بين حياة وموت المرء ثمة أمور ومواقف وحضور يصنعها المرء لنفسه ويترك أثراً يظل خالداً ما تقادمت الأجيال.. وثمة بروز لشخصية هذا المرء أو ذاك من خلال دراسة الفكر الذي ينتهجه، والذي يسمو به نحو سماء الأدب والفكر . ومحور وشخصية موضوعنا الشاعرة العظيمة نازك الملائكة التي توفيت في العشرين من يونيو من العام الماضي بعد حياة مديدة وزاخرة بالإبداع الشعري والنقدي الرفيع، وشيع جثمانها في مسجد عين الحياة بمدينة القاهرة، فمن هي نازك الملائكة ..!!؟؟ ولدت الشاعرة العراقية نازك الملائكة في 23/8/1923م وحصلت على ليسانس في الآداب عام 1944م وعاشت فترة من حياتها خارج موطنها الأم العراق حتى استقرت قبل وفاتها مؤخراً في القاهرة أصدرت أول دواوينها «عاشقة الليل» في عام 1947م، ثم تلى ذلك ديوان «شظايا ورماد» في نفس العام، وتوالت بعد ذلك دواويين عديدة منها «مأساة حياة» «أغنية الإنسان» «قرارة الموجة» «شجرة العمر» «للصلاة والثورة» «يغير ألوانه البحر» «الوردة الحمراء» وإضافة إلى تلك الدواويين فإن للشاعرة الراحلة كتباً في النقد منها «قضايا الشعر الحر وسيكولوجية الشعر» و«الصومعة والشرفة الحمراء » و«التجزيئية في المجتمع العربي» ثم أصدرت مجموعة قصصية بعنوان «الشمس التي وراء القمة». وفي ظل مسيرتها الشعرية هذه فقد صنفها الكثيرون أنها رائدة الشعر العربي الحر خصوصاً بعد أن أبدعت أناملها الفكرية قصيدتها المشهورة «الكوليرا» واختلف الكثيرون حول هذا اللقب، فمنهم من صنف الشاعر بدر شاكر السياب بأنه رائد الشعر العربي الحر بقصيدته «هل كان حباً » والتي كتبها ونشرها في العام ذاته. والراجح - هنا - هذه الريادة لنازك الملائكة لأسباب موضوعية، لأن قصيدة «الكوليرا» قد جذبت الإنتباه بقوة، ليس لأنها خلخلت عمود الشعر فقط، واعتمدت الوحدة في القصيدة للتفعيلة وليس للبيت، وهذا مافعله السياب - أيضاً - في قصيدته «هل كان حباً» ولكن يعود لفت النظر الذي أحدثته «الكوليرا» إلى ماتطرقت إليه والصرخة القوية التي أطلقتها الشاعرة باكية على الشعب المصري والذي اجتاح ربوعه وباء الكوليرا، وهنا لنتوقف قليلاً مع الشاعرة نازك الملائكة وندعها تصف قصتها مع قصيدتها المشهورة «الكوليرا»، تقول نازك : بعد صدور ديواني عاشقة الليل بأشهر قليلة انتشر وباء «الكوليرا» في مصر الشقيقة، وبدأنا نسمع الإذاعة تذكر أعداد الموتى يومياً، وحين بلغ العدد ثلاثمائة في اليوم انفعلت انفعالاً شعرياً، وجلست أنظم قصيدة استعملت لها شكل الشطرين المعتاد،مغيرة القافية بعد كل أربعة أبيات، وبعد أن انتهيت من القصيدة، قرأتها فأحسست أنها لم تعبر عمافي نفسي، وأن عواطفي مازالت متأججة.. وفي يوم الجمعة 27/10/ 1947م أفقت من النوم، وتكاسلت في الفراش استمع إلى المذيع وهو يذكر أن عدد الموتى بلغ ألفاً، فاستولى عليّ حزن بالغ، وانفعال شديد، فقفزت من الفراش، وحملت دفتراً وقلماً وغادرت منزلنا الذي يموج بالحركة في يوم الجمعة، و كان إلى جوارنا بيت شاهق يبنى، وقد وصل البناؤون إلى سطح طابقه الثاني، وكان خالياً لأنه يوم عطلة في العمل، فجلست على سياج واطىء، وبدأت أنظم قصيدتي