قبل أن نلج إلى صلب الموضوع الذي نحن بصدده- أي استقصاء عوامل انتصار حرب السبعين- نود أن نلفت الانتباه إلى أن تعيين تلك العوامل وحصرها في هذه الدراسة ليس أكثر من مجرد اجتهاد شخصي ومن باب ممارسة حق طبيعي في إبداء الرأي حيال حدث وطني كبير كهذا وهو على أي حال رأي قابل لاحتمال الصواب والخطأ على السواء ولكن(من اجتهد واخطأ فله أجر ومن أصاب فله أجران). وثمة حقيقة مهمة في هذا السياق يجدر التنويه بها يقدر ماهي بديهية وتتعلق بقاعدة مهمة جرى التعارف عليها لدى المؤرخين المنهجيين, وهي أنه لكي يكون الحديث عن حادثة تاريخية معينة وتقويمها أقرب إلى الحقيقة ينبغي استقصاء العوامل المحيطة كافة وتتبع كل معلومات متاحة قد تكون متوفرة لدى سائر الأطراف التي تصنع الحدث أو تخوض هذا الصراع أو ذاك. ومن نافلة القول بأن كل محاولة لاستقصاء جميع العوامل التي أثرت في صيرورة حرب الحصار وفعل نتاجها مثلما كانت في النهاية واستكناه خلفياتها التي تشابك فيها الوطني بالعربي والعربي بالدولي والعكس ستظل ناقصة وغير قابلة لإصدار أحكام لها قدر من الموضوعية العلمية مالم يكشف النقاب عن سائر المعلومات المتوافرة لدى الطرف الآخر من الصراع وخصوصاً معلومات وتحليل القادة العسكريين الملكيين ومؤيديهم من العرب والأجانب وبالذات المستشارين الغربيين ولاسيما رؤيتهم للظروف التي أرغمت الجانب الملكي على التراجع غير المنظم ثم الانهيار التلقائي إثر إعادة افتتاح طريق الحديدة- صنعاء, وعمّ إذا كان هناك عوامل سياسية مؤثرة إلى جانب العامل العسكري سرعت في إيصال المسألة إلى ماوصلت إليه في مدى زمني قصير, وعلى سبيل المثال حقيقة ماكان يشاع عن خلافات حدثت بين أفراد أسرة بيت حميد الدين وبين مؤيديهم من الحكام العرب قبيل انتهاء الحرب, وعن مدى تأثيرها إن كان لها أثر. ويندرج في هذا السياق بالطبع عامل آخر على جانب كبير من الأهمية ويتعلق بتلك الأطراف العربية والدولية المهمة التي أيدت الملكيين عن كثب وحاربت في معركتهم على الأصح, وبسبب ضخامة إمكاناتهم العسكرية والسياسية والاستخبارية فلا بد وأن تكون جعبتها زاخرة بشتى المعلومات والتحليل عن مجريات حرب السبعين وما آلت إليه من نتائج. ولعل من الأمور التي لايشوبها أدنى قدر من الريبة, أن تلك الدول فوجئت بنتائج الحرب ووقوع مالم يكن متوقعاً إذ لو كان قد أدركت منذ البدء ماسوف ينجم عن الحرب لما جازفت بإهمال قرارات مؤتمر القمة العربي المنعقد في الخرطوم في أغسطس 1967م, والتي قضت بالتفاوض على حل سلمي بين الأطراف اليمنية المتحاربة وحرضت الجانب الملكي على إعارة الحل السلمي قدراً معقولاً من الجدية وهو ماكان بوسعها أن تفعل أكثر منه, أي منع اللجوء إلى العمل العسكري كلياً. ويبدو أن زعماء تلك الدول قد ضللتهم تقارير استخباراتهم وأخفق مستشاروهم السياسيون والعسكريون في قراءتها بصورة دقيقة وبمنطق سياسي شمولي وبكلمة لم يفطنوا إلى أهمية عنصر هام من عناصر الحرب فلم يدخلوا في حساباتهم إرادة الشعوب في الاستقلال والتقدم ومن الذي يحارب من أجل المستقبل من أطراف الصراع والعكس. ولاشك بأن هذه المسألة كانت تمثل الحلقة المركزية في المسألة بكاملها وهي التي أغفلت عن احتساب موازين القوى, ويبدو أن هذه الأطراف بدلاً من ذلك تعاملت مع هذه الموازين في ساحة الحرب اليمنية على أساس الجرد الكمي للعوامل المادية المتوافرة في حوزة هذا الطرف أو ذاك من أطراف الصراع. وعدا ذلك فإن من بين المسلمات حقيقة كون الاستخبارات العربية والدولية والأمريكية بالذات على علم تام بكل دقائق الأمور