ارتبط مفهوم المثقف “بالبرج العاجي” والاستعلاء، لكن تعريف المثقف يثير حوله الكثير من الاختلاف والتباين في الآراء, فعند البعض هو الذي يمثل القيم المطلقة والحالم بعالم عادل والمعبر عن قضايا المهمشين وهموم المظلومين، ويرى آخرون أن المثقف كائن سياسي بالضرورة ولكنه متمرد على السلطة، يحمل فكراً مستقلاً، ثائراً على الصيغ المألوفة والممارسات اليومية المتخشبة. ولكن هل بالضرورة وقوفه ضد السلطة أي سلطة كانت سياسية أو دينية, إننا لا نعني ذلك؛ لأن المثالية والإغراق في التفاؤل تعني عدم الواقعية وإنما القصد هو: تأمل الخيارات المتاحة، واختيار الأدق والأصح منها وتمثيلها للوصول بذكاء إلى النتيجة الفضلى والتغيير المنشود. ولأن المثقف غير معصوم ولا مقدس فإنه بالتالي لا يكون قابضاً على جوهر الحقيقة، وبالأخص لأنه يعمل في وسط بشري ويجتهد للاقتراب من المعنى, وعليه أن يتواضع ويعترف بأنه أدنى مما يدعى من حيث علاقته بالحقيقة أو العدالة والحرية. ولأن اللغة تحمل نسيجاً من المفاهيم التي أصبحت من الرسوخ بحيث غدت مألوفة ومتسلطة، فإن مهمة المثقف تفكيك هذه اللغة وعدم الركون إليها؛ لأنها أصبحت مفردات منهكة وعبارات مترهلة من كثرة الاستخدام. يثير المثقف الأسئلة المقلقة والإشكالات المربكة، ويسعى لخلخلة البُنى الثابتة، والأفكار الدوغمائية- الأحادية- والعادات المتصلبة..لا يهتم المثقف الحقيقي بحسابات الربح والخسارة عند مواجهة السلطات المختلفة؛ لأن التزامه بموقف أخلاقي هو ما يشغله, وهو معيار للحكم على أصالته أو سطحيته. المثقف هو ضمير الأمة وقائد للجماهير العريضة التواقة للإصلاح والتغيير، ويتميز عن الناس العاديين بأنه ذو حس نقدي عال وصاحب حساسية عقلية, تجعله أكثر فاعلية وسط مجتمعه وأكثر يقظة، وهو مبدع لا تخدعه الشعارات المجوفة ولا ينقاد بسهولة لخطابات السلطة دينية كانت أو اجتماعية أو سياسية. ويرى “غرامشي” صاحب مصطلح المثقف العضوي: أن المثقف هو المتماهي مع هموم الجماهير الساعي لرفع الظلم عن الناس. على أن الوضع المادي للمثقف قد يرغمه التخلي عن رسالته ودوره الرسولي؛ لأن التبشير بالتغيير مغامرة غير مضمونة, وتضع صاحبها في مرمى المخاطر، وهذا صحيح من الناحية العملية وليس النظرية فقط, ولذا يُستحسن أن يكون المثقف ذكياً بحيث يختار الطرق المناسبة والمناورة الشجاعة والصيغ المبتكرة ضد النظم البائدة وما(أدب الحيوان) سوى مجرد مثال على التفاف المثقف, حيث يجري الحديث بلسان الحيوان, والمقصود هو الوقوف في وجه الظلم ومناصرة الضعفاء. على المثقف أن يمزج بذكاء بين الواقعية والمثالية, ولا ينتمي لأي حزب أو مؤسسة؛ لأن من شأن ذلك قولبته وتأطير فكره والحد من حريته، وهو الذي يرفض التنميط والتصنيفات الاختزالية الضيقة..يرفض المثقف الحقيقي “الكليشيهات” الجاهزة ويرمي بنظره نحو “المدينة الفاضلة” التي لن تتحقق أبداً.