لقد راق لبعض باحثي الفن، ولاسيما المستشرقين منهم، أن ينسبوا فن المنمنمات الى جذور هيلينية (يونانية) وبيزنطية، وحفز ذلك رهط من الجماليين والباحثين العرب، ومنهم د. زكي محمد حسن ود. ثروت عكاشه وجبرا إبراهيم جبرا وبلند الحيدري، وعفيف بهنسي وزينات بيطار أن يحثوا البحث فيه ويسبروا غوره، وأرجعه جلهم الى الفنون الإسلامية، بينما ذهب آخرون الى أنه استرسال في الزمان يشرئب الى حاضنته الأولى من فنون أهل الرافدين. في الجانب الاجتماعي للطراز المعماري فقد كرست جل المنمنمات من خلال أجواء المقامة الانتماء الطبقي لها، فمثلا حاول الواسطي إظهارها في بهرج البناء أو زهده منعكساً على المعالجات الزخرفية وطراز الأثاث ومستلزمات المنزل ناهيك عن طبيعة مواد البناء المستعملة .ومن خلال وفرة المنمنمات وحذلقتها يمكن رصد الحالة الحضارية للدول والمجتمعات الإسلامية، حتى أصبح اضمحلالها دليلا ملموسا على اضمحلال الدفق الحضاري لها. وقد توسعت دائرة تنفيذ المنمنمات في العالم الإسلامي وظهرت مدارس فنية مختلفة، بحسب الأذواق، ومصادر التأثيرات والموروث المحلي. وعلى العموم فأننا نقع على عشر مدارس إقليمية أساسية تعاملت مع المنمنمات وتركت بصماتها عليها، وهي: المدرسة العراقية أو مدرسة بغداد (القرن السابع الهجري- الثالث عشر الميلادي)، وحدث أن استمرت حتى بعيد سقوط بغداد عام 1258 وهذه المدرسة رائدة وهي الأكثر دلالة في فنون المنمنمات، ويمكن اعتبارها اصل كل المدارس التالية. وأكثر ما ورد منها كان في تمثيل قصص كليلة ودمنة وكتب الطب والنبات والطبيعة وكذلك المقامات كالحريري ومؤلفات موسوعية كعجائب المخلوقات للقزويني. وأقدمها الموجودة اليوم في القاهرة كتب في البيطرة 605ه-1209م رسمه علي بن حسن هبة الله ورود اسم عبدالله بن الفصل في مخطوطة تعود للعام 1222م، وأهمها وأكثرها شهرة مقامات الحريري ليحيى الواسطي عام 1237م. وقد استقرت تسميتها على مدرسة بغداد على اساس ما كان لبغداد من قيمه حضارية في تلك المرحلة من التاريخ التي تمتد ما بين القرنين السادس والثامن للهجرة 1200-1400 م وما يزال بعض المؤرخين من المستشرقين ميالين الى تسميتها بمدرسة ما بين النهرين او المدرسة السلجوقية او المدرسة العباسية ولكل منهم يقيم الحجة على تسميته. ومنهم من يقول بأن اصول هذه المدرسة تعود الى إيران أو الصين. إلا ان ما يرد لديهم من حجج لايمكن إعتماده دليلا كافيا على ذلك ويرد الدكتور زكي محمد حسن في كتابه «مدرسة بغداد في التصوير الاسلامي علي م. ساكسيان» بقوله: «ولكن ليس ثمة دليل على أن ايران عرفت في العصر اسلوبا فنيا في التصوير يخالف ما عرف في بغداد فضلا عن أن المجموعة المحفوظة في استانبول والتي احتج بها ساكسيان لايمكن نسبتها الى ما قبل العصر المغولي بل انه يؤكد في ذات الدراسة على »ان تزويق المخطوطات بالتصاوير وتزيينها بالاصباغ البراقة فن حملت بغداد لواءه في القرنين السادس والسابع الهجريين ولكنه ازدهر في مراكز اخرى من ديار الاسلام فعرفته الموصل والكوفة وواسط وغيرها من بلاد الرافدين، كما امتد الى ايران ومصر والشام بل امتد تأثيره الى الرسوم الحائطية الاسلامية في، البرطل بقصر الحمراء في غرناطة والى بعض المخطوطات العربية في الاندلس«. ويمكن تلمس قدم تلك المدرسة من تشابه ملامح الرسومات الجدارية الأولى في قصر عمره وقصور سامراء، وربما يعود الى أقدم من ذلك من جذور بابلية، درست، أو سوف تكشف