حرب الهيمنة الإقتصادية على الممرات المائية..    "خساسة بن مبارك".. حارب أكاديمي عدني وأستاذ قانون دولي    عرض سعودي في الصورة.. أسباب انهيار صفقة تدريب أنشيلوتي لمنتخب البرازيل    رئيس الوزراء يوجه باتخاذ حلول اسعافية لمعالجة انقطاع الكهرباء وتخفيف معاناة المواطنين    عبدالله العليمي عضو مجلس القيادة يستقبل سفراء الاتحاد الأوروبي لدى بلادنا    هل سمعتم بالجامعة الاسلامية في تل أبيب؟    لأول مرة منذ مارس.. بريطانيا والولايات المتحدة تنفذان غارات مشتركة على اليمن    وكالة: باكستان تستنفر قواتها البرية والبحرية تحسبا لتصعيد هندي    هدوء حذر في جرمانا السورية بعد التوصل لاتفاق بين الاهالي والسلطة    جاذبية المعدن الأصفر تخفُت مع انحسار التوترات التجارية    الوزير الزعوري يهنئ العمال بمناسبة عيدهم العالمي الأول من مايو    عن الصور والناس    حروب الحوثيين كضرورة للبقاء في مجتمع يرفضهم    أزمة الكهرباء تتفاقم في محافظات الجنوب ووعود الحكومة تبخرت    النصر السعودي و كاواساكي الياباني في نصف نهائي دوري أبطال آسيا    الأهلي السعودي يقصي مواطنه الهلال من الآسيوية.. ويعبر للنهائي الحلم    إغماءات وضيق تنفُّس بين الجماهير بعد مواجهة "الأهلي والهلال"    البيض: اليمن مقبل على مفترق طرق وتحولات تعيد تشكيل الواقع    اعتقال موظفين بشركة النفط بصنعاء وناشطون يحذرون من اغلاق ملف البنزين المغشوش    مثلما انتهت الوحدة: انتهت الشراكة بالخيانة    الوجه الحقيقي للسلطة: ضعف الخدمات تجويع ممنهج وصمت مريب    رسالة إلى قيادة الانتقالي: الى متى ونحن نكركر جمل؟!    غريم الشعب اليمني    درع الوطن اليمنية: معسكرات تجارية أم مؤسسة عسكرية    جازم العريقي .. قدوة ومثال    دعوتا السامعي والديلمي للمصالحة والحوار صرخة اولى في مسار السلام    العقيق اليماني ارث ثقافي يتحدى الزمن    إب.. مليشيا الحوثي تتلاعب بمخصصات مشروع ممول من الاتحاد الأوروبي    مليشيا الحوثي تواصل احتجاز سفن وبحارة في ميناء رأس عيسى والحكومة تدين    معسرون خارج اهتمامات الزكاة    منظمة العفو الدولية: إسرائيل ترتكب جريمة إبادة جماعية على الهواء مباشرة في غزة    تراجع أسعار النفط الى 65.61 دولار للبرميل    الدكتوراه للباحث همدان محسن من جامعة "سوامي" الهندية    الاحتلال يواصل استهداف خيام النازحين وأوضاع خطيرة داخل مستشفيات غزة    نهاية حقبته مع الريال.. تقارير تكشف عن اتفاق بين أنشيلوتي والاتحاد البرازيلي    الصحة العالمية:تسجيل27,517 إصابة و260 وفاة بالحصبة في اليمن خلال العام الماضي    "كاك بنك" وعالم الأعمال يوقعان مذكرة تفاهم لتأسيس صندوق استثماري لدعم الشركات الناشئة    لوحة "الركام"، بين الصمت والأنقاض: الفنان الأمريكي براين كارلسون يرسم خذلان العالم لفلسطين    اتحاد كرة القدم يعين النفيعي مدربا لمنتخب الشباب والسنيني للأولمبي    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    النقابة تدين مقتل المخرج مصعب الحطامي وتجدد مطالبتها بالتحقيق في جرائم قتل الصحفيين    رئيس كاك بنك يعزي وكيل وزارة المالية وعضو مجلس إدارة البنك الأستاذ ناجي جابر في وفاة والدته    اتحاد نقابات الجنوب يطالب بإسقاط الحكومة بشكل فوري    برشلونة يتوج بكأس ملك إسبانيا بعد فوز ماراثوني على ريال مدريد    الأزمة القيادية.. عندما يصبح الماضي عائقاً أمام المستقبل    أطباء بلا حدود تعلق خدماتها في مستشفى بعمران بعد تعرض طاقمها لتهديدات حوثية    غضب عارم بعد خروج الأهلي المصري من بطولة أفريقيا    علامات مبكرة لفقدان السمع: لا تتجاهلها!    