سلسلة مقالات وجدانية للكاتبة والخبيرة في التنمية البشرية المدربة الدولية عائشة الصلاحي عن مؤلفها النوعي الصادر حديثاً (فارس النور)، من إصدارات مجلة نجاح المتخصصة في التنمية البشرية والعلوم الإدارية. من حين لآخر لا بد أن يعتريك لحظات من الفتور تهمد فيها حماسة المقاتل التي تتمتع بها.. لحظات صعبة يعود فيها ضجيج الطواحين القديمة إلى رأسك.. وتنهال آلاف التساؤلات على عقلك المسكين الذي لا يجد لها إجابات ولا حتى شبه ردود.. لحظات قاسية تعيدك إلى جوف صخرتك العتيقة التي فلقتها منذ زمن.. تشعر بأن نفسك تتميز غضباً وحزناً وتعباً. تستغرب كثيراً من أن يكون كل هذا في أعماقك وبكل تلك القوة.. لحظات لا بد منها فنحن بشر، وفي حياة البشر الفانين لا وجود للخط الثابت ولا للحالة الواحدة بل تظل المتغيرات تتناوب عليك من حين لآخر.. لا تسأل متى؟ ولِمَ تأتي هذه اللحظات؟ فقد تكون بلا مقدمات واضحة أمامك.. فلا تضف تساؤلات أكثر فعقلك يضج بالعشرات منها ومن المحال أن تجد لها جميعاً إجابات في وقتك الراهن. وعلى الرغم من هذه اللحظات العسيرة إلا أنك ما زلت ربيعنا الجديد.. ولا زال إيمانك بالممكن عميقاً.. ولا زالت قناعاتك وجذور أهدافك راسخة.. أما عزمك فهو الشهاب اللامع.. ولم تلن قناتك الصلبة، ولا فت الزمان في صلابة تحديك، ولا في كرامة عطائك.. ما زلت غيثاً مباركاً في روحك المعطاءة. إذن هون عليك إنها لحظة بشرية فيها من ضرورة النقص في خلقتنا.. ألا ترى أنك مُتعَب حتى النخاع وتشعر بالإجهاد في كل أرجاء روحك وعقلك وجسدك وذلك بسبب كل ما اعترضك وما عاركته (لا بأس) فالمعركة التي تنتصر فيها لا بد أن تدفع ثمنها.. لا بأس، فمجالدة الناس.. ومكابدة العوائق على درب القمم.. إذن اصبر.. اهدأ.. وتعلم فن الاستراحة. خذ نفساً عميقاً وردد في أعماقك كل ما تحبه من العبارات والشعارات والمبادئ والصور والمشاعر.. فتعال سوية نتعلم فن التزود والاستراحة. تأكد أن ما طُرح على الأعتاب السماوية لن يضيع أبداً.. آمن بأن روحك تحن دوماً إلى الأجواء القدسية.. فأطلقها.. بعد أداء فريضة أو نافلة حاولت أن تخشع فيها ما استطعت.. أطلق أسرها.. أرسلها إلى السماء السابعة دعها تحم حول العرش بكل أشواقها وحبها وأحزانها وآمالها. أطلق لسانك المحبوس بالنجوى الصادقة.. وأفلت العنان لدموعك الدافئة، واجعل نبض قلبك يلتحم في سكينة مع أنفاسك الحارة العميقة.. ترنم بالمناجاة الشفافة الحرة مع من يحبك أكثر من حبك لنفسك.. أخبره بكل ما تشعر.. بكل ما تفكر.. بكل ما تؤمل.. بكل ما تخاف.. أخبره بكل ما تريد بلا حواجز ولا تخف من عثرات اللسان أو التأتأة أو ضياع الكلمات المتأنقة، فهكذا تكون جلسات الحب الصافية بلا تكلف. لا بد أن تشعر براحة عظيمة.. احذر أن تظن أنه لن يسمعك لأنك قد أطلت الغياب عنه.. لا.. فأبواب السماء تشتاق للغائبين، إنها أبواب الإنابة.. الآن ستعود روحك بطاقة جديدة، وسعة مديدة ونفس مختلف وبأمان للقوة التي تدعمها بلا حدود. تأكد أن لا شيء يمنعك ممن خلقك وأحبك.. إنه أشد شوقاً لأنينك من شوقك لإجابته.. أما المحطة الثانية فهي هناك على صدر شخص تحبه ويحبك، شخص يدفئك بحبه اللامشروط وبثقته بك وبقناعاتك.. ليس من الضروري أن تخرج خبء همومك.. المهم أن تشعر بدفء