تدار بطريقة مزاجية.. والكفاءات اليمنية الجيدة فيها يتعمد هضم حقوقها نظير ما يمنح للأجنبي.. ثم إنه لا توجد أي تشريعات تحدد وتنظم أسعار الخدمات الصحية أنت يمني الجنسية وتحمل الهوية اليمنية.. نزف إليك بشرى سارة، فأنت ستحصل بموجب هويتك على حقك الكامل من الرعاية الصحية المجانية والجيدة، فهذا حقك الذي كفله لك الدستور والقانون.. عندما تستيقظ تجد أنك كنت في حلم جميل وأن ما سبق ذكره كان مجرد وهم.. غير أن الواقع قد أفرز لك ما يبدو ظاهريا أنه بديل لما تبحث عنه من جودة الصحة ومجانيتها، إنه الاستثمار في قطاع الصحة تحت مسميات عدة. فما حقيقة هؤلاء!؟ وهل يعدون البديل الحقيقي للحق المفقود من الرعاية الصحية في القطاع العام!؟ إن هذا القانون.. لا تحتاج إلى دراسة مستفيضة للتعرف عليها، فالجميع يستطيع أن يعرفها بمجرد سماع التسمية، غير أن قانون المنشآت الطبية والصحية الخاصة رقم(60) لسنة 1999م عرفها رسميا بأنها (كل مكان معد للكشف على المرضى أو علاجهم أو تمريضهم أو لإجراء الفحوصات أو صرف أو تحضير المستحضرات الصيدلانية وكذا المساهمة في تقديم خدمات الرعاية الصحية الأولية). - فهل الأمر متعلق بالمرضى والمرض فقط؟ إذاً فما معنى الرعاية الصحية الأولية التي لا يستغني عنها أي فرد من المجتمع كحق من حقوقه المؤكدة قانونياً؟ وإذا كان شأن هذه المنشآت متعلقا بصحة الناس وحياتهم بشكل مباشر فإن الأمر يستوجب التعمق ومعرفة ما أمكن عن تفاصيلها الواقعية وعرضها على القانون لرؤية ما سيقبله منها وما سينكره. - إن هذا القانون يهدف أساسا إلى تنظيم خدمات هذه المنشآت وفق ضوابط ومعايير علمية وفنية حديثة وبما يكفل الارتقاء بطبيعة ونوعية تلك الخدمات الإنسانية، و تشجيع الاستثمار فيها، وتنظيم وتعزيز الرقابة والكشف الدوري على طبيعة عملها وكذا نشر خدماتها في المدن والأرياف بما يكفل الحصول على تلك الخدمات بسهولة، والحد من الممارسات والسلوكيات التي تتنافى وأدبيات وأخلاقيات المهنة، وأخيرا الإسهام في عملية التوعية والوعي الصحي وتقديم خدمات الرعاية الصحية الأولية. اشتراطات.. إلى هنا تبدو الأمور في غاية الروعة ومدعاة للتفاؤل، فالعملية منظمة قانونياً، والاستثمار في مجال الطب الصحة مرحب به كثيرا من الجهات الرسمية وقد التزمت الحكومات المتعاقبة في كذا محفل بتقديم المزيد من التسهيلات لهذا القطاع الذي يمثل الاستثمار فيه الوجه المكمل للقطاع العام، مشددين على أن يقتضي بالضرورة هذا الاستثمار الكيفية والنوعية قبل الكمية؛ لأن المسألة تتعلق بحياة الناس. - وعليه فقد نشأت لجان مختصة في عموم مكاتب الشؤون الصحية تتولى دراسة الطلبات المقدمة بشأن التراخيص والبت فيها و النظر في تقارير التفتيش الدوري ورفع مقترحاتها إلى الإدارة المختصة وكذا تشكيل لجان التحقيق للنظر في الشكاوى والتظلمات، ورفع طلبات تراخيص المستشفيات والمستوصفات والمراكز الطبية ومراكز الأشعة والمختبرات إلى