حضرموت اليوم قالت كلمتها لمن في عينيه قذى    القلة الصامدة و الكثرة الغثاء !    عصابات حوثية تمتهن المتاجرة بالآثار تعتدي على موقع أثري في إب    حضرموت والناقة.! "قصيدة "    حضرموت شجرة عملاقة مازالت تنتج ثمارها الطيبة    الأوقاف تحذر المنشآت المعتمدة في اليمن من عمليات التفويج غير المرخصة    ازدحام خانق في منفذ الوديعة وتعطيل السفر يومي 20 و21 أبريل    يا أئمة المساجد.. لا تبيعوا منابركم!    دور الشباب في صناعة التغيير وبناء المجتمعات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التسعينيون : القطيعة والانفتاح
نشر في رأي يوم 04 - 11 - 2009

يؤشر القاص اليمني الشاب (أحمد زين) في مقالة له حول (قصيدة النثر التسعينية في اليمن)(1) مرحلة جيلية يرى تجلياتها..
– من ضمن مبررات تأشيره لها – في صدور بعض الدواوين وإنجاز العديد من التجارب كما يقول.
ولأحمد زين أسبابه التي تبرر حماسته لهذا الجيل الذي يرى أن قصيدته (تحاول طرح قيم جمالية أكثر اقتراباً، مع المحافظة على خصوصيتها وهويتها).
إننا نلمح في هذا التشخيص محاولة لعزل تجارب قصائد النثر اليمنية عما أسماه زين (النماذج العليا)، ويقصد بها التجارب العربية في هذا النوع، وذلك ما نخالفه فيه، انطلاقاً من اعتقادنا بأن مشروع الحداثة – وقصيدة النثر إحدى تجلياته وأبرز مظاهره – هو مشروع موحد، لا تفصله حدود، لأنه ثقافي وفكري في المقام الأول، لكننا نوافق الكاتب على ما شخّصه فنياً وجمالياً في تجارب قصيدة النثر التسعينية، لاسيما في وصفه زاوية النظر واللغة ورصد موقع الأنا والصلة بالموضوع، فهو يشيد باقترابها من الحياة اليومية وتفاصيلها، أمكنة وأشياء وشخصيات، ولعله بذلك يؤكد النزوع السردي لقصيدة النثر التسعينية، بمقابل النزعة الإنشائية أو الوصفية في تجارب الجيل الأول من كتابها.
وثاني التفاتات الزين التي أشّرتها بدوري في معالجات نقدية سابقة : انطلاق شعراء قصيدة النثر من تجربة كتابتها أولاً، وحصر جهدهم فيها دون سواها من الأشكال الشعرية الأخرى، فكأنها تُجسد اختيارهم الواعي والقصدي، بل ذلك – في ظني – جزء من استراتيجيات فكرهم الشعري وثقافتهم، وليس تكتيكياً فنياً أو انسياقاً للحظة الكتابة السائدة أو ( الموضة ) الفنية.
اختيار قصيدة النثر لدى التسعينيين إذن تعبير عن موقف ثقافي أولاً يعلنون فيه - وأنا هنا أتوسع من ملاحظات أحمد زين الذكية والدقيقة - قطيعتهم مع الكتابة الشعرية السابقة عليهم، وتردد شعرائها في اختيار قصيدة النثر. لكن تلك القطيعة تتسع لتشمل (انقطاعاً) يتوجس منه مراقبو الكتابة الشعرية من النقاد، والقراء المهتمون، أعني الانقطاع عن المحيط الفني والفكري للكتابة الجديدة. فكثيراً ما نلاحظ ضعف الصلة بالنتاج المماثل في الأقطار العربية تواصلاً وتداولاً، وهنا تلعب عدة عوامل دوراً بارزاً في ذلك الانقطاع، ومنها ضعف الاتصال الثقافي، والتداول المحدود للنشر، إضافة إلى كسل بعض الشعراء وعدم المحاولة الجادة بالقراءة والمتابعة لتوسيع أفق قراءاتهم وخبراتهم ومعارفهم.. هنا تصبح المطالبة بالانفتاح على جديد الشعر العربي (كما يسميه أحمد زين) ضرورية وقائمة، بل تصبح المقابل الضروري لتلك القطيعة التي تتأسس وتتسع إزاء آليات الكتابة الشعرية السائدة.