الأيام عنها لاحقا. ومن ابرز خصائص مدرسة بغداد في التصوير جنوح فنانيها الى عدم ايلاء اهتمام بالطبيعة على الشكل الذي برزت فيه في الصور التي رسمها فنانو الشرق الاقصى وعدم عنايتهم بالنزعة التشريحية او التقيد بالنسب الخارجية للاشكال المرسومة كالتي سعى الى تأكيدها الفنان الاغريقي. كما ان رسوم مدرسة بغداد ذات ميل الى التسطيح ولم يول فنانوها أهمية لغير بعدين من ابعاد الصورة هما طولها وعرضها اما العمق او المنظور العمقي فلم يبرز اهتمام به إلا ابان القرن التاسع الهجري وبشكل لايؤكد تحولا اليه. وقد اضمحلت تلك المدرسة ثم درست خلال عهود الترك في القرون الاربعة الأخيرة، وانقطع ذكرها. وقد جرت محاولات لإحيائها في القرن العشرين على يد الفنان العراقي جواد سليم. المدرسة المصرية وهي مدرسة شملت مصر والشام وتصاعد دفقها الإبداعي حتى أجهضت على يد الايوبيين بعد تبنيهم خطا فقهيا سلفيا متشددا في التعامل مع الفنون . وانتقلت الحذلقة المصرية من المنمنمات الى الخزف، الذي نقل لنا امكانيات بعض معلميه ممن تركوا أسماءهم على الاطباق مثل مسلم وسعد وغيبي بن التبريزي وشرف الأبواني، وكلها باقية تتوزع على متاحف العالم وتشهد لنا اليوم على مهارة فريدة. وربما كان مصيرهم مثل إخوانهم في بغداد بعد تردي أحوالهم بأن شدوا الرحال الى بلدان أخرى في الشرق واستقروا في مدن بدأ يلمع بريقها مثل تبريز وسمرقند وهيرات وبخاري في آسيا الوسطى، ثم دلهي وأكرا وحيدرأباد في الهند والتي شهدت على ولادة مدارس جديدة واستمراراً لفن المنمنمات . المدرسة الإيرانية المغولية (القرن 8 ه -14م) التي ورثت مدرسة بغداد واستفادت من هروب الفنانين أو هجرتهم بعد خراب بغداد، ولاسيما في العهود الجلائرية والإيلخانية والتيمورية والصفوية .ومن خصوصياتها أنها شملت بعض التأثيرات الواقعية في المناظر الواردة من الرسم الصيني، وأقدمها نسخة من منافع الحيوان لإبن بختيشوع موجودة في نيويورك، وكذلك جوامع التاريخ للوزير رشيد الدين أقدمها يعود لعام 707ه-1307م موجودة في لندن، والمتضمنة تاريخ السلاطين المغول والإيلخانيين في تبريز وسمرقند. المدرسة التيمورية في آسيا الوسطى (القرن 9ه-15م)، وتطورت إبان فترة تيمورلنك في مدن تبريز وسمرقند وهيرات، بعد أن حمل معه قسرا الرسامين من الشام والعراق عام 1403م. ومن أهم مصوريها أمير شاهي وغياث الدين، وأكثر إنتاجهم كان في تصوير الشاهنامة وشعر الغزل والصوفي لمشاهير فارس كنظامي وسعدي والخيام. المدرسة الإيرانية الصفوية وهي الأكثر شهرة لدى الأوروبيين، واعتقدوها ردحا من الزمان أنها الأساس واستمرت تمارس حتى يومنا هذا، حيث أضفت عليها الحداثة تأثيرات نوعية لم تلغ نفحات رومانسية ميزتها عن المدارس الاخرى. حين تذكر أخبار الشاه عباس الثاني أنه أرسل فنانه الخاص محمد زمان في بعثة دراسية إلى إيطاليا، فدرس الفن على أيدي الإيطاليين والهولنديين وعاد ليغير في قواعد المنمنمات الإسلامية تغييرا طفيفا، وأهم بقاياها تصوير الشاهنامة للفردوسي. المدرسة الأفغانية وتسمى كذلك مدرسة بهزاد وتنتسب الى كمال الدين بهزاد الذي لقب بمعجزة العصر الفنية في مدينة هيرات، بما ادخله على رسم المنمنمات من جزيل التطوير ولاسيما في التعبير النفسي والإنطباعي والتقني ولاسيما في خلط الألوان. مدرسة بخاري (القرن 10ه-16م) وقد تأثرت بالمدرسة التيمورية وتأثرت من بهزاد وتلاميذه، وكثرت بها الموضوعات العاطفية والشاعرية. المدرسة