هذا عنوان كتاب كامل لجاك بيرج ينصح بقراءته، لمعرفة أن التاريخ يدين برمته إلى عدد قليل من المفكرين الذين غيروا التاريخ، ولكن لابد من نسق يستعد لأفكارهم، وإلا كان مصيرهم مثل ابن رشد والتربة الإسلامية القاحلة، ونحن من يكتب نشبه الماء من جهة، فإذا انحبس في مكان انبجس ينابيع في أماكن شتى، والكثير يحاول احتكارنا، بدون أمان ممن سيحتكر، أن لا يمحى أثرك بجرة قلم ومكالمة تلفونية، لذا كان تتبع أثر أولئك المبدعين القديسين رائعاً لا ينسى. ومن فتح الله عليه في تاريخ مغامرات الأفكار كثيرون، وهناك من جاءهم وميض عجيب، فأوحى إليهم بأفكار، غيرت التفكير الانساني، وتركت بصمات عملهم في أثر لا يمحى، وهم عينة من تيار من العلماء، وصل معظمهم الى أفكار وقوانين جديدة، تحت تأثير وميض العبقرية، في لحظة مباركة. مثل سقوط التفاحة عند (اسحق نيوتن) التي أوحت له بفكرة الجاذبية، وكان أبوه يأكلها أو يطعمها الحمار. وتراقص غطاء ابريق الشاي، الذي يغلي أوحت للعالم (دينيس بابان) بفكرة ضغط البخار، فتم استخدامه قبل مائتي سنة، وسيرت على القضبان القطارات، تحت تأثير ضغط الماء المغلي المحبوس، وكان كل الناس يرون تراقص غطاء ابريق الماء الذي يغلي، فلم يفهموا منه سوى همهمة ودمدمة، وعليهم أن يقوموا فينزلوا الإبريق عن النار. أما (أرخميدس) فقد جاءته الفكرة في حوض الماء، عندما انزاح الماء عن جسمه فأوحت له تلك اللحظة بقانون الطفو، والوزن النوعي للذهب، فركض من الحمام عاريا يصيح اوريكا اوريكا أي وجدتها وجدتها. ويعني أنه عثر على الحل والتفسير لتاج الملك، هل هو ذهب حقيقي أم مغشوش؟ ومن قانون أرخميدس في الطفو، تمشي اليوم سفن الحديد العملاقة، في المحيطات وكأنها الأعلام. وفكرة اختراع ماكينة الطباعة جاءت ل (يوهان جوتنبرغ) وكأنها أشعة شمس نافذة، تقول له ماذا يفعل؟ وكانت قبله فكرة بسيطة، من أي خاتم عليه نقش، يكفي أن يكبر سطح الخاتم الى صفحة، ويوضع عليه حبر، ويطبع فوق صفحة ورق. وهذه الفكرة البسيطة لو انقدحت وطبقت في العصر العباسي لأراحت نساخ الورق في بغداد بشكل خرافي، ولكن وميض العبقرية يحتاج الى شروط ووسط وذكاء ومال وحظ وتراكم معرفي. أما (ابن خلدون) فقد انتبه الى قوانين الاجتماع، خلال هدأة من الفكر، استمرت خمسة أشهر، في حياته الصاخبة، التي استمرت 75 سنة بين تونس والأندلس ومصر، ولولا هذه الأشهر المباركة في (قلعة عريف) لما وصل الى يدنا هذا الإنتاج الفذ، الذي وصفه صاحبه بالحكم القريبة المحجوبة، التي جاءته على نحو مفاجئ، ولا يكاد يتفطن لها إلا الآحاد من الخليقة.. أما (شامبليون) الذي فك أسرار اللغة الهيروغليفية، فجاءته أيضاً في ليلة ليلاء، بعد جهد مكثف لأكثر من 14 سنة، ثم التمعت في لحظة واحدة من وميض العبقرية، فخر على الأرض مغشيا عليه، لأن الفراعنة وكهنتهم خرجوا عليه دفعة واحدة، يتحدثون يروون له حياة كاملة، كانت ميتة مغيبة، في ضمير العدم لمدة ثلاثة آلاف سنة ويزيد. أما (آينشتاين) فقد ولدت في ذهنه (النظرية النسبية)، وهو يتصور نفسه معتلياً شعاعاً من الضوء، وخيل إليه في لحظة، أنه ثابت، فقال بثبات سرعة الضوء، ومن أسرار الضوء ولدت النظرية النسبية الخاصة بكل تطبيقاتها، ومنها تفجير الذرة والسلاح النووي. أما (أوجست كيكول) فقد فهم (حلقة البنزين) في الكيمياء العضوية، بمنام خرج عليه ثعبان بفحيح، قام بالتقام ذيله. وفي ليلة تاريخية وصل الفيلسوف (رينيه ديكارت) عام 1630 جنوب مدينة أولم في ألمانيا، الى منهجه التحليلي المشهور فكتب ( المقال على المنهج) وحرب الثلاثين عاما الضروس، تأكل الأخضر واليابس في الأرض الألمانية، ووصف تلك الليلة أن دماغه كاد أن يحترق.. أما (باسكال) فقد خرج بأجمل نظرياته، في ليلة محمومة، كاد أن يغشى عليه من الألم فكتب (الخواطر). وفي غابات الأمازون كان (الفرد راسل والاس) يهذي من الحمى بعد لسع البعوض، وفي ضرامها انقدحت نظرية (انتخاب الأنواع). مشكلة العبقرية أن كل واحد منا، يمكن أن تنقدح عنده، ويصل إليها، ولكننا وبطريقة ما نطفئ هذا النور الفطري فينا، فيعيش أحدنا في ظلمات ليس بخارج منها.