وسيلاحظ قارئ كتابنا أن الموجة الأخيرة – وهم التسعينيون تحديداً كالمقري والشيباني والزراعي وعبد الوكيل السروري وهدى أبلان والسلامي وحاجب ومحمد المنصور وبوقاسم وأبو زينة وأقرانهم – يتمثلون كل بطريقته ودرجة كفاءته ومخزونه اللغوي والثقافي، وحدود رؤيته، منجزات قصيدة النثر العربية - والعالمية إلى حد ما وعبر الترجمة غالباً – ويجربون إمكاناتها والمتاح من آلياتها لرصد ما حولهم، وهو في رأيي أبعد من حدود استثمار مفردات حياتهم اليومية كالشخصيات والأحداث والأشياء والأزمنة والأمكنة، لأنهم يحتكون بما حولهم كونياً أي بالنظر إلى عمق الأشياء ودلالاتها، وإلى ظواهر الحياة والموت والحب وتنويعاتها، وإن ظهر لنا أحياناً احتفاء حاد منهم بالمسميات أو الموجودات المهمشة والمقصاة ( لدى الشيباني خاصة والمقري في بعض قصائده) لكن تجارب أخرى تميل إلى تجريد التصادم مع الواقع ورفضه، واشتقاق مواقف (وجودية) بالمعنى الانطولوجي تصالح الإنسان مع الطبيعة، كما يحصل في قصائد أحمد الزراعي بشكل واضح.. وبين الإنسان وتاريخه وذاكرته كما في تجربة محمد المنصور.
وذلك الاختلاف سيجعل أسلوبيات الكتابة مختلفة أيضاً وليست متناظرة أو متشابهة لحد التطابق، كما يساق الاتهام ضدهم في العادة.. فثمة قصائد تميل للتركيز والتكثيف في إطار الحكمة وفي أنساق عقلانية مجردة، بينما ترتكز قصائد أخرى على السرد والأبيات الطويلة ذات الطابع السطري والجمل الشعرية المتلازمة في تدوير جديد، لا يعتمد الموسيقى رابطاً عضوياً كما في التدوير الشعري الحر، وإنما في تلازم العبارات وتسلسلها الإيقاعي وتأديتها لدلالة مشتركة أو واحدة، فضلاً عن اللغة الأليفة ذات المفردات المموهة التي تخفي دلالات عميقة حادة التعارض، بينما هي تقدم نفسها ببراءة، وبساطة. وسوف يتأكد هذا المنحى في قصائد لشعراء أكثر فتوة في هذا الاصطفاف التسعيني مثل نبيل سبيع وعمار النجار وإياد الحاج ومحمد محمد اللوزي. فإضافة إلى السرد في قصائدهم والتركيز اللغوي ثمة هاجس بالضدية و الانشقاق، يشكل بؤرة الشعر في تجاربهم ويؤطرها بما يجعلهم مميزين عن سابقيهم.
ولعل الكتاب النقدي الأول المعبر عن فكر هذه المجموعة التسعينية أعني (الكتابة الجديدة – هوامش على المشهد الإبداعي في اليمن) لشاعر من المجموعة نفسها هو أحمد السلامي، يؤكد توصلاتنا الآنفة.
