقعة.. وكما الشعر العمودي سوف نجهز على التفعيلة, ويضيف عضيمة: إن شعراء التفعيلة والأنظمة الديكتاتورية العربية توأمان ابتلت بهما الأمة منذ الاستقلال ولحد الساعة– وإنه – مع قصيدة النثر بدأت تباشير الديمقراطية سياسياً وفنياً.. وإن شعراء التفعيلة أو العموديين الجدد, يدربهم الإيقاع على العبودية والذل والتبعية ولذا سرعان ما يستجيبون لأدنى إشارة من السلطة ومن الحاكم الثقافي والسياسي»(18), يعقب المقالح على هذه العينة المجانية من النقد فيقول: هل وصل النقد الأدبي العربي إلى هذه الدرجة من فقدان المعايير الفنية والاجتماعية والأخلاقية؟ وهل هناك أسوأ أو أشنع من مثل هذه المحاولة الجسور للإساءة إلى إبداعنا الشعري بأشكاله المختلفة؟ وهل رداءة الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي وراء هذه الرداءة النقدية؟ وكم عدد الذين سوف يستجيبون لهذا الصوت في الحياة الأدبية تلك التي تتعايش فيها الأشكال أو تختلف في حدود من الموضوعية والرؤية الحريصة على التبشير بالجديد والأجد, ومن منطلقات تؤسس لمستقبل مختلف يقوم على تراكم معرفي وثقافي لا يصدر فيه الإبداع عن فراغ مميت(19).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.