جاليلو جاليلي واحد من رواد النهضة الأوروبية, وأحد علماء الإنسانية, ممن أضاؤوا عتمة الفكر المتصحر في ذلك الزمن الأسود, الذي كان يغطي بردائه أصقاع أوروبا, مثله مثل كثير من نظرائه آنذاك الذين قدموا أرواحهم بين أكفهم ثمناً للفكر الذي حملوه والرأي الذي نادوا به. كان جاليلو (في بداية عصر انفجر فيه بركان العقلية في أوروبا وحطم علماء الطبيعة والعلوم سلاسل التقليد الديني, فزيفوا هذه النظريات الجغرافية التي اشتملت عليها هذه الكتب وانتقدوها في صراحة واعتذروا عن عدم اعتقادها والإيمان بها, وأعلنوا اكتشافاتهم العلمية واختباراتهم, فقامت قيامة الكنيسة, وقام رجالها المتصرفون بزمام الأمور في أوروبا, وكفروهم واستحلوا دماءهم وأموالهم في سبيل الدين المسيحي, وأنشأوا محاكم التفتيش التي تعاقب كما يقول البابا أولئك الملحدين الزنادقة الذين هم منتشرون في المدن وفي البيوت وفي الأسراب والغابات والمغارات والحقول, فجدّت واجتهدت وسهرت على عملها, واجتهدت ألا تدع في العالم النصراني عرقاً نابضاً ضد الكنيسة, وانبثت عيونها في طول البلاد وعرضها, وأحصت على الناس الأنفاس وناقشت عليهم الخواطر... ويقدر أن من عاقبتهم هذه المحاكم يبلغ عددهم ثلاثمائة ألف عالم, أحرق منهم اثنان وثلاثون ألفاً أحياءً, كان منهم العالم الطبيعي المعروف (برونو) حكمت عليه المحكمة بالقتل, واقترحت ألا تراق قطرة من دمه, وكان ذلك يعني أن يحرق حياً..)(1) وكذا فلقد (حُبس «دي رومنيس» حتى مات, ثم حوكمت جثته وكتبه, فحكم عليها وألقيت في النار, وذلك لأنه قال: إن قوس قزح ليست قوساً حربية بيد الله ينتقم بها من عباده, إذا أراد, بل هي انعكاس ضوء الشمس في نقط الماء)(2). ومن ضمن من عذبوا (جاليلو جاليلي) الذي عانى اضطهاد السلطة الدينية المتمثلة في استبداد وتعنت الكنيسة, إذ طالما تعرض طوال حياته لاستدعاءات المحكمة لمناقشته حول فكرة دوران الأرض التي كان يقول بها, وحضر المحكمة واضطر أن يناور مناورة المفكر والفيلسوف, لأنه أمام محك صعب (يكون أو لا يكون) هذا المحك الذي طالما وقف عنده كثيراً ولعله تمثل هنا مذهب أفلاطون الذي خالف به سقراط, حيث يؤكد أفلاطون على حياة العالم والمفكر, إذ يراها ضرورية ليواصل أفكاره وأبحاثه ولو اضطر إلى محاباة السلطة ومجاملتها, فالمجاملة أو التقية بالمفهوم الشيعي هي خير له ولغيره من أن يجازف بحياته أمام هوس السلطة قائلاً: (مالم يتظاهر الرجل الصالح فإنهم سيعذبونه ويسجنونه ويعمون عينيه, ثم يصلبونه أخيراً). ومن هنا اضطر «جاليلو جاليلي» إلى التنازل عن رأيه القائل بدوران الأرض حماية لنفسه أمام نزق المحكمة الجارف, وأثار هذا التنازل ضجة كبيرة عليه من تلاميذه حتى جاهره بعضهم بالخصومة, لأنه خيّب آمالهم في الثبات على رأيه, حتى أن أحدهم ليقول له: (ويل للوطن الذي لا ينجب أبطالاً) فيرد عليهم جاليلو بقوله: (بل ويلٌ للوطن الذي يحتاج إلى أبطال)!! ولهذا فقد سمحت المحكمة لجاليلو أن يواصل أبحاثه ويستمر, ولكن تحت مراقبة البابا الدقيقة, ومن ثم يسلم نتائج أبحاثه إلى الكنيسة, فواصل أعماله وألّف كتاب (دسكورسي) (مناقشة بشأن العلوم الحديثة) وأعطاه للكنيسة حسب الأوامر وهو يعرف مبدئياً مصير الكتاب الذي لن يلقى غير الحرق أو الإتلاف, إلا أنه لحنكته وبراعته قد عمل على نسخ الكتاب نسخة أخرى بينما كان المراقب الكنسي يغط في نومه بالليل, فكتبه سراً في ظلمة الليل حتى فقد بصره واستطاع أن يخبئه تحت إزاره. ومن عجيب مواقف جاليلو أنه عندما دعته محكمة التفتيش للحضور أمامها والمثول أمام هيئة الادعاء إزاء المخترع الجديد (التلسكوب) حضر مع تلسكوبه إلى وسط قاعة المحكمة, ووضع مرصاده الصغير وسط القاعة وقام يتوسل بجميع الحكام والحضور أن ينظروا ولو نظرة واحدة من خلاله نحو السماء, ليروا كوكب المشتري, ليثبت لهم حقيقة اكتشافه في عالم النجوم والمجرات إلا أنهم رفضوا ذلك, وكأن هذه النظرة ستسقط معتقداتهم الوهمية التي يحاكمون الرجل عليها, ومن هنا فقد عذبوه وسجنوه مقابل أداة العلم (التلسكوب) الذي كان يحمله جاليلو, بل لقد حملوا هم أدوات التعذيب لإثنائه عن رأيه حول فكرة دوران الأرض, وعندما رأى هذه الأدوات التي جهزت لتعذيبه في الزنزانة اضطر أن يتخلى عن فكرته مرة أخرى, وعندما نهض من المحاكمة بعد العفو عنه ضرب الأرض برجليه وقال كلمته المشهورة: (ومع ذلك فهي تدور)!! الهوامش (1) ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين. أبو الحسن الندوي250. (2) جهود المفكرين المسلمين المحدثين في مقاومة التيار الإلحادي, الدكتور محمود عبدالحكيم عثمان 117.