فالسلامي في أحد مقالات الكتاب يؤكد المسؤولية الذاتية في إنجاز مشروع الحداثة عبر قصيدة النثر التي لم تعد " إطاراً عاماً للاشتغال الشعري " يجمع المنضوين تحته، فنحن الآن – يقول السلامي – " بإزاء تجارب فردية مهما برزت الأطر الفردية التي نتوهم أنها تجمعنا "(2) ولذلك يرفض السلامي في مقالته تلك أن تكون كتابة قصيدة النثر – أو الكتابة الجديدة بتسميته – " نابعة من الاستجابة لمحفزات من خارج الكتابة نفسها " ويضرب لذلك مثلاً بالكتابة الجاهزة، ويعني بها المتمثلة لأنماط شائعة أو الممتثلة إلى موجهات خارجية.
لكن السلامي نفسه يتحدث عن صفقة تسعينية واحدة حين يتحدث في مكان آخر من كتابه عن جيلهم الذي يرى أنه بلا آباء، مما سيدفعهم إلى الانتماء لأسرة غريبة الجغرافية من جيل أسبق، يسمّي منهم العراقي سركون بولص والأردني أمجد ناصر واللبناني عباس بيضون واللبناني المهاجر وديع سعادة، وبالمقابل ينفي استفادة جيله من تجارب الموجة الأولى من شعراء قصيدة النثر اليمنية كالفخري والمساح واللوزي (حسن) والربيع والرازحي.
ويثير السلامي هنا مسألة تبدل المرجعيات والمؤثرات. وهو أمر بديهي أشرنا إليه كثيراً، بل هو أبرز العلامات الفارقة لجيل قصيدة النثر العربية التسعيني كله، فإذا كان أدونيس وأنسي الحاج والماغوط وسواهم قد أثروا في الجيل التالي من شعراء قصيدة النثر، فإن من الطبيعي أن تتبدل الأسماء والمراجع لدى الجيل الثالث. وهذا ما أعلنه السلامي وما رصدناه في دراسات سابقة.. وهو أمر مشترك ينفي التميز التام والعزلة في تجارب التسعينيين، لكنه لا يعني تشابههم لحد الاستنساخ، كما يوحي بعض ناقديهم.
وإذا كنت أخالف السلامي اتهامه للمشهد التسعيني (بالارتباك) وبالتردد، وعدم حسم اختيار الشكل الجديد (قصيدة النثر) نهائياً بدليل النصوص المتقدمة في هذا المجال وتطوير التجارب عبر الكتابة الشعرية المستمرة خلال السنين الأخيرة.. فإنني سأوافقه على أن من أسباب ذلك (الارتباك) – كما يقول – هو غياب فاعلية النقد وعدم إسهامه جدياً في رصد التحولات الأسلوبية ودراستها نصياً، ورتابة الذائقة التي تتلقى النصوص الجديدة بمعايير النظم السابق فترفضها وتعاديها وتحرّم كتابتها.. لكنني أرى أن اختيار الشاعر لأسلوب كتابته تقليداً أو تجديداً أو تحديثاً هو أمر تفرضه طبيعة التجربة، وحدود الوعي بالشعر نفسه، ورؤية الشاعر وإيقاعه الذي يعكس فكره وموقفه.
وبهذه المعاينات والمقاربات ستتبلور هوية خاصة لشعراء التسعينيات، تظل مسؤوليتهم الأولى – قبل قرائهم ونقادهم – في عملية ترسيخها عبر النصوص، ومواصلة مشروع التحديث إلى أقصى مدى ممكن.
وستكون تجربة (طيارة ورقية) التي أصدر عدديها – حتى الآن – شعراء وقاصون وكتاب وفنانون تسعينيون، إحدى ملامح المشروع الجديد ومظاهر بلورة الشخصية الأسلوبية المميزة للكتابة الجديدة.
خاتمة
عن البدايات والوعود
بذرائع المستقبل، وعبور مرارات الحاضر وخسائر الماضي، نهضت قصيدة النثر. لذا فقد كسبت شباب الكتابة، دون قياس الأجيال والأعمار. وهكذا استمدت شرعيتها من بداهة التطور وحتمية التحول والتجاوز. ولا أشك في أن ثمانية وثلاثين صوتاً ونصاً جردها البحث، تمثل ظاهرة جديرة بالتأمل والتحليل.
لقد لمسنا بدايات، ووقفنا عند تحولات، وأشرنا إلى بشارات، لكن الأهم من ذلك هو التعرف على ما يهبه خطاب قصيدة النثر من ملموسية على مستوى البناء والدلالة والإيقاع واللغة والهيئة الكتابية.
