تتجلى الواحدية المطلقة للذات الأحدية كأبهى صور الكمال، تعددت الأزمات، واختلفت الأوطان، وهي صورة تستحق الإجلال والإعظام، وترويض النفوس، وصرفها للتحليق والبحث في أجوائها الخفية واللطيفة. ولما كانت الأرواح تائقة للتعلق بها مع تعزز ورفعة شرع لها فحوى الهداية المطلقة، والتعلق الأبدي الخلود، فاحتاجت إلى حامل النفحة النورانية وتبيان الصفحة الربانية، فأرسل الله من كيان واحدٍ رسلاً وأنبياء، ونسخ لهم من صفحة وجود واحدة كتباً وصحفاً، لتكتمل سلسلة الوحدة الواحدية كلمة كأنها شجرة فردية أصلها ثابت وفرعها في السماء مثل ضربه الله للوحدة الجامعة وإن تفرعت غصوناً كثيرة هذه الكلمة هي شجرة اللسان الموحد وإن تعددت الرسالات فهي أصل واحد عالمي الكلمة والوحي. الناظر إلى الدوحة التي تشعبت أفنانها رسلاً وأنبياء تربطها قرابة صلة نسباً وصهراً مما يقارب بين لسانهم “ذرية بعضها من بعض” وتطلق الذرية على النسب والمصاهرة لئلا يختلط المفهوم. إن الفهم الحصري على جغرافية الموطن ضيق الدلالة الرسالية والاقتصار على معنى الإسلام على نبي دون آخر حد من عالميته. بيان الإسلام كيان واحد، أنزل على أنبياء الله جملة وتفصيلاً لا فرق بين نبي وآخر فكلهم يستقي من بحر واحد مهما تعاقبت الدهور وقد جاء القرآن مؤكداً لهذه الواحدية وناقداً بل ناقماً على الذين حصروه على فئة دون أخرى ونبي دون نبي وحرفوا الكلم وأخفوا كثيراً من أمور الدين جاء هذا النبي بما يوافقها وهم يعلمون أنه الحق من ربهم هذا من جهة أولى. جهة العالمية الثانية أن كل رسول تصلح رسالته لكل عصر ومكان بل لا يكتمل إيمان الفرد إلا إذا أقر بها كلها مجتمعة بمعنى كل نبي حكاه القرآن فرسالته عالمية ولا تقبل الإزالة، أو كما أطلق عليه وهماً: النسخ قال تعالى«يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالاً بعيداً». وقال تعالى«إنا أو حينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا، ورسلاً قد قصصنا