حبه النقي الذي سيخرجك من زاوية بردك ووحدتك السرابية.. لا تهمل تقوية روابط عائلتك مهما كانت مشاغلك أو ظروفك، فلعل لمسة أمك.. أو نظرة حنونة من أبيك أو حتى نغمات طفلك الصغير هو كل ما تحتاجه لتشعر بشلالات الحياة تتجدد داخلك دوماً رؤية وجوه من يحبوننا تدفعنا للبقاء والاستبسال على أعلى مستوى، ليس ضعفاً أبداً ولا عيباً أن تطلب اجتماعاً عائلياً مصغراً مع أحب أفراد عائلتك إليك وتسمع إلى مواساته أو لينصت هو لك.. لا تسد الأبواب المفتوحة باعتبارات واهية.. لا يمكن أن تكون محروماً من هكذا شخصاً.. فتش بتأنٍ وواقعية فهذه من نعم الله التي لا يحرمها أحد. المحطة التالية لا بد أن تكون في أحضان الكون الرائع.. حرك قدميك قليلاً واصعد جبلاً أو ابحث عن عين ماء تنزل تحت مائها غاسلاً غمك.. لا تقل: لا يوجد.. بلى ستجد فتش جيداً، اجتهد في البحث بدلاً من الانهماك في الكآبة وترديد عبارات التعب والطفش. إن رؤيتك للسماء الزرقاء من أي مكان بكل اتساعها وروعة زرقتها لا بد أن تذهب عنك همك الصغير الذي يزداد تضاؤلاً في سعتها اللامحدودة. لا تسمح لأي شعور أن يحرمك من الاستمتاع بالتفاصيل الخلابة للكون، أرهف حواسك.. افتح موسوعة عن الحيوان.. أو تابع برنامجاً عن البراري.. ارحل إلى أعماق البحار أو أعالي الجبال أو حتى إلى جوف الكهوف.. كم ستشعر بالمتعة حين تراقب عصفوراً وهو يغسل ريشه الجميل بأناقة وإتقان وعناية.. أفلا تكون مثله ذا اجتهاد!. أما عقلك المنهك فهو محطتنا التالية علينا أن نبعد عنه ضجيج الطواحين المغلقة عديمة الفائدة.. وذلك بإشباع جوعه للعلم الجديد.. أسرع وافتح ذلك الكتاب الذي تحبه واشتقت لمطالعته منذ زمن وابدأ فوراً في القراءة المتلذذة.. ارحل مع شخصية عظيمة تتلمس مراحل سموها.. استمع لشريط هادف.. تجول بين حدائق العقول من خلال الموسوعات والبحوث على المكتبات أو الانترنت. هنا سيلتفت عقلك بكل طاقاته الجبارة إلى وجبة العلم القادمة وسينشغل بها، ومن ثم سيرتخي لأنه ارتاح من التركيز على نقطة متوترة. إذا كنا في محطتنا الأولى قد أرجنا أرواحنا، ففي الثانية جعلنا العاطفة تسقي قلوبنا العطشى، أما في الثالثة فإننا أرحنا حواسنا، وفي الرابعة عقولنا.. ماذا بقي؟ بقي أن نريح الطفل القابع في أعماقنا.. تلك الروح العفوية المتمردة التي تهفو للخروج عن التكلفات.. إذن مارس هواياتك.. لا يمكن أن تكون بلا هواية.. العب في حدود المسموح، لعلك تتذكر أنك من زمن بعيد لم تتبادل اللعب بالماء مع غيرك، إذن افعل في حدود اللياقة اضرب الكرة بكل قوتك أو حتى عد إلى ريشتك ومعمل نحتك للخشب.. قلب أوراق شعرك القديم أو تبادل الطرائف مع صحبة راشدة. استرح.. اسمح لنفسك بلحظة ترفيه تضحك فيها ملء شدقيك.. والآن بعد الراحة عد بقوة بكل ما فيك من ومضات الانطلاقة الأولى.. عد للساحة وسترى أنك أصبحت كالماسة التي كان قد علاها التراب ثم عادت أشد بريقاً على يد صاقل ماهر. أخيراً لا تتضجر من فترات تعبك فإنما هي قوية لأنك تبذل الكثير من الجهد وبالتالي الكثير من الاستهلاكات والخبرات والإنجازات.. المهم أن تتنبه لها ولا تكبتها واجعلها من فعاليات حياتك الضرورية ولا تنسَ أن تجعلها كلها لله وتصب في مصبات التقوى والتوازن والثبات على الهدف الاستراتيجي.