في ساحة الحرب بما فيها حجم وإمكانات كل طرف بتفاصيلها الصغيرة ولايمكن تصور أن تعجز وكالة عالمية مثل ال( (C.I.Aعن تقدير عدد الجنود المدافعين عن صنعاء ونوع أسلحتهم وأي قدر من الاحتياط يمكن زجه في المعركة بعد أن رحل المصريون عن اليمن وفقد الجانب الجمهوري بذلك عامل الدعم الرئيس الذي كان متاحاً له من قبل, في الوقت الذي بقي الجانب الملكي متمتعاً بدعم أصدقائه السابقين الذي تضاعف عند الحصار. والأهم من كل ذلك أن حرب الحصار قد نشبت في ظل ظروف سياسية عربية وشرق- أوسطية- جديدة تماماً تغيرت معها موازين القوى في العالم العربي إثر عدوان اسرائيل في يونيو(حزيران) وهزيمة الجيوش العربية. وحسب مانعلم جميعاً فإن آثار تلك الحرب في ضوء خلفياتها الإقليمية والعربية تعددت ساحة الميدان التي دارت عليها الحرب بين إسرائيل ودول عربية معينة لتلقي بظلالها على المنطقة العربية بكاملها محدثة تغيرات سياسية عميقة الأثر في خريطة الشرق الأوسط وبالتحديد إحداث اختلال رئيس في تناسب القوى العربية- العربية لصالح القوى الرجعية, إذا لم تكن عملية التدخل والحرب ضد الثورة اليمنية سوى مظهر واحد من المظاهر العديدة التي كانت تعبر عن مناهضة الرجعية العربية ويزيد من أسهم حركة التحرر الوطنية المناهضة للامبريالية التي انخرطت في معركة الانعتاق القومي والاجتماعي منذ أمد وتألق نجمها بعد أن غدا(جمال عبدالناصر) قائداً لها. وإذا ماسلمنا بحقيقة أن ذلك الصراع الذي كان في المنطقة جانب منه موجهاً ضد مصالح الامبريالية في المنطقة العربية, كان له بالضرورة بعدٌ دولي. إنه لمن المستحيل عزل حرب حزيران عن مجريات ذلك الصراع أو ابتسار دوافعها بحيث تقتصر على مجرد الصراع العربي الإسرائيلي من أجل الأرض وطموح إسرائيل في التوسع. ونستطيع أن نستنتج بعد كل ما سبق أن التنكر لمقررات مؤتمر الخرطوم المشار إليها ( منها إيقاف دعم القوات الملكية مقابل انسحاب المصريين من اليمن)، واختيارها بدلاً عن ذلك طريق الحسم العسكري بمحاولة الاستيلاء على صنعاء،كان أكثر من مجرد اختيار لموازين القوى الجديدة في العالم العربي التي أعقبت هزيمة حزيران 1967م وترقى إلى درجة الفعل المدروس الذي لاشك في نتائجه ولو بدرجة ضئيلة على اعتبار أن كفة الميزان قد رجحت كلياً لصالح ما يسمى المعتدلين العرب، ويجب التصرف على هذا الأساس ولتكن البداية من اليمن حيث يحتدم الصراع وحيث كان للزمن أهمية غير عادية. ومن الممكن القول إن ذلك الاستخلاص الخاطئ المبني على مقدمات السياسي القاضي برفض أي (حل وسط( من قبل الطرف الآخر والاستئثار بالكعكة كاملة – كما يقول المثل – عن طريق المدفع وليس بأي وسيلة أخرى، كما يمكننا الافتراض كذلك بأن هذا الأساس ذاته الذي حدا بعديد من المراقبين السياسيين والخبراء العسكريين المشهود لهم الكفاءة إلى الوقوع في الفخ بإعلان تنبؤهم بأن حرب حصار صنعاء سوف تحسم لصالح الجانب الملكي بصورة حتمية، ولم يعد مثار خلاف بينهم سوى عدد الأيام والأسابيع التي يحتاجها الملكيون كيما يرفعوا أعلامهم على (دار الوصول) من جديد. وربما كان حرب حصار صنعاء هي الحرب الوحيدة التي كاد المراقبون العسكريون والسياسيون أن يجمعوا على تقدير وتوقع نتائجها بصورة قبلية بصرف النظر عن عقائدهم السياسية وفي الوقت ذاته كانت هي الحرب الوحيدة التي أفضت إلى نتائج معاكسة لكل التوقعات بصورة كلية. ومن هذه الزاوية نستطيع أدراك مدى أهمية دراسة وتحليل عوامل تلك الحرب والظروف التي أحاطت بها وبالتالي استخلاص ماهية العوامل الرئيسة التي دفعت في مجرة ذلك السبيل