في زمن جاليلو تعرض قس دومينيكاني إلى ما هو أفظع مما تعرض له جاليلو؛ ففي عام 1593م ألقت محاكم التفتيش القبض على الفيلسوف (توماسو كامبانيلا) بسبب آرائه ضد الكنيسة فهي حسب رأيه أي الكنيسة: “روجت للخرافات كي تتحكم برقاب الناس وتبقيهم خائفين”. وهذا الكلام يقترب من حافة الإلحاد. وبقي في السجن ست سنوات حتى عام 1599م ثم أطلق سراحه ليوضع تحت الإقامة الجبرية في نابولي. ولكن الرجل عاد ليتحدث بأفكاره الخطيرة وهي مثل كل آراء المصلحين سابقة لزمانها ومنها فكرته عن “إقامة جمهورية تقوم على حرية التعبير الكامل”. هذه المرة لم تكتف محاكم التفتيش بالسجن بل عرضته للتعذيب كي تغير قناعاته، وأثناء هذا تعلم (كامبانيلا) شيئا عن السلطة وكيف يقاومها، فتظاهر بالجنون، فلم يصدقوا وعرضوه للتعذيب للتأكد من ذلك. ثم أظهر (كامبانيلا) العقل وبدأ في كتابه (الملكية الإسبانية) يمتدح الكنيسة فسرت بذلك، وكانت إسبانيا تحكم الجنوب الإيطالي وتتعاون بنفس آلة (محاكم التفتيش) في التأكد من عقائد الهراطقة، ومما جاء في الكتاب نصائح عملية للملك الإسباني (لتوسيع سلطاته الإلهية). ظن الأصدقاء أنه جن فعلاً، وفي أضعف التقديرات أن الرجل تغيّرت قناعاته، بكلمة أدق لقد غيَّر السجن آراءه فعلاً، وهذا يقول إن الدولة والتعذيب يفعلان بالإنسان ما يشاءان. ولكن الكتاب لم يكن في الواقع إلا خدعة بعد خدعة التظاهر بالجنون للتملص من قبضة محاكم التفتيش الجهنمية، وكسر قيدها الحديدي بكل طريق ممكنة وهي تذكر بفعل الماء في الصخر. ونجحت الخدعة هذه المرة ولكن …. هنا خففت محاكم التفتيش العذاب عنه لشعورها بأن التعذيب أعاده إلى رشده، ولكنها لم تفرج عنه بل أودعته زنزانة منفردة تحت الأرض مقيدة ذراعه إلى الجدار لمدة أربع سنوات للتأكد من توبته النصوح. وبقي الرجل في محبسه 23 سنة حتى عام 1626م. وبعد خروجه بوقت قصير أصدر كتاباً هاماً بعنوان (هزيمة الإلحاد). واحتار رجال الكنيسة في تفسير ما جاء فيه، فهو من جهة يعرض آراء المفكرين الأحرار والمكيافيللين والكالفينيين والهراطقة حسب لوجاريتم الكنيسة ومن كل صنف، ولكنه كان يعرض آراء الخصوم بوضوح ودقة في الوقت الذي يستشهد بآراء الكنيسة في الرد عليها بصيغ عتيقة مبتذلة وأسس منطقية معقدة. والحاصل أنه بدل أن يفنِّد رأي (الهراطقة) فعل عكس ذلك بطريقة غير مباشرة فقد جلى آراءهم ووضحها ونشرها وبواسطة الكنيسة. ولم يكن في مقدور محاكم التفتيش وأشياعهم هذه المرة أن يلقوا القبض عليه ويودعوه في السجن من جديد فقد رفع الرجل المؤمن العائد إلى حظيرة الكنيسة (شعار) الدفاع عن العقيدة الصحيحة والكثلكة والبابا والكنيسة. وبعد فترة وجيزة أصبح كتاب (هزيمة الإلحاد) إنجيل الملحدين من كل صنف، يتدارسونه فيما بينهم؛ فتعمهم البهجة وتحفهم السكينة والخشوع أن قد نالوا أخيرا من الكنيسة من حيث أرادت النيل منهم. ويمكن مراجعة كامل القصة في كتاب قصة الحضارة لويل ديورانت. وكما يقول الرب: (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب، ما كان حديثا يفترى).