إن ديوان (قصيدة النثر) العربي سوف يثرى بجملة من هذه الأصوات.. بإضافات عبد الودود سيف والرازحي وهيثم وشفيق.. وبمستقبل الشيباني والمقري والزراعي والمنصور و وعود سبيع والنجار واللوزي.. ولا أشك في أن النقد الأدبي المتسلح بالمنهجية والرؤية معاً: سيكون مجحفاً إن لم يتوقف عند هذا النسغ الحي في شجرة الشعر الوارفة..
ولهذا سأجعل الخاتمة مفتوحة لأية إضافة أو تعديل أو تغيير.. ففي الشعر لا ندري من أين يطلع الزلزال ولا كيف يخمد البركان أو تمطر السحب (3) لكننا متيقنون أن رحم الشعر ولود.. وكونك شاعراً يعني أنك حديث الصوت واليد واللسان.. وأنك لا تكف _ كالنمر الحبيس _ من الوثوب متطلعاً إلى الأعلى.. وإلى سماوات لم تسكنها بعد نجوم..
هوامش:
- مقتطف من كتاب للمؤلف بعنوان "قصيدة النثر في اليمن – أجيال وأصوات"
1- أحمد زين : قصيدة النثر التسعينية في اليمن، تشوف القطيعة مع الداخل وحلم الانفتاح على جديد الشعر العربي، جريدة القدس العربي 14 / 1 2001م.
2- أحمد السلامي : الكتابة الجديدة، هوامش على المشهد الإبداعي التسعيني في اليمن، مركز عبادي للنشر، صنعاء 2003م، ص121.
3- يدرس علوي الهاشمي في مقالته المشار إليها في الهامش (5)، الجوانب التواصلية في قصيدة النثر قراءة وإنشاداً. ويشير إلى ارتباط مستقبل الشعر العربي بها، ص24، وهو ما أعلنه ناقد كالدكتور إحسان عباس الذي يرى أن لا مفر من أن يقود مستقبل القصيدة العربية إلى مستقبل قصيدة النثر يراجع الهامش 16 في دراسة الهاشمي. فيما يعتبر المقالح في دراسته (من الجديد إلى الأجد) أن المرحلة الراهنة هي مرحلة الشعر الأجد. مجلة أصوات، العدد الأول – ص13.
وأرى أن الكتابة والتقبل معاً لقصيدة النثر المتوفرة على قوانين هذا النوع ولما فيه من شعرية مغايرة، أخذت تترسخ عبر النماذج المكتوبة خلال السنوات الأخيرة، مما يلزم النقد بالاقتراب من هذه النماذج تحليلاً وتنظيراً دون تخوفات مسبقة، مع مراعاة توفر النماذج على حدود الفن المطلوبة.
يؤشر القاص اليمني الشاب (أحمد زين) في مقالة له حول (قصيدة النثر التسعينية في اليمن)(1) مرحلة جيلية يرى تجلياتها..
– من ضمن مبررات تأشيره لها – في صدور بعض الدواوين وإنجاز العديد من التجارب كما يقول.
ولأحمد زين أسبابه التي تبرر حماسته لهذا الجيل الذي يرى أن قصيدته (تحاول طرح قيم جمالية أكثر اقتراباً، مع المحافظة على خصوصيتها وهويتها).
إننا نلمح في هذا التشخيص محاولة لعزل تجارب قصائد النثر اليمنية عما أسماه زين (النماذج العليا)، ويقصد بها التجارب العربية في هذا النوع، وذلك ما نخالفه فيه، انطلاقاً من اعتقادنا بأن مشروع الحداثة – وقصيدة النثر إحدى تجلياته وأبرز مظاهره – هو مشروع موحد، لا تفصله حدود، لأنه ثقافي وفكري في المقام الأول، لكننا نوافق الكاتب على ما شخّصه فنياً وجمالياً في تجارب قصيدة النثر التسعينية، لاسيما في وصفه زاوية النظر واللغة ورصد موقع الأنا والصلة بالموضوع، فهو يشيد باقترابها من الحياة اليومية وتفاصيلها، أمكنة وأشياء وشخصيات، ولعله بذلك يؤكد النزوع السردي لقصيدة النثر التسعينية، بمقابل النزعة الإنشائية أو الوصفية في تجارب الجيل الأول من كتابها.
