سيطر الفكر اليوناني لحوالي سبعة عشر قرنا وتحول مع الوقت إلى طاغوت رهيب، وهكذا أحرق أناس من أجل آراء بطليموس في النظام الشمسي مع كل مظاهر التصدع في النظرية وعدم القدرة على التفسير مع الوقت، وسيطرت فكرة ( الاتوم ATOM) أي الذرة أنها الجزء الذي لايتجزأ، حتى أنهت هذه العقيدة الوثوقية تجربة آلاموجوردو في تفجير السلاح النووي، وكان الانعطاف التاريخي على يد رواد الفكر في العالم الإسلامي، فهم الذين أنهوا سيطرة المنطق (الصوري) ليُدفع العقل بالاتجاه القرآني، أي تأمل الواقع (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت) وهكذا ولد مبدأ (التجربة والاستقراء) فكان العقل الإسلامي يلعب الدور المحوري المفصلي في نقلة العقل الإنساني من المرحلة (الأسطورية) إلى المرحلة (العلمية) خلافاً لما ذهبت إليه الوضعية على يد (أوجست كومت) ثم الوضعية المنطقية بعد ذلك على يد (إرنست ماخ) النمساوي، اللذين رأيا تطور العقل الإنساني يتنقل من المرحلة البدائية إلى المرحلة الميتافيزيقية الدينية ليصل إلى المرحلة العلمية الوضعية، صحيح أن كومت انتبه إلى القوانين التي تحكم المجتمع، وبذلك يكون قد تابع مسيرة ابن خلدون في إدراك قوانين المجتمعات، ولكنه لم ينتبه وغفل عن التجلي الإسلامي في إطلاق الشرارة العقلية الكبرى عبر كل التاريخ، وهذه النقلة القرآنية واضحة جداً من النسق القرآني الذي ألغى فكرتي: المعجزة كدليل مادي للوحي في الوقت الذي كررها بشكل واضح في عشرات الأمكنة للأنبياء الآخرين، وهذا يشي بتدشين عصر جديد. وكذلك فكرة ختم النبوة ، فالقرآن بهذه الكيفية توسط عصرين وفصل بين مرحلتين، فهو من العالم القديم ولكنه بشر بمولد العقل الاستدلالي ودعا إلى تثبيته كونه أمرا كسبيا، وهذا يفيدنا أيضاً بأن نفهم القرآن بأنه ليس كتاب فيزياء وكيمياء ورياضيات وطب، بل هو ذلك الكتاب الذي يولد المناخ العقلي الذي يفرز كل هذه العلوم، ونفهم من هذا أيضاً أن عمليات اللهاث لاعتصار الآيات لاستخراج الكشوفات العلمية منها منهج خائب في عدة مستويات، فسرعة الضوء كشفها (فيزو) بوسائط فيزيائية بحتة ، وبدون نص يرجع إليه، في الوقت الذي يسعى البعض لمحاولة اكتشافه في بعض الآيات، وضمن هذا المناخ الصحي نبت قديما العلم الإسلامي، ويمكن أن ينبت مرة أخرى ضمن نفس الشروط، وبنفس هذه الدورة التاريخية ارتفع أناس، فاسحق نيوتن لم يكن لينقدح في ذهنه قانون الجاذبية لأنه رأى سقوط التفاحة، فجده لم تحرِّك فيه أكثر من شهية قضمها. كذلك الحال في (دينيس بابين) الذي رأى في تراقص غطاء إبريق الشاي مفاتيح طاقة البخار، وأما ديكارت التي كانت الذبابة تطن مزعجةً بجانب أذنه فقد أوحت له بمبادئ الهندسة التحليلية، حيث استطاع بعبقرية أن يمزج علم الجبر بالهندسة، وفي السنة التي أعلن فيها (كوبرنيكوس) نظامه الشمسي الجديد كان (فيزاليوس) يشق الطريق عبر الجسم البشري للمرة الأولى في التاريخ الأوروبي، فيدخل عالم (التابو) أي تشريح الجسد الميت الذي كان يعتبر مسه بعد الموت حجرا محجورا.