الذي سلكته. وفي هذا الصدد يمكننا الإشارة إلى طائفة من العوامل التي أحسب أنها كانت ذات أثر في نتيجة حرب الحصار أكثر من سواها ويمكن تقسيمها إلى قسمين سياسي وعسكري تكتيكي أو بمعنى آخر استراتيجي. ولكن قبل أن نستعرض من هذه العوامل فإننا نشير إلى ما يعتبر عامل العوامل إذا جاز التعبير من حيث أنه كان المقدمة والأساس الذي خلق العوامل الأخرى وجعل منها أساساً للنصر وهو قيامك الثورة السبتمبرية ذاتها، ذلك المتغير الأكبر الذي أنهى حقبة طويلة من الزمن بقواها المتخلفة وبماضيها وعقمها الفكري والسياسي، ودشن حقبة جديدة تماماُ بقواها وبقيمها وآفاقها المستقبلية. فالثورة السبتمبرية وإن لم تستطع اجتثاث قوى الظلم والتخلف من جذورها وبصورة كلية فإنها قد أفلحت في دق مسمارها في تقاليد الاستبداد الآسيوي وأن تعاظم جدار العزلة السميك الذي فرض على الشعب ردحاً طويلاً من الزمن من شأن ذلك كله خلق آفاقاً رحبة أمام قطاعات واسعة من جماهير الشعب للمشاركة في تقرير مصير وشؤون حياته، وتوافرت من ثم ظروف اجتماعية وسياسية مواتية لبروز قوى اجتماعية نهضت بسرعة وارتبطت مصالحها ببقاء النظام الجمهوري وتعزيزه وغدت تشكل قاعدته العريضة وصارت من ثم معنية بالدفاع عنه. وقد يكون الجائز على سبيل الاستدلال لفت الانتباه إلى بعض الحقائق مهما كانت معلومة ومن بينها مشاركة المرأة اليمنية في العمل والكفاح دفاعاً عن النظام الجديد لأول مرة في تاريخ اليمن المعاصر. وتدفقت عشرات الآلاف من العمال في الوطن والمهجر إلى رحاب الحياة الجديدة سواء في ميادين العمل والتدريب أو في خنادق القتال ومع أن نواة القوى السياسية ذات التوجه الديمقراطي والقومي قد تكونت قبل قيام الثورة فإنها ظلت منحصرة في نشاطات حلقية ضيقة وبعيدة عن قطاعات الشعب العريضة الأكثر ثورية والأشد ارتباطاً بالتغيير والمستقبل. وكان لثورة سبتمبر وحدها فضل إخراج تلك القوى من مخابئها والدفع بها إلى سطح الحياة والمعاناة اليومية وسط الجماهير، وبقدر ما شكل قيام الثورة ظرفاً موضوعياً لانتشار القوى السياسية وتجذير بنيتها فان كفاح تلك القوى ضد حرب التدخل الامبريالية- الرجعية التي أعلنت ومورست عملياً بهدف إسقاط النظام الجمهوري، أفضى بدوره إلى إحداث نقلة فكرية أكثر عمقاً وجذرية في المناخ الفكري والسياسي لدى القوى الجديدة بتعبيراتها السياسية المختلفة، وخصوصاً ذات الاتجاه القومي ومهما كانت درجات التحولات الأيديولوجية وما تلاها من تمايزات فكرية واجتماعية بين القوى السياسية المختلفة ومع الإقرار بودود عوامل سياسية واجتماعية أخرى فإن تبلورها على ذلك النحو من السرعة بانتقال العديد من القوى القومية إلى مواقع الديمقراطية الثورة في أمد زمني قصير إنما تم في خضم الكفاح الوطني المعادي للامبريالية وبفعل التأثير المتعاظم لقوى السلم والاشتراكية في العالم. وفي هذا تكمن حقيقة كون القوى السياسية الجديدة أضحت أكثر استعداداً من غيرها لخوض معركة الدفاع عن النظام الجديد الذي كان في ذات الوقت دفاعاً عن الاستقلال والسيادة وعن مصالح جماهير الشعب، وأن ترفض بحزم أي مساومة على مصير النظام الجديد، حتى وان بقيت في نطاق الاحتمال. وليس من شك بأن منظومة هذه العوامل والأسباب شكلت أرضية صلبة لأن تتبوأ هذه القوى مكاناً مرموقاً في قيادة نضالات جماهير الشعب خلال تلك الفترة الحرجة وان تلعب بالتعاون مع سائر القوى والشخصيات المؤمنة بالنظام الجديد دوراً بارزاً في تعبئة الشعب والجيش سياسياً وتبصيرها بمنبع الخطر وإشاعة العز والإصرار على دحر القوى المعتدية.