التركية، وقد استمدت بداياتها من الشرق الإسلامي وسمت خلال عهد سليمان القانوني في القرن السادس عشر ونجد من أهم ما تركته المنمنمات التي رافقت كتاب زبدة التواريخ لمؤلفها سيد لقمان عاشوري وهذا الكتاب يطنب في التّأريخِ العالميِ السّياسيِ متضمنا اساطير توراتيةِ ومرفقا بقصص الأنبياءِ وأحداث الماضيِ، وردت من مصادر متفرقة، يسهب خلالها بالتّأريخ التّركي خاصة حتى ورود السّلطانِ مراد الثالث، بعد حقبة السلاطين العُثمانيين الإثني عشرَ الأوائل ِ. وقد كرست للحديث عن مناقب السلطان مراد الثالث، وكتبت عام 1583 واحتوى الكتاب على أربعين رسما، موجودة اليوم في متحف الفنون الإسلامية في أسطنبول. ثم حدث ان انقلبت هذه المدرسة متأثرة بفناني عصر النهضة الإيطالي، من الذين أغرتهم عطايا السلاطين، كما في صور السلطان محمد الفاتح للمصور جنتيلي بلليني عام 1480م. وشملت كذلك بعض نتاجات الفنانين الأتراك، وتطورت متأثرة بفنون الرسم الاوربية. واختفت لاحقا، ولم تستمر تباعا. المدرسة المغولية الهندية :وعاصرت صعود نجم المغول في الهند. وسبق للهند أن عرفت المنمنمات والرسم على الورق بدلا من أوراق سعف النخيل مع ورود الإسلام الى تلك البلاد، وخاصة منذ القرن العاشر الميلادي. وتطور هذا الفن تصاعديا حتى ورده الدفق الكبير خلال ورود المغول عام 1523 على يد بابر، حاملا معه كثير من فنون آسيا الوسطى. وقد اهتم الهنود خلال تلك الفترة بتصوير المتصوفين والنساك الهنود وهم يحاورون الملوك وخاصة القوم. وقد استمد جذوره من الشرق، ولاسيما من هيرات وآسيا الوسطى نظرا لإنحدار بابر أول سلاطينهم من تلك الأصقاع، وبقي حنينا الى فنونها، كما يرد في كتابه (بابر نامه) التي شرح به موقفه من العمارة والفنون. ومن أجمل آثارهم المخطوطة التي تصور قصة حمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم، بشكل مبالغ فيه عن القصة الحقيقية واقترنت ببعض الاساطير الشرقية. وتقع تلك في مخطوطة احتوت على 1400 صورة واستغرق رسمها حوالى 20 سنة، (1556 -1575 م)، وقام برسم معظم لوحاتها اثنان من كبار الفنانين الهنود هما «سيد عل« و»عبدالصمد». وهنا لا بد من ذكر أن فن التصوير الهندي الإسلامي بالمحصلة كان متأثرا بفن مدرسة بغداد، مسترسلة حتى مدرسة بهزاد.وفي العهود المتأخرة تأثرت ببعض الإستعارات الأوروبية المستمدة من صور النهضة التي جلبها البرتغاليون وبعدهم الهولنديون والانكليز .وقد اثرت تباعا في فنون أوربا ولاسيما من خلال التجارة، ونجد آثارها في لوحات الهولندي رمبرانت (1606-1669)، الذي استوحى منها بعض موضوعاته، واتصف وحده دون سائر المصورين الذي طرقوا مواضيع إستشراقية، بميزة الإحساس الدفين بتوقير الشرق وإجلاله. ولقد مهدت أسباب سياسية واقتصادية لأوربا أن تقع على التصاوير المغولية بالهند، وتنال إعجابها. وكان رمبرانت أول من أعجب بهذا الفن، وإذا هو يقتني بعض تلك المنمنمات، ثم أخذ ينقلها بيده ما بين عامي 1654 و1656، وتحتفظ المتاحف الآن بعشرين منها، هذا إلى أنه ضمّن بعض عناصرها لوحاته بعد أن مزجها بأسلوبه. ورسم رمبرانت المنمنمات مضيفا من عنده تقنة الإشراق والعتمة »كياروسكورو« التي أثرت عنه والتي خلت منها الأصول المغولية، فإذا الشخصيات فيها وكأنها في أصولها. واستمرت المدرسة الهندية ولكنها بترنح مكنها من الاحتفاظ ببعض ملامحها الاصلية حتى يومنا هذا، على عكس بقية المدارس التي درست مع تقادم الزمن..