كان المدفع هو الذي فتح ثغرة في قلعة أرسطوطاليس الفكرية، ولكن كيف؟ جاء الفتح من فوهة المدفع؟!! فمع أن كل متأمل يرى سير القذيفة على نحو منحنٍ، ولكن أرسطو (الدماغ الأكبر) كان يرى أن سرعة الأجسام عند السقوط تتزايد لأنها تتحرك في (شوق) إلى موقعها الطبيعي المنخفض!! وأن الجسم يلتمس سعادته (كذا) بالسقوط عمودياً إلى الأرض؛ حنى جاء (نيكولو تارتاجيا) وهو اسم مستعار ومعناه (المتلعثم)؛ فأصدر كتابه المترجم عام 1543م عن أرخميدس، وأن مسار الأجسام في الأوساط يعتمد قوانين نوعية، وهي التي دفعت أرخميدس يومها أن يقفز عارياً، بعد أن تعرّت له الحقيقة ويصيح أوريكا.. أوريكا أي وجدتها وجدتها.. حينما استوعب قانون طفو الأجسام في السوائل. ولم تكن هذه الخطيئة الوحيدة في فكر أرسطو، بل ساهم في منطقه الصوري في تأخير الفكر الإنساني ألفي سنة قبل ولادة المنهج الاستقرائي التجريبي الذي دشنه علماء المسلمين من روح القرآن التي حثت على تأمل الكون والتاريخ وأحداث الأمم والأنبياء والسير في الأرض لنفهم كيف بدأ الله الخلق؟؟ وفي هذا العام 1543م أصدر (كوبرنيكوس) كتابه عن دوران الأرض والشمس؛ فزلزلت الكنيسة وارتاعت، ويصف المؤرخ (ديورانت) هذا العام بأنه عام العجائب، لأنه تم خرق (التابو) في الفلك والجغرافيا والجسم الإنساني، ففي نفس هذه الفترة مسحت جغرافيا الأرض على نحو جديد، بعد إبحار ماجلان عام 1519 ودورانه حول الأرض. وبعد (كوبرنيكوس) تحولت الأرض إلى ذرة تافهة في المحيط الكوني. وقام (فيزاليوس) بخرق حرمة الجسم فبدأ في تشريحه، حتى طاردته الكنيسة، فهرب إلى إسبانيا، وهناك قام بضربته العبقرية في إنقاذ ولي العهد (كارلوس) من نزف في الدماغ، حين ثقب الجمجمة، فاتهمته الكنيسة من جديد، بأنه حليف للشيطان، فهرب مرة أخرى من إسبانيا. والعبقريات لا تولد هكذا.. ولعل سرها كما رواه (جيمس بيرك) صاحب كتاب (عندما تغير العالم) أن نوياته الأولى كانت من نشاط علماء متبتلين، جازفوا بحياتهم ضد البابوية، ومحارق محاكم التفتيش، مثل (مارين ميرسين) الذي قام بنشاط خطير عام 1630م، حين بدأ يعقد جلسات سرية مرتين أسبوعيا، لاستقطاب الأدمغة في أوروبا، وفي مجلسه ذاك وصل (ديكارت) إلى منهجه في الهندسة التحليلية مع طنين ذبابة؟! وكما يقول (مالك بن نبي) إن تفاحة نيوتن عند (جده) أي جد نيوتن، لم تزد عن قضمات من فاكهة ممتعة تتحول في النهاية إلى روث؟ كما كان يفعل الملك (هنري الثامن) وهو يقتل ستة من زوجاته بقطع الرأس بالساطور والبلطة؟؟ أما نيوتن فعاش في ظروف متخمرة، قدحها نشاط حميم في أوروبا، وتيار متدفق من العبقريات، بدأت تأخذ التأثير العكسي المتبادل، وهكذا ولدت العبقريات، وعلى نحو متدفق متسلسل؛ ففي عام 1615 م يكتشف كبلر قانونه الثالث في الفلك، أن الكواكب تتهادى في الفلك الأعلى في مواقع تتراوح بين (مربع) السرعة، و(مكعب) بعدها، من تأمله كيف كان تجار الخمور يقيسون حجم البراميل بعصا مائلة. وفي عام 1628م يكتشف (وليم هارفي) الدورة الدموية. وفي عام 1632م يضع (جاليلو) كتابه المزلزل عن دوران الأرض والشمس، ومعها تسقط ورقة التوت عن عورة الكنيسة، بعد أن دخلت القرن السابع عشر بمشاعل مخيفة من محرقة (جيوردانو برونو)، الذي خالف الكنيسة بوجود عوالم لانهائية، فهي من آيات الله في السموات والأرض، وما بث فيهما من دابة، وهو