الإدارة المختصة بالوزارة مشفوعة برأي اللجنة. - وقد حددت الاشتراطات الواجب توافرها في المنشأة الطبية طالبة الترخيص حيث تحدد اللائحة الشروط والمعايير والتجهيزات المطلوبة لكل منشأة طبية وصحية خاصة على حدة وذلك من حيث: مواصفات ونوعية المواد والتجهيزات والمستلزمات وفقاً للتخصص، وكذا الخدمات وغرف المرضى و عدد ونوعية الأطباء وذوي المهن الصحية والفنية، و أجهزة التشخيص أو العلاج، وغيرها. الهدف الأسمى ما أجمل التجوال بين سطور قانون المنشآت الطبية والصحية الخاصة، وهو يجسد لنا “كقانون” الأداة السحرية التي تنظم وترتب وتنمق أهم المجالات الحياتية، خصوصا وأن إحصاءات الإدارة العامة للمنشآت الطبية الخاصة بوزارة الصحة قد كشفت عن أكثر من ستة آلاف منشأة خاصة في اليمن حتى الآن. - هنا يبرز تساؤل في غاية الأهمية، ففي مجتمع يبرز فيه العديد من المتناقضات وربما تغلب فيه النشاز على المألوف، إلى أي مدى يمكن أن تتحقق تلك المعايير والاشتراطات السابقة على هذا العدد الكبير من المنشآت الطبية الخاصة؟ حيث ستكشف الإجابة إذا ما كان الاستثمار في القطاع الصحي الخاص قد حافظ على روح مهنة الطب “وإنسانيتها”؟ أم أن الأرباح قد حجبت الرؤية عن البصائر وصار المال هو الهدف الأسمى؟ بعيداً عن الروتين المعهود في كتابة المواضيع الصحفية والمتمثل في استطلاع آراء المختصين والمسؤولين إزاء قضية ما، والتي تكون نتائجه معروفة سلفا في تبريرات وحجج تلمم الشروخ وتقوم العثرات وتسوي المعوج خصوصا إذا تعلق الأمر بقصور رسمي.. فقد عهدنا إلى استطلاع آراء نماذج ممثلة لفئات المجتمع، فهم بالأساس المعنيون بخدمات تلك المنشآت.. أسعار سياحية قد تستغرب إجابة الكثير من العامة من ذوي الطبقات غير المثقفة حين يؤكدون أنهم لا يعرفون عن المنشآت الطبية والصحية الخاصة شيئا غير أسعارها الخيالية، “ما يتعالج في المستشفيات الخاصة إلا أصحاب الفلوس، أما نحن فيكفي إبرة في أطرف عيادة والشفاء بيد الله” قال أحد الباعة في سوق الخضار بمذبح، وأبدى زملاؤه موافقتهم له من خلال ابتساماتهم البسيطة. وقد تمثل خدمات المنشآت الصحية الخاصة بأنواعها “ميزانية كبيرة” بالنسبة لمحمد عياش وهو سائق باص، ويرى كذا أن “أصحابها لا يهمهم إلى الكسب والربح التجاري فقط”. - أو يقتصر الأمر على المستشفيات والمراكز الخاصة التي تفتقد “الجانب الإنساني إلا من رحم الله” بحسب محمد الوصابي وهو أحد التجار، ثم يؤكد “ زحمة المستشفيات العامة تجعل المواطن يهرب إلى الخاصة، وهي مملوكة لأطباء أو مدراء مستشفيات حكومية، وقد يحصل على الخدمة العلاجية المناسبة، ولكن بمبالغ كبيرة لا يتحملها المواطن البسيط” ولقد كتب الزميل الصحفي عبده درويش، أنه لا يمكن أن ننكر الخدمات التي تقدمها المنشآت الطبية والصحية الخاصة وإن لم تكن راقية خصوصا في الأرياف، إلا أنها مدفوعة الأجر بصورة أساسية ولا يلجأ الناس إلى خدمات هذه المنشآت الخاصة إلى على مضض بعد أن يتعذر بلوغ حاجتهم في غيرها، أما الميسورون فإن ثراءهم يقتضي شراء أجل الخدمات الطبية في البلد بمالهم وإن لم تكن الضرورة الصحية تتطلب ذلك، فالأمر بجله سلعة مقابل مال. قصور من نوع آخر فهل يقتصر الأمر على سعر الخدمات الكبير وقدرة طالبيها لدى المنشآت الخاصة، أم أن أمورا أخرى تحتاج إلى إعادة النظر؟ - قد تتجول في كذا مستشفى خاص أو مركز أهلي نموذجي، أو صيدلية نموذجية، أو عيادة طبيب مشهور، ربما تدهشك الأقسام ومحتوياتها وإضاءتها أو الأجهزة الجراحية والكشفية المختلفة، لكنك تتساءل: هل أسهم ذلك في تلبية الاحتياجات الصحية المتزايدة للمواطن وحدت من سفر الكثير للخارج أو أعادت الثقة للمريض اليمني مجدداً؟ - يؤكد مختصون أن المستشفيات الخاصة تقوم بتغطية نسبة كبيرة من الحالات المرضية داخل اليمن، إلا أنها تعالج كبار المسؤولين والقادة والتجار وغيرهم؛ لأن تقنياتها عالية ومتطورة وغالية. خدمة المجتمع!! ويؤكد بعض الأطباء أن المستشفيات الخاصة لها دور كبير في خدمة المجتمع والتخفيف عن المرضى وأن هناك أعدادا كبيرة تردها، إلا أن الصعوبة تكمن في عدم تأهيل الكوادر وإيجاد الكفاءات العالية، وهناك تخوف من تحول المستشفيات الخاصة إلى قطاع تجاري بحت بعيد عن الجانب الإنساني. - وقد كتب علي الواسعي عن المستشفيات الخاصة في اليمن “ أن الكفاءات المستقطبة من الخارج للعمل في كبرى المستشفيات الخاصة لدينا ليست من أعلى الكفاءات،” وقد نوه إلى أن المعمول به في الخارج أن الأطباء في المستشفيات لا يحق لهم فتح عيادات خاصة، فهم يتقاضون من الأجور ما يغنيهم عن ذلك. - ثم أورد بعض السلبيات لمستشفى كبير في صنعاء زاره، وهذا النموذج يطبق على مستشفيات عدة، ففي قسم الطوارئ لا يوجد مختص مناوب، فإذا كان ليلا يجب على المريض الصبر حتى الصباح، وهذا إهمال، وإذا كان نهارا فيجب دفع آلافا لطلب الطبيب من الدور العلوي، وهذا ابتزاز. تستثمر المواطن أما الزميل الصحفي باسم الشعبي، فإن رؤيته للاستثمار في المنشآت الطبية الخاصة في اليمن أشمل، وقد انطبعت الصورة لديه بالقتامة، فلا “يوجد استثمار حقيقي يصب في مصلحة المواطن مطلقا؛ وإنما هناك مؤسسات تستثمر المواطن، وأنه يفترض بالاستثمار تعويض المواطن عما عجزت عنه وظيفة الدولة، وتعويض المواطن يعني تحقيق ميزات جديدة له، ولست مقتنعا بالاستثمار في بلادنا على الاطلاق؛ لأنه لا يتجه صوب تحقيق مصالح العامة، ما يعني أن الأمر مجرد تجارة بحته هدفها الربح بأي شكل إلا من رحم الله”. ثم يؤكد الشعبي:” الاستثمار لدينا عبارة عن جلاد وضحية، والضحية بلا شك هو المواطن طبعا حينما تغيب القوانين والرقابة والدولة معا”، مطالبا بإعادة النظر في قانون الاستثمار في كل المجالات، لاسيما في الجانب الصحي. مزاجية..!! أمر آخر شديد الأهمية وهو ما أكده كثير من الأطباء من أن الواقع ينافي ما يشاع عن بعض المنشآت الطبية من حداثة، ويذكرون أنها معظمها تدار