نروم في هذه المقالة أن نتعرف على موقف الشاعر أبي نواس من مقدمات الشعر العربي، والأسباب التي دفعت به إلى المطالبة وبإلحاح شديد لاستبدال هذه المقدمة، وهل لاقت دعوته صدى لدى مجايليه. لأبي نواس إزاء المقدمة التقليدية ثلاثة مواقف نفصلها على النحو الآتي: الموقف الأول: راح أبو نواس يعلن فيه حربه الواضحة والقوية على مقدمات القصيدة العربية؛ لأنها كما يرى صورة للحياة التي قبلت فيها وهي حياة منحسرة ومتراجعة، فإن صح لشاعر جاهلي عاش في الصحراء المقفرة بين الضباب واليرابيع والخيام والأوتاد أن يبدأ قصائده ومدائحه بالبكاء على الأطلال والوقوف فيها فإن ذلك من بيئته وطبعه ولا لوم عليه في ذلك أما أن يبدأ شاعر يقيم على ضفاف دجلة والفرات إلى جانب الرشيد والمأمون في ظل ترف القصور والرياض فذلك ما يأباه الطبع وتنفر منه الأسماع، كيف يصح لأبي نواس أن يبكي على طلل لم يمر به وناقة لعله لم يركبها.. هي النزعة الواقعية إذن التي أهم خصائصها الصدور عن الواقع وملابساته وتصويره بدقة من هنا مال أبو نواس إلى أظهر الأشياء في حياته وعهده.. الخمر والندامى ومجالس الشراب، أو قل دعا إلى استبدال ذلك كله بما كان رائجاً في واقع الحياة العباسية المتحضرة وهي حياة جديدة ، فيها استقرار ورخاء ونعيم ولهو ومجون وعلم وثقافة ومدنية، يدل على ذلك كثير من شعره من مثل قوله: عاج الشقي على رسم يسائله وعجت أسأل عن خمارة البلد يبكي على طلل الماضين من أسد لا در درك قل لي من بنو أسد؟! ومن تميم؟! ومن قيس ولفهما؟! ليس الأعاريب عند الله من أحد لا جف دمع الذي يبكي على حجر ولا صفا قلب من يصبو إلى وتد كم بين ناعت خمر في دساترها وبين باك على نؤي ومنتضد دع ذا عدمتك واشربها معتقة صفراء تفرق بين الروح والجسد أو قوله: لا تبك ليلى ولا تطرب إلى هند واشرب على الورد من حمراء كالورد كأساً إذا انحدرت في حلق شاربها وجدت حمرتها في العين والخد تسقيك من يدها خمراً ومن فمها خمراً فما لك من سكرين من بد لي نشوتان وللندمان واحدة شيء خصصت به من بينهم وحدي وقال ساخراً من امرئ القيس ومعلقته المشهورة التي مطلعها: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدخول فحومل يقول أبو نواس ساخرا من هذه المقدمة: قل لمن يبكي على رسم درس واقفاً ما ضر لو كان جلس تندب الربع ومن حل به مثل سلمى ولبينى وخنس فاترك الربع وسلمى جانباً واصطبح كرخية مثل القبس ويبدو أن هذا هو السبب الأول الذي جعله ينادي الشعراء لاستبدال مقدماتهم بما يناسب الحياة الجديدة المتحضرة. وفي تأكيده لنزعته الواقعية ودعوته للشعراء لأن ينطلقوا من عصرهم وحياتهم الحاضرة في لغة لا تخلو من إنكار وتوبيخ: صفة الطلول بلاغة القدم فاجعل صفاتك لابنة الكرم تصف الطلول على السماع بها أفذو العيان كانت في الفهم وإذا وصفت الشيء متبعا لم تخل من زلل ومن وهم وثاني الأسباب أن الشاعر من الموالي ومن مصلحتهم أن تُهدم القيم القديمة، التي منها التفاخر وأن تنشأ قيم جديدة لا علاقة لها بالحياة القديمة؛ فالشاعر من الموالي ومن مصلحته أن تتهدم القيم القديمة وأن تنشأ قيم جديدة تبرز الإنسان وتعليه مثل قيمة العلم والذكاء والشاعرية والنبوغ والثقافة والظرافة وقيمة المال وما من شك في أن هذه القيم الجديدة ظاهرة فيهم (غير العرب) أكثر من غيرهم، بل ربما تفردوا بها دوناً عن الآخرين وتلك مادة سخية يتكئون عليها كلما همّ أحدهم في فن القصيد وللقارئ أن يقول إن وضاعة الأصل ورداءته لم تحل بين شاعر كجرير والإجادة في الشعر، بل وبزه لنحو ثمانين شاعراً، لكنا نقول إن الشعراء تختلف أقدارهم ومواهبهم في هذا الميدان الفسيح فما يستطيعه شاعر كجرير وأضرابه قد لا يستطيعه آخرون. والعكس هنا صحيح أيضاً. الموقف الثاني: في هذا الموقف يتمسك الشاعر بالوقوف على الأطلال ويتغزل على عادة الشعراء القدماء فيقدم لقسم من قصائده المدحية بمقدمات تقليدية من مثل قوله: يا دار ما فعلت بك الأيام ضامتك والأيام ليس تضام عرم الزمان على الذين عهدتهم بك قاطنين وللزمان عرام أيام لا أخشى لأهلك منزلاً إلا مراقبة عليّ حرام ولقد نهزت مع الغواة بدلوهم وأسأمت سرح اللهو حيث أساموا وبلغت ما بلغ امرؤ بشبابه فإذا عصارة كل ذاك