وثاني التفاتات الزين التي أشّرتها بدوري في معالجات نقدية سابقة : انطلاق شعراء قصيدة النثر من تجربة كتابتها أولاً، وحصر جهدهم فيها دون سواها من الأشكال الشعرية الأخرى، فكأنها تُجسد اختيارهم الواعي والقصدي، بل ذلك – في ظني – جزء من استراتيجيات فكرهم الشعري وثقافتهم، وليس تكتيكياً فنياً أو انسياقاً للحظة الكتابة السائدة أو ( الموضة ) الفنية.
اختيار قصيدة النثر لدى التسعينيين إذن تعبير عن موقف ثقافي أولاً يعلنون فيه - وأنا هنا أتوسع من ملاحظات أحمد زين الذكية والدقيقة - قطيعتهم مع الكتابة الشعرية السابقة عليهم، وتردد شعرائها في اختيار قصيدة النثر. لكن تلك القطيعة تتسع لتشمل (انقطاعاً) يتوجس منه مراقبو الكتابة الشعرية من النقاد، والقراء المهتمون، أعني الانقطاع عن المحيط الفني والفكري للكتابة الجديدة. فكثيراً ما نلاحظ ضعف الصلة بالنتاج المماثل في الأقطار العربية تواصلاً وتداولاً، وهنا تلعب عدة عوامل دوراً بارزاً في ذلك الانقطاع، ومنها ضعف الاتصال الثقافي، والتداول المحدود للنشر، إضافة إلى كسل بعض الشعراء وعدم المحاولة الجادة بالقراءة والمتابعة لتوسيع أفق قراءاتهم وخبراتهم ومعارفهم.. هنا تصبح المطالبة بالانفتاح على جديد الشعر العربي (كما يسميه أحمد زين) ضرورية وقائمة، بل تصبح المقابل الضروري لتلك القطيعة التي تتأسس وتتسع إزاء آليات الكتابة الشعرية السائدة.
وسيلاحظ قارئ كتابنا أن الموجة الأخيرة – وهم التسعينيون تحديداً كالمقري والشيباني والزراعي وعبد الوكيل السروري وهدى أبلان والسلامي وحاجب ومحمد المنصور وبوقاسم وأبو زينة وأقرانهم – يتمثلون كل بطريقته ودرجة كفاءته ومخزونه اللغوي والثقافي، وحدود رؤيته، منجزات قصيدة النثر العربية - والعالمية إلى حد ما وعبر الترجمة غالباً – ويجربون إمكاناتها والمتاح من آلياتها لرصد ما حولهم، وهو في رأيي أبعد من حدود استثمار مفردات حياتهم اليومية كالشخصيات والأحداث والأشياء والأزمنة والأمكنة، لأنهم يحتكون بما حولهم كونياً أي بالنظر إلى عمق الأشياء ودلالاتها، وإلى ظواهر الحياة والموت والحب وتنويعاتها، وإن ظهر لنا أحياناً احتفاء حاد منهم بالمسميات أو الموجودات المهمشة والمقصاة ( لدى الشيباني خاصة والمقري في بعض قصائده) لكن تجارب أخرى تميل إلى تجريد التصادم مع الواقع ورفضه، واشتقاق مواقف (وجودية) بالمعنى الانطولوجي تصالح الإنسان مع الطبيعة، كما يحصل في قصائد أحمد الزراعي بشكل واضح.. وبين الإنسان وتاريخه وذاكرته كما في تجربة محمد المنصور.
