كيف يتم النظر إلى المثقف: كفرد أم كعضو في جماعة خصوصاً في ضوء نشوء جماعات المثقفين المتعددة أو الإنتلجنسيا من مديرين أو أساتذة جامعيين وصحافيين وخبراء حكوميين ومستشارين؟ ألا يهدد انتماؤه إلى جماعة أو مؤسسة يكسب منها قوته فرديته وصوته الشخصي؟ يقول سعيد إنه لابد من النظر إلى هذه المسألة بمزيج من الواقعية والمثالية؛ فلا يمكن أن يخون المثقفون لمجرد أنهم يعملون في جامعة ما أو صحيفة ما.. في الوقت ذاته, لا يمكن النظر إليهم باعتبارهم فرساناً بلغوا حدود الكمال وقبضوا على جوهر الحقيقة.. المهم في الأمر أن يكون صوت المثقف مسموعاً وأن يثير النقاشات والجدل.. إن الإذعان الكلي والمعارضة الكلية كلاهما مرفوضان ولا ينبغي الركون إلى أحدهما.. من جهة أخرى يشير كتاب المثقف اليساري الأمريكي رسل جاكوبي(آخر المثقفين) إلى اختفاء المثقف غير الأكاديمي وخلو الساحة لمجموعة من الأكاديميين المتخشبين ذوي الرطانة الخاصة بهم, الذي لا يهدفون من كتاباتهم إلى إحداث التغيير الاجتماعي بل من نيل الترقية والارتقاء في السلك الأكاديمي.. من جانبه, يرى سعيد أن كون المرء مثقفاً لا يتعارض بالضرورة مع كونه أكاديمياً أو موسيقياً ويورد أمثلة لأكاديميين كان لهم دور مؤثر خارج الإطار الأكاديمي مثل إيريك هوبزباوم وإي. بي. ثومبسون في انجلترا وهايدن وايت في أمريكا.. ويمكننا بالطبع أن نضيف اسم سعيد نفسه إلى هذه القائمة. ومما لا شك فيه أن صورة المثقف قد تغيرت فلم يعد ذلك البوهيمي أو فيلسوف المقهى, إذ أصبح يقدم نفسه بطريقة وصورة مختلفتين - وحسب ما يراه سعيد - فإن ما يهدد المثقف اليوم- سواء أكان غربياً أم غير غربي - ليس الأكاديمية أو الصحافة ودور النشر الكبرى ولكن ما يسميه الاحترافية أو نزعة الاحتراف, ويعني بها أن تقوم بدورك كمثقف كعمل تكسب منه قوتك ساعياً إلى التواؤم مع المعايير السائدة, ومحاولاً نيل رضا أولئك الذين يمسكون في أيديهم بمقاليد السلطة. إن المثقف لا يعيش في عزلة عن مجتمعه فهو محاط بجماعة مهنية ما ونظام اجتماعي يطلب ويتوقع منه أن يعبّر عن مشاكله وقضاياه وهمومه وفق ما يريده هو.. إنه - بعبارة أخرى - يحاول أن يقولب المثقف ويصوغه على مثاله.. وفي سبيل تحقيق ذلك يمارس المجتمع أنواعاً مختلفة من الضغوط التي لا تقتصر على مجتمع ما دون آخر.. ومن تلك الضغوط مبدأ التخصص بمعنى حصر المثقف داخل إطار تخصصه الأكاديمي دون أن يخرج عنه أو عليه بحيث ينتهي به الأمر مؤدياً لما يتوقعه الآخرون منه فحسب.. هنالك أيضاً هيمنة فكرة الخبير المجاز ذي المعرفة الواسعة في عالم ما بعد الحرب, ولا يتأتى للمثقف أن يصل إلى هذه المرحلة إلا بتفويض وإقرار من السلطات المعنية التي تحدد له نوعية اللغة التي يتحدث بها, ملزمة إياه بعدم الخروج على الأطر المحددة سلفاً. كمقابل للاحترافية, يقترح سعيد ما يسميه نزعة الهواية التي يعرفها بأنها «نشاط يضطرم بالتعلق العاطفي والاهتمام, لا بالعائد المادي والتخصص الأناني الضيق».. ويرى من الحتمي على المثقف اليوم أن يكون هاوياً, طارحاً للتساؤلات, ومثيراً للجدل والنقاش, متحدياً غير مهادن للسلطة, مجابهاً الجمهور لا بما يشبع رغباته, بل بما يثير قلقه ويدفعه إلى البحث والتساؤل والتفكير. في المحاضرة الخامسة (قول الحق في وجه السلطة) يشير سعيد إلى ارتباط المثقف الحتمي بحكومة ما أو مؤسسة أو شركة أو نقابة مهنية ارتباطاً ربما أدى إلى إضعاف وتهميش الحس النقدي والأخلاقي لديه, فهو - في نهاية الأمر - لا يعول نفسه بنفسه - بل إنه محتاج إلى غيره مهما تصور أنه حر ومستقل.. كحل لهذه الإشكالية اقترح سعيد - كما رأينا - أن يكون المثقف هاوياً لا محترفاً رغم ما يتضمنه ذلك من خطورة ونتائج غير مؤكدة.. لقد رفض سعيد نفسه العمل كمستشار مدفوع له في المحطات التلفزيونية أو الصحف, لأن ذلك يعني أن يكون حبيساً لتلك المحطة أو تلك الصحيفة مقيداً بلغتها ومفاهيمها السياسية. يطرح سعيد بعد ذلك مجموعة من الأسئلة الأساسية التي تشغل المثقف: كيف يقول المرء الحقيقة؟ وأي حقيقة؟ ولمن وأين؟ ليس هناك من نظام أو منهج بوسعه أن يقدم إجابات مباشرة عن هذه الأسئلة كما لا يمكن الركون إلى الوحي أو الإلهام لأننا نعيش في عالم تاريخي واجتماعي دنيوي هو عبارة عن محصلة الجهد البشري عبر تاريخه الطويل. غير أن ما لا خلاف حوله هو أن على المثقف أن يبذل كل ما في وسعه في صراعه مع الأوصياء والقيمين على الرؤيا المقدسة أو النص المقدس, دون أن يتخلى مطلقاً - وتحت أي ظرف - عن حرية الرأي والتعبير. إن على المثقف أن يكون شديد الحذر والانتباه في اتخاذ مواقفه وفي تكوين رؤاه؛ لأن العديد من المفاهيم الأساسية تشهد تخلخلاً واضطراباً في معناها أو في تطبيقاتها العملية. في كتابه (ذلك الحلم النبيل: سؤال الموضوعية وبروفيسور التاريخ الأمريكي) ينتهي بيتر نوفيك إلى أن جوهر البحث التاريخي الذي يفترض فيه سرد الحقائق بواقعية ودقة وموضوعية قد تحول إلى مستنقع من الادعاءات والادعاءات المضادة مما يدفعه إلى القول بأن الدراسة المنهجية الموضوعية للتاريخ لم يعد لها وجود. هذا النقد الصارم للموضوعية المزعومة إضافة إلى مساءلة السلطة التي يؤكدها سعيد مراراً وتكراراً يلعب دوراً مهماً في فهم كيفية تشكيل الناس لحقائقهم في العالم العلماني، وكيف أن هذه الحقائق تتصارع فيما بينها مما ينتج عنه بالتالي الغياب الكلي للمبادىء أو القيم الكونية أياً كانت تلك القيم. إن من أبرز المثالب التي يقع فيها المثقف هو أن يعيب وينتقد بعض الممارسات الجائرة والخاطئة في مجتمع ما ثم يغض الطرف عن نفس هذه الممارسات حين تمارس من قبل المجتمع الذي ينتمي إليه وكمثال على هذه الحالة يأتي سعيد على ذكر المثقف الفرنسي الذي عاش في القرن التاسع عشر أليكسيس دو توكفيل الذي انتقد المعاملة الأمريكية السيئة للهنود والسود، وحين تطرق للسياسات الاستعمارية الفرنسية في الجزائر صمت عن جميع الممارسات اللا إنسانية لجيش الاحتلال الفرنسي مع الشعب الجزائري مبرراً ذلك بأنهم (أي الجزائريون) ينتمون إلى دين أقل مكانة، وأن من الواجب تأديبهم. وهناك مثال آخر يتمثل في جون ستيورات الذي كان يرى عدم إمكانية تطبيق الحريات الديمقراطية في الهند المستعمرة البريطانية حينئذ. هذان الموقفان بلا شك يعبران عن نمط التفكير السائد في ذلك الوقت والمرتبط بالمركزية الأوروبية التي كانت تنظر إلى الشعوب الأسيوية والأفريقية نظرة استعلاء وازدراء باعتبارها شعوباً متخلفة وغير مؤهلة لأن تحكم نفسها.. غير أن العالم تغير لحسن الحظ. وأصبحت العدالة والمساواة مطلباً أساسياً وحقاً مضموناً للجميع على حد سواء؛ بغض النظر عن جنسهم أو لونهم أو معتقدهم. في نهاية هذه المحاضرة يقول سعيد (إن قول الحق في وجه السلطة ليس مثالية مفرطة في التفاؤل: إنه تأمل دقيق في الخيارات المتاحة وانتقاء الخيارات الصالح ومن ثم تمثيله بذكاء أينما أمكن إعطاء النتيجة الفضلى وإحداث التغيير الصائب). اشتق سعيد عنوان محاضرته الخامسة (الآلهة تفشل دائماً) من كتاب ريتشارد كروسمان (الإله الذي فشل) المطبوع سنة 1949 الذي جمع فيه شهادات عدة لأبرز المثقفين الأوروبيين الذين أعلنوا توبتهم وردتهم عن الماركسية والشيوعية السوفيتية من أمثال إيجنازيو سيدلوني وأندرية جيد، وأرثر كوستلر وستيفن سبندر.. لقد تم توظيف واستغلال مثل تلك الشهادات والتجارب في الحرب الفكرية أو الثقافية الباردة التي كانت تدور رحاها بين القطبين الشيوعي والرأسمالي, الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدةالأمريكية.. كان المثقفون مطالبين بأن يقوموا بدور ما في سبيل دحر الشيوعية الآخذة بالتوسع وكسب الحلفاء والأتباع في كافة أرجاء الأرض؛ حتى وإن تم ذلك دون رغبة أو وعي منهم. يشير سعيد إلى الدعم السري - على سبيل المثال - من وكالة الاستخبارات المركزية لمنظمة حرية الثقافة التي أسهمت في توزيع كتاب «الإله الذي فشل» على نطاق عالمي, كما قدمت الدعم المالي لمجلات مثل «إنكاونتر» وسعت لاختراق النقابات العمالية والمنظمات الطلابية والكنائس والجامعات. إن ما يريد سعيد الوصول إليه هو أن على المثقف الحقيقي ألا يسلم قيادة للسلطة, وألا يسير وفق إملاءاتها وشروطها ومساراتها التي تحددها سلفاً لأن«التبعية العمياء للسلطة في عالم اليوم هي أحد أفدح الأخطار التي تهدد كينونة حياة فكرية أخلاقية نشطة». والمثقف في نهاية المطاف يقف أمام خيارين لاثالث لهما فإما أن يمثل الحقيقة التي يؤمن بها قدر استطاعته, وإما أن يذعن ويستسلم للسلطة لتوجهه حيث تشاء..