بطريقة مزاجية، وأن الكفاءات اليمنية الجيدة يتعمد هضم حقوقها نظير ما يمنح للأجنبي في مستواهم. كما أن بعض ملاك المنشآت الخاصة لا يعهدون بالمهام والمناصب إلى المختصين فيها وأصحاب القدرات والكفاءات حتى على مستوى بيع الأدوية في المخازن أو الصيدليات، أو سوق الجملة، أو المختبرات وغيرها، ثم إنه لا توجد أن تشريعات تحدد وتنظم أسعار الخدمات الصحية والطبية المقدمة في المنشآت الخاصة، وأن تحديد ذلك يتوقف على مزاجية أصحاب تلك المنشآت ورؤيتهم في تحقيق أرباحهم، وكل تلك المؤشرات تؤكد أن الربح المادي هو الهدف الأول لأصحاب تلك المنشآت. لمحة رسمية إذا ما تم عرض واقعية تلك المنشآت الخاصة على قانونها رقم 60 فستجد فرقا شاسعا، وهوة كبيرة تتسع مع غياب الرقابة والتقييم المستمر لضمان تطبيق هذا القانون على الواقع، فالإدارة المختصة بالمنشآت الصحية الخاصة بالوزارة يعزون الرقابة المباشرة إلى مكاتب الصحة بالمديريات والمحافظات التابعة لها، وأن رقابة الوزارة تأتي على فترات لأسباب مالية، ويؤكد مختصون أنه لا يمكن تفعيل الرقابة الا بالتعاون الجاد من كل الجهات الحكومية والسلطة المحلية والإعلام. - مزيد من التفاؤل ينتابنا مع ميثاق شرف المهنة الذي أعلن مع إشهار إتحاد المستشفيات الخاصة في يوليو الماضي، والذي يتضمن الأدوية والمستلزمات والأجهزة الطبية والترويج غير المشروع للخدمات الطبية والصحية وكذا الحلول لمن يمارس أعمالا مخلة بالمهنة بيعا وشراء وترويجا يعاقب من قبل لجنة معنية بهذا الشأن. - أما لجنة الصحة في البرلمان فرغم أنها معنية بالرقابة على تنفيذ القانون إلا أنها ما زالت تعاني صعوبات ولديها قصور في الممارسة العملية خصوصا مع غياب الرقابة الداخلية في الأجهزة التنفيذية، وضعف رقابة الضمير ورؤية الكثير إلى الطب على أنها تجارة. - في حين يؤكد المجلس الطبي أن آلاف الأطباء والفنيين لم يسجلوا في المجلس الطبي، رغم نص القانون على وجوب تسجيل جميع العاملين في الطب على مختلف شهاداتهم وتصنيفاتهم، إلا أن التعاون مفقود من قبل الجهات التي استقبلت الأطباء سواء من وزارة الصحة أو المستشفيات التي يترأسها مستثمرون ليس لهم غرض إلا الربح سواء أعطوا المريض حقه أو لا! خلاصة إذاً فينبغي على كافة المنشآت الصحية الخاصة تجسيد الرسالة الإنسانية للمهنة في الممارسة العملية والعمل الدؤوب للارتقاء بنوعية الرعاية الطبية والالتزام بمعايير الجودة واعتبار ذلك واجبا مهنيا وأخلاقيا لجميع أعضاء الفريق الصحي، وينبغي على كافة الجهات المعنية بما فيها المجلس الطبي تأسيس وتطوير وتطبيق نظم مراقبة الجودة ومعايير الاعتماد في المنشآت الصحية والخدمات التي تقدمها وكذلك في كليات الطب والعلوم الصحية. - ويجب التعامل الجاد مع كافة القوانين والتشريعات الصحية وتطويرها بصورة مستمرة لتواكب المتغيرات في النظم الصحية الناتجة عن تطور العلوم الطبية وتطبيقاتها في ممارسات الرعاية الطبية.