وذلك الاختلاف سيجعل أسلوبيات الكتابة مختلفة أيضاً وليست متناظرة أو متشابهة لحد التطابق، كما يساق الاتهام ضدهم في العادة.. فثمة قصائد تميل للتركيز والتكثيف في إطار الحكمة وفي أنساق عقلانية مجردة، بينما ترتكز قصائد أخرى على السرد والأبيات الطويلة ذات الطابع السطري والجمل الشعرية المتلازمة في تدوير جديد، لا يعتمد الموسيقى رابطاً عضوياً كما في التدوير الشعري الحر، وإنما في تلازم العبارات وتسلسلها الإيقاعي وتأديتها لدلالة مشتركة أو واحدة، فضلاً عن اللغة الأليفة ذات المفردات المموهة التي تخفي دلالات عميقة حادة التعارض، بينما هي تقدم نفسها ببراءة، وبساطة. وسوف يتأكد هذا المنحى في قصائد لشعراء أكثر فتوة في هذا الاصطفاف التسعيني مثل نبيل سبيع وعمار النجار وإياد الحاج ومحمد محمد اللوزي. فإضافة إلى السرد في قصائدهم والتركيز اللغوي ثمة هاجس بالضدية و الانشقاق، يشكل بؤرة الشعر في تجاربهم ويؤطرها بما يجعلهم مميزين عن سابقيهم.
ولعل الكتاب النقدي الأول المعبر عن فكر هذه المجموعة التسعينية أعني (الكتابة الجديدة – هوامش على المشهد الإبداعي في اليمن) لشاعر من المجموعة نفسها هو أحمد السلامي، يؤكد توصلاتنا الآنفة.
فالسلامي في أحد مقالات الكتاب يؤكد المسؤولية الذاتية في إنجاز مشروع الحداثة عبر قصيدة النثر التي لم تعد " إطاراً عاماً للاشتغال الشعري " يجمع المنضوين تحته، فنحن الآن – يقول السلامي – " بإزاء تجارب فردية مهما برزت الأطر الفردية التي نتوهم أنها تجمعنا "(2) ولذلك يرفض السلامي في مقالته تلك أن تكون كتابة قصيدة النثر – أو الكتابة الجديدة بتسميته – " نابعة من الاستجابة لمحفزات من خارج الكتابة نفسها " ويضرب لذلك مثلاً بالكتابة الجاهزة، ويعني بها المتمثلة لأنماط شائعة أو الممتثلة إلى موجهات خارجية.
لكن السلامي نفسه يتحدث عن صفقة تسعينية واحدة حين يتحدث في مكان آخر من كتابه عن جيلهم الذي يرى أنه بلا آباء، مما سيدفعهم إلى الانتماء لأسرة غريبة الجغرافية من جيل أسبق، يسمّي منهم العراقي سركون بولص والأردني أمجد ناصر واللبناني عباس بيضون واللبناني المهاجر وديع سعادة، وبالمقابل ينفي استفادة جيله من تجارب الموجة الأولى من شعراء قصيدة النثر اليمنية كالفخري والمساح واللوزي (حسن) والربيع والرازحي.
ويثير السلامي هنا مسألة تبدل المرجعيات والمؤثرات. وهو أمر بديهي أشرنا إليه كثيراً، بل هو أبرز العلامات الفارقة لجيل قصيدة النثر العربية التسعيني كله، فإذا كان أدونيس وأنسي الحاج والماغوط وسواهم قد أثروا في الجيل التالي من شعراء قصيدة النثر، فإن من الطبيعي أن تتبدل الأسماء والمراجع لدى الجيل الثالث. وهذا ما أعلنه السلامي وما رصدناه في دراسات سابقة.. وهو أمر مشترك ينفي التميز التام والعزلة في تجارب التسعينيين، لكنه لا يعني تشابههم لحد الاستنساخ، كما يوحي بعض ناقديهم.
وإذا كنت أخالف السلامي اتهامه للمشهد التسعيني (بالارتباك) وبالتردد، وعدم حسم اختيار الشكل الجديد (قصيدة النثر) نهائياً بدليل النصوص المتقدمة في هذا المجال وتطوير التجارب عبر الكتابة الشعرية المستمرة خلال السنين الأخيرة.. فإنني سأوافقه على أن من أسباب ذلك (الارتباك) – كما يقول – هو غياب فاعلية النقد وعدم إسهامه جدياً في رصد التحولات الأسلوبية ودراستها نصياً، ورتابة الذائقة التي تتلقى النصوص الجديدة بمعايير النظم السابق فترفضها وتعاديها وتحرّم كتابتها.. لكنني أرى أن اختيار الشاعر لأسلوب كتابته تقليداً أو تجديداً أو تحديثاً هو أمر تفرضه طبيعة التجربة، وحدود الوعي بالشعر نفسه، ورؤية الشاعر وإيقاعه الذي يعكس فكره وموقفه.