على جمعهم إذا يشاء قدير. وفي عام 1637 م يضع (رينيه ديكارت) (المقال على المنهج)، وبهذا يعتبر من البناة النظريين للحضارة الحالية العقلانية. وفي عام 1648م يقوم (توريشللي) الطلياني بقياس الضغط الجوي. وفي عام 1661م يشق (بويل) طريقه إلى الكيمياء الحديثة، وبذلك ينتهي العصر اليوناني ونظرية القرون الوسطى، في فهم الكون على أساس من العناصر الأربعة: (التراب والماء والهواء والنار)؛ لينتهي الموضوع مع (ديمتري مندلييف) الروسي في وضع تصنيفه (الدوري) الرائع عن العناصر المعدنية. أما (أوجست كيكول) فقد جاءته تلك اللحظة من وميض العبقرية في فهم الكيمياء العضوية وترابط ذرات الفحم على شكل أفعى تلتقم ذيلها، وكان مناما صادقا فتح الطريق لتأسيس علم جديد. ويقول الفيلسوف البريطاني (برتراند راسل) في كتابه (النظرة العلمية) أن خلاصة النهضة الأوروبية وعصر النهضة يدين لمائة دماغ لا يزيد، ولو تم اغتيالهم واصطيادهم على أيدي مخابرات الكنيسة، لما كان هناك نهضة وناهضون؟ ونحن في العالم العربي اليوم نعيش هذا العصر، عصر المماليك البرجية أيام سعيد جقمق المملوكي تحت أسماء من حكام عرب يعيدون دورة التاريخ مقلوبة للخلف، من ظلمات ومخابرات العصور الوسطى، بما تحمل من تعصب واضطهاد وتثبيط لكل نشاط عقلي إبداعي.. وهذا يذكر بكتاب الاعترافات الخطير الذي وضعه الكاهن (جان مسلييه) الذي يستحق مقالة خاصة به، وحين قرأ أهالي الأبرشية وصيته؛ نبشوا قبره، ولعنوه، ونشروا عظامه، وتبرؤا منه، بعد أن خدم الكنيسة ثلاثين عاماً، بكل صدق وإخلاص، كما ذكر في وصيته، معترفا بأنه كفر بالبابا والكنيسة والصليب والتثليث، ولم يتجرأ حتى (فولتير) المعروف بسلاطة لسانه، وسخريته من رجال الكنيسة ودينها، على نشر كامل الوصية، بل اقتطف مقاطع من وصيته، فيها من الوهج والطاقة ما تتحمله عقول القراء دون أن تحترق... وهكذا فأوروبا الحالية لم تولد هكذا ولم تتخلص من قبضة مارد الفاتيكان بسهولة.. وقام (دين كيث سايمنتن) في كتابه (العبقرية والإبداع والقيادة) بدراسة جدية معمقة لكل العناصر المتعلقة بظروف ولادة العبقريات، وهو يذكِّر بكتاب (المسائل) للكاهن الفرنسي (مارين ميرسين) الذي وضعه حول البحث العلمي، وانه يقوم على ثلاث قواعد: رفض كل ما يتعلق بسلطة سابقة. اعتماد الملاحظة المباشرة والتجربة. وصياغة النتائج على شكل رياضي. قام سايمنتن بدراسته على نمط منفرد مثل: الدراسة العلمية لعباقرة التاريخ عموما، والأسلاف والمورثات والأجيال، والشخصية والطابع، والتعليم، والإنتاجية والنفوذ، والعمر والإنجاز، والجماليات والكاريزما، وروح العصر، والعنف السياسي وتثبيط البحث العلمي، وقوانين القياس التاريخية. والرجل وصل إلى نتائج مثيرة حقا وينصح بالاطلاع عليه، وأنا قرأته أكثر من مرة، على قاعدة قراءة الكتاب الجيد أكثر من مرة، عوضا عن قراءة أبحاث تافهة، تأتي مع بحر الانترنت في زبد يضر بالعقل ويضيع الوقت ويؤذي العين ويلوث الذاكرة, أو محطات فضائية تعتمد التهويش والتضليل في النقاش من سياسيين تافهين يجيدون الصراخ والسباب والتخوين والمراء ونفخ الأبواق للأمراء والقادة العميان في البلاد العربية.. وقد نهينا عن المراء، فمن ترك المراء وهو محق بنى الله له ربضا في الجنة، ولكن بيننا وبين ريح الجنة عرض مسافة مجرة الأندروميدا 150 ألف سنة ضوئية...