أثام ثم ينتقل إلى مدح الخليفة ومن هذا القسم قوله: يا حبذا سفوان من متربع ولطالما جمع الهوى سفوان إنا نسبنا والمناسب ظنة حتى رميت بنا وأنت حصان ويقول في موضع آخر: ألا حيّ أطلال الرسوم الطواسما عفت غير سفع كالحمام جواثما فهل كان الشاعر متناقضاً بين ما يؤمن به ويدعو الناس إليه وبين ما يقوله في بعض مقدماته؟! الحقيقة أن الشاعر لم يكن متناقضاً في ذلك، وهذا الذي يظهر للقارئ الفاحص ويمكن أن ندفع هذا التناقض الظاهر بما يلي: إن الشاعر أدرك أن بعض الاتهامات له قد تحطمن قدره ومنزلته في فن القصيد؛ إذ ظن بعض المجايلين له أنه لا يستطيع مجاراة القدماء ولا القول على سننهم ومذهبهم ولإزاحة هذه التهمة عنه أراد أن يثبت للجميع أنه قادر على القول وفق السنن العربي القديم وأنه قادر على التجديد. ثانياً: أن الشاعر قدم ما يشبه الاعتذار بأن الخليفة منعه من الابتداء بالخمر والمجون ودعاه إلى القول على عادة القدماء ويظهر ذلك جلياً في قوله: أعر شعرك الأطلال والمنزل القفرا فقد طال ما أزرى به نعتك الخمرا دعاني إلى ترك الطلول مسلط يضيق ذراعي أن أرد له أمرا فصبراً أمير المؤمنين وطاعة وإن كنت قد جشمتني مركبا وعرا واضح إذاً أن من ضمن الأسباب التي دعته إلى ترك القديم هو أمير المؤمنين إذ كان دعاه إلى ترك المجاهرة بالخمرة والمجون وتقليد القدماء وفي ذلك تقييد لحريته. الموقف الثالث: يبدو الشاعر في هذا الموقف وقد تنازعه القديم والجديد أو قل مذهبه الفني ورغبة الجمهور ومنهم اللغويون الذين لا يروق لهم إلا الشكل القديم، حتى لكأنه موكل برضا ذوقه ورضا اللغويين والنحاة في الوقت ذاته؛ فنراه يبدأ مقلداً بالبيتين أوالثلاثة ثم لا يلبث أن يجذبه مذهبه في الفن جذباً فيصف الخمرة واللهو ويكفي أن نمثل لهذا الموقف بهذه الأبيات: لقد طال في رسم الديار بكائي وقد طال تردادي بها وعنائي كأني مريغ في الديار طريدة أراها أمامي مرة وورائي ولما بدا لي اليأس عديت ناقتي عن الدار واستولى عليّ بكائي إلى بيت حان لا تهر كلابه علي ولا ينكرن طول ثوائي وكأس كمصباح السماء شربتها على قبلة أو موعد للقائي أتت دونها الأيام حتى كأنها تساقط نور من فتوق سماء وبعد.. هل لاقت دعوة أبي نواس للتجديد صدى؟! ولماذا؟! إن دعوة أبي نواس للتجديد، ولا سيما في المقدمة على نحو ما رأينا في الموقف الأول لم يكن لها صدى ذو بال وحتى هو كان يتخلى أحياناً عما يصدر عنه ويؤمن به أحياناً كما رأينا في موقفيه الثاني والثالث والسبب في ذلك أن الشاعر صدم بواقع ما زال مشدوداً للماضي بحبل متين وعلينا ألا ننسى أن اللغويين والنحاة وقفوا لدعوات التجديد موقفاً مناوئاً وراحوا يتعصبون للقديم وفي أحايين كثيرة كان المعيار عندهم الزمن وحسبنا في هذا قول أبي عمرو بن العلاء:"لو أدرك الأخطل يوما واحدا في الجاهلية ما قدمت عليه أحدا" وقال في موضع آخر: “ لقد كثر هذا المحدث وحسن حتى لقد هممت بروايته” وفي هذا السياق يقول ابن الأعرابي: "إنما أشعار هؤلاء المحدثين مثل أبي نواس وغيره مثل الريحان يشم يوماً فيرمى به وأشعار القدماء مثل المسك والعنبر كلما حركته ازداد طيباً. وتكثر عبارات واتهامات بعض اللغويين للشعر المحدث مما لا تتسع له مثل هذه المقالة وما من دليل قام عندهم ولا معيار دقيق اتبعوه إلا التعصب للقديم لا لشيء إلا لأنه قديم وهذا هو السبب الأول في إخفاق أبي نواس في دعوته للتجديد. وثاني الأسباب أن الممدوحين كانوا مولعين ومعجبين بالقديم، تعجبهم روحه وألفاظه ومعانيه فهم قريبو عهد بالقديم ولا يروق لهم سواه وما من شك بأن الشاعر يعنيه المتلقي عناية تجعله أحياناً يتخلى عن مذهبه وقناعته وإذن فالشاعر ربما كان في عصر لا يحتمل كل هذا التغيير أو قل إن الشاعر سبق زمنه. ومهما يكن من أمر إخفاق الشاعر أو تجديده وإن بالشكل فيكفيه أنه أوضح دواعي التجديد ومسوغاته وسلك طريقاً جديداً بشجاعة تحسب له وإن تخلى أحياناً عن ذلك ويمكن أن نضعه في حركة الشعر العربي القديم ( العباسي) موضع السياب أو باكثير في حركة الشعر الحر العربي الحديث، أو موضع خليل مطران في الشعر الرومانسي العربي الحديث عند من يرى أنه كان جسرا عبر من خلاله الشعراء من الكلاسيكية إلى الرومانتيكية!.