وبهذه المعاينات والمقاربات ستتبلور هوية خاصة لشعراء التسعينيات، تظل مسؤوليتهم الأولى – قبل قرائهم ونقادهم – في عملية ترسيخها عبر النصوص، ومواصلة مشروع التحديث إلى أقصى مدى ممكن.
وستكون تجربة (طيارة ورقية) التي أصدر عدديها – حتى الآن – شعراء وقاصون وكتاب وفنانون تسعينيون، إحدى ملامح المشروع الجديد ومظاهر بلورة الشخصية الأسلوبية المميزة للكتابة الجديدة.
خاتمة
عن البدايات والوعود
بذرائع المستقبل، وعبور مرارات الحاضر وخسائر الماضي، نهضت قصيدة النثر. لذا فقد كسبت شباب الكتابة، دون قياس الأجيال والأعمار. وهكذا استمدت شرعيتها من بداهة التطور وحتمية التحول والتجاوز. ولا أشك في أن ثمانية وثلاثين صوتاً ونصاً جردها البحث، تمثل ظاهرة جديرة بالتأمل والتحليل.
لقد لمسنا بدايات، ووقفنا عند تحولات، وأشرنا إلى بشارات، لكن الأهم من ذلك هو التعرف على ما يهبه خطاب قصيدة النثر من ملموسية على مستوى البناء والدلالة والإيقاع واللغة والهيئة الكتابية.
إن ديوان (قصيدة النثر) العربي سوف يثرى بجملة من هذه الأصوات.. بإضافات عبد الودود سيف والرازحي وهيثم وشفيق.. وبمستقبل الشيباني والمقري والزراعي والمنصور و وعود سبيع والنجار واللوزي.. ولا أشك في أن النقد الأدبي المتسلح بالمنهجية والرؤية معاً: سيكون مجحفاً إن لم يتوقف عند هذا النسغ الحي في شجرة الشعر الوارفة..
ولهذا سأجعل الخاتمة مفتوحة لأية إضافة أو تعديل أو تغيير.. ففي الشعر لا ندري من أين يطلع الزلزال ولا كيف يخمد البركان أو تمطر السحب (3) لكننا متيقنون أن رحم الشعر ولود.. وكونك شاعراً يعني أنك حديث الصوت واليد واللسان.. وأنك لا تكف _ كالنمر الحبيس _ من الوثوب متطلعاً إلى الأعلى.. وإلى سماوات لم تسكنها بعد نجوم..
هوامش:
- مقتطف من كتاب للمؤلف بعنوان "قصيدة النثر في اليمن – أجيال وأصوات"
1- أحمد زين : قصيدة النثر التسعينية في اليمن، تشوف القطيعة مع الداخل وحلم الانفتاح على جديد الشعر العربي، جريدة القدس العربي 14 / 1 2001م.
2- أحمد السلامي : الكتابة الجديدة، هوامش على المشهد الإبداعي التسعيني في اليمن، مركز عبادي للنشر، صنعاء 2003م، ص121.
3- يدرس علوي الهاشمي في مقالته المشار إليها في الهامش (5)، الجوانب التواصلية في قصيدة النثر قراءة وإنشاداً. ويشير إلى ارتباط مستقبل الشعر العربي بها، ص24، وهو ما أعلنه ناقد كالدكتور إحسان عباس الذي يرى أن لا مفر من أن يقود مستقبل القصيدة العربية إلى مستقبل قصيدة النثر يراجع الهامش 16 في دراسة الهاشمي. فيما يعتبر المقالح في دراسته (من الجديد إلى الأجد) أن المرحلة الراهنة هي مرحلة الشعر الأجد. مجلة أصوات، العدد الأول – ص13.
وأرى أن الكتابة والتقبل معاً لقصيدة النثر المتوفرة على قوانين هذا النوع ولما فيه من شعرية مغايرة، أخذت تترسخ عبر النماذج المكتوبة خلال السنوات الأخيرة، مما يلزم النقد بالاقتراب من هذه النماذج تحليلاً وتنظيراً دون تخوفات مسبقة، مع مراعاة توفر النماذج على حدود الفن المطلوبة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.