غبَشَاً كان وقتي إذ أقبلتْ من بلادٍ ملبَّدةٍ بالقصائدِ، منها خرجنا إلى الماءِ نطلبُ عشبَ المحبَّةِ، نتبع في الدرب لمعَ المعاني ونسأل عن موردٍ للكلامْ. أقبلت بعدما جنَّنا العشقُ من عمق ماء المحيطاتِ عابرةً يقطر الوجدُ من بين أهدابها، وتشع المحبةُ من ثغرها وتقشر عن بيضة الفجر قشرَ الظلامْ. أقبلتْ ليَ في آخر الوجدِ مثل الصلاةِ التي خضَّل العشقُ محرابها وتراتيلها، وأتتْ من ديارٍ معلَّقةٍ في بهاء الماجيدِ، واتَّكاَتْ فوق تلٍّ من الأولياءِ القدامى وقالت: عليك السلامْ هاهيَ الآنَ طالعةً من مشارقِ روحيَ في لحظةٍ زفَّها الرملُ واغتسلت بالغبار الدروبْ. هاهيَ الآن تكتبُ بالرمل أشواقها، وأنا في المغارب أنثرُ شعريَ فوقَ الثلوج التي جمَّدت أحرُفي، في البلاد التي يأكل البردُ أوقاتها والتضاريسُ ملتفَّةً بالغروبْ. كلَّما تدخلُ الروحُ مخضلَّةً في طقوس مواجيدها، تنهضُ الأحرفُ الهائماتُ إليها، إلى صورةٍ في ملامحِ شرقيَّةٍ نبتَ الضوءُ من جفنها، والقصائدُ عالقةٌ في ذوائبها، ليس يشبهُها هاهنا غيرُ نهرٍ صغيرٍ أروحُ إليهِ لأنقع فيهِ مواجيدَ روحي بها وأرى وجهها في مراياالصباحْ. ليس يُشْبهُها غيرُ حُلْمٍ إذا جَنَّ يجمعنا ثمَّ تذروهُ يقظتنا في مهبِّ الرياحْ ..يا ارتخاءَ المسافاتِ هذا الصباحُ أطلَّ وما زلتُ عند المقامِ أُعتِّقُ قولاً لأهلِ الإشاراتِ لا ينبغي أن يباحْ. صوَّرتْها الليالي التي كنتُ أقضمُ أطرافَها كتلةً من تهاويمَ تهبطُ للقلب في آخر الليل، تأخذهُ للجبال البعيدةِ حيثُ المساءاتُ ترحلُ نحوَ الكهوف التي يتشَّعبُ منها الخيال.ْ رصدتها الطيوفُ على مورد العشقِ تغسل بالماء أو تغسل الماءَ، تبحثُ عن وجهها، وتشدُّ الخيالَ إلى مسقط الحُلمِ حيثُ المواسمُ مكتظَّةٌ بالبروق ومخضلَّةٌ بالظِلالْ. نقشتها المساميرُ فوق الصخور التي نبتتْ من جذور الجبالِ وجاءتْ لها صورةٌ فوق خارطة الشعرِ خارجةً من سُهوب الأساطير منسلَّةً من حنين الرمالْ. ضمَّني ذاتَ وجدٍ بها مجلسُ العاشقينَ، أُديرتْ به أحرفٌ غيرُ مقشورةٍ مازجتْ قهوةً مثلَ لون قصائدنا، واتَّكأنا على ربوةٍ من مواجيدنا نشرب الحلمَ، ثم صعدنا المقاماتِ وانتثر العشقُ فوق الجبالِ، ومن لمسِ أقدامنا ابتلَّ بحرُ المعاني وفاضَ على الشَّطِّ بعضُ الجنونْ. وأتينا على الركب، قالوا لنا بعدما انسفحت في المقامات أشواقُنا: يَمِّموا الدربَ فيهِ نثارُ القلوب التي طمرتها السوافي، وبعضُ الحروف وريشُ القصائدِ كالعهنِ، فامضوا ولا تنظروا للوراءِ إذاً تهلكونْ. وسرينا عراةَ القلوب نُدحرج أبصارنا في المتاهات، يخطفُنا الوقتُ، حتى تماهتْ تقاسيمُ أرواحنا، فأنا في المقام ‘هيَ' و ‘هيَ' في المدار ‘أنا' والمرائي مشفَّرةٌ بين كافٍ و نونْ.