“من فضلك لا تفسد دوائري Noli,turbare circulos meos?” هكذا خاطب ارخميدس الجندي الروماني الذي اقتحم بيته في زحمة الفوضى وقرقعة السلاح، بعد أن سقطت سيراكوزة، عاصمة صقلية تحت الهجوم الروماني، في الحروب البونية الثانية، حين اختارت صقلية أن تقف إلى جانب قرطاجنة في الحرب المصيرية مع روما؛ فخسرت حريتها ودمرت قرطاج؟ كان جواب الجندي الروماني طعنة بالسيف أزهقت أنفاس العالم.. هكذا تقول الأسطورة!! ولكن الحقيقة يبدو أنها كانت من نوع مختلف.. فأرخميدس كان ضالعا ً في المقاومة العسكرية، يسحق القوات الرومانية بمنجنيقات هائلة، ويلقي بالكماشات العملاقة فتقضم مراكبهم، أو يرسل أشعة الشمس المركزة فيحرق سفنهم، وبذلك كان يقاتل أفضل من فرق عسكرية مدربة. وسيف الجندي الروماني حين أصاب مقتله كان بالنسبة لروما الرأس المطلوب. ومن قصص الحرب العالمية الثانية الخفية نعرف؛ أن من فجر السلاح الذري فوق رؤوس اليابانيين، لم يكن العسكر بقدر العلماء... وهذه هي قصة المأساة التاريخية بين العسكر والعلماء والبساطر والأدمغة. عاش أرخميدس في القرن الثالث قبل الميلاد، في وسط المعارك البونية التي كانت صورة الحروب العالمية في العالم القديم، تدور رحاها في حوض البحر الأبيض المتوسط، بين الشرق والغرب، في ثلاث دورات عجاف، عاشها ثلاثة أجيال، كل واحدة أشد هولا من التي قبلها، وختمت بتدمير قرطاجنة بعد معركة زاما 164 قبل الميلاد، وفرار هانيبال إلى أنتوخيوس الثالث في سوريا الحالية ثم انتحاره فيها، وحرق مدينة قرطاجة وحرثها حتى الأساس، وقتل أكثر من 400 ألف من سكانها، وأخذ خمسين ألفا هم ما تبقى منهم عبيدا إلى روما. في هذه الحروب الضروس كان حظ صقلية سيئا، ومعها قدر العالم الجليل (أرخميدس) فقد كانت صقلية في الطرف المهزوم، فخسرت الرهان ودمرت واحتلت والحقت بروما. ترك لنا أرخميدس روعات من الكشوفات العلمية؛ فهو من فتح الطريق لرياضيات التفاضل والتكامل، وهو من وضع لعبة للأطفال اسمها (ستوماشيون) من 14 قطعة، تنقسم إلى مربعات لانهاية لها في علم الاحتمالات، لم يفكها إلا أربعة علماء عام 2003م بعد عمل 6أسابيع وتبين أنها 17152 احتمالا. وهو الذي أوصل الرياضيات إلى ما بعد الفاصلة، في حساب مساحة الدائرة ما عرف بال (بي 3.14). وهو الذي اكتشف قانون الرافعات. ويقال إنه أنزل سفينة (سيراكوزيا) التي كانت تزن 4000 طن بروافع يحركها بأصابعه؟! كأنها الجان. وهو الذي كشف عن قانون (الكثافة النوعية) وقانون الإزاحة؛ فكشف سر نقاوة تاج الملك، هل كان ذهبا أو مغشوشا؟ فخرج من الحمام في لحظة تجلي العبقرية عاريا يصرخ (أوريكا .. أويريكا.. أي وجدتها وجدتها؟). وهو الذي تكلم عن قانون الجاذبية بطريقته الخاصة. وهو الذي تصور الكون أنه مكون من ذرات تبلغ عشرة مرفوعة إلى القوة 63، ولم يكن في عصره من يتصور رقما أكبر من عشرة آلاف كان يطلق عليه (الميراد)، فدفع أرخميدس الأرقام الى اللانهاية. وبلغ من ثقته بقوة قانون الرافعة أن قال : أعطوني نقطة ارتكاز في أي مكان، وأنا سأحرك لكم الكرة الأرضية؟ بكل أسف ضاعت كتب الرجل، ولم يبق منها إلا أقل القليل مما نقله العرب، وفي عام 2007م تم الإعلان من المعهد الفني في بالتيمور في أمريكا، بواسطة اثنين من علماء الخطوط هما (ريفيل نيتس ووليام نول) أن المخطوطة التي عثر عليها في باريس عند عائلة باعتها بالمزاد العلني للملياردير جيفري بيزوس بمبلغ 2.2 مليون دولار مؤسس الأمازون مكتبة الانترنت، أنها درست المخطوطة وفكت آخر أسرارها. وبذلك بقي اسم أرخمديس أكثر من روما وقرطاج والحروب البونية، فهذا مصير العلماء، وذلك مآل السياسة وأهلها.