المعروفة الآن «الكوليرا»، وكنت قد سمعت من الإذاعة أن جثث الموتى كانت تحمل في الريف المصري مكدسة في عربات تجرها الخيل، فرحت أكتب وأنا أتحسس أقدام الخيل. سكن الليل أصغ إلى وقع صدى الأنات في عمق الظلمة تحت الصمت على الأموات وكانت هذه القصيدة الجديدة بإيقاعاتها على الأذن العربية، والعبرة هنا - كما كتب الكثيرون ليست بالأسبقية الساذجة والتي أعدها الكثيرون بالريادة، ولكن العبرة بمدى التأثير والعمق ولفت النظر و الإرتباط بالوجدان العام، وكل ذلك يعد دوراً في أن تشغل القصيدة مكانة واسعة ومدهشة في مساحات التلقي والإستقبال لدى القراء والشعراء والناقدين العرب خاصة أن نازك تابعت الكتابة على أكثر من مستوى، فلم تكن القصيدة وحدها هي السلاح القاطع، ولكنها اجتهدت في تأصيل الظاهرة نقدياً عبر المقالات والدراسات النقدية فأصدرت كتابها الرائد «قضايا الشعر الحر» عام 1962م والذي ناقشت فيه القضايا العريضة والخطوط القاطعة لرؤيتها النقدية للشعر الحر، وفيه توقفت وتأملت نقدياً أربعة محاور هامة وهي علاقة الشعر الحر بالتراث العربي، وبدايات حركة الشعر الحر، والبحور التي يصح نظم الشعر فيها، وقضية التشكيلات المستعملة في القصيدة الحرة،و يعتبر هذا الكتاب علامة نقدية في الفكر النقدي العربي الذي يتعرض لظاهرة الشعر الحر، والتي انبثقت عن مناخ كامل ينشد التحرر من ظواهر اجتماعية وفكرية وسياسية كثيرة وكان - بالتالي - وحتماً أن يهتز ويتخلخل عمود الشعر على أيدي مبدعين وشعراء أجلاء، على رأس هؤلاء نازك الملائكة، والتي أخلصت لقضية الشعر إخلاصاً يكاد يكون فريداً فأصدرت تلك الدواوين التي ذكرناها في بداية الموضوع. مختارات من قصائد نازك الملائكة.. «الكوليرا» - الكوليرا سكن الليل اصغ إلى وقع صدى الانات في عمق الظلمة تحت الصمت على الأموات صرخات تعلو، تضطرب حزن يتدفق، يلتهب يتعثر فيه صدى الآهات في كل فؤاد غليان في الكوخ الساكن أحزان في كل مكان روح تصرخ في الظلمات في كل مكان يبكي صوت هذا ماقد مزقه الموت الموت، الموت، الموت ياحزن النيل الصارخ مما فعل الموت طلع الفجر أصغ إلى وقع خطى الماشين في صمت الفجر أصغ، انظر ركب الباكين عشرة أموات.. عشرونا لاتحص أصخ للباكينا اسمع صوت الطفل المسكين موتى.. موتى.. ضاع العدد موتى.. موتى.. لم يبق غد في كل مكان جسد يند به محزون لا لحظة إخلاد.. لاصمت هذا مافعل كف الموت الموت.. الموت.. الموت تشكو البشرية.. تشكو مايرتكب الموت الكوليرا في كهف الرعب مع الاشلاء في صمت الأبد القاسي حيث الموت دواء استيقظ داء الكوليرا حقداً يتدفق موتوراً هبط الوادي المرح الوضاء يصرخ مضطرباً مجنونا لايسمع صوت الباكينا في كل مكان خلف مخلبه أصداء في كوخ الفلاحة في البيت لاشيء سوى صرخات الموت الموت.. الموت.. الموت في شخص الكوليرا القاسي ينتقم الموت الصمت مرير لاشيء سوى رجع التكبير حتى حفار القبر ثوى لم يبق نصير الجامع مات مؤذنه الميت من سيؤبنه لم يبق سوى نوح وزفير الطفل بلا أم وأب يبكي من قلب ملتهب وغداً لاشك سيلقفه الداء الشرير ياشبح الهيضة ماأبقيت لاشيء سوى احزان الموت يامصر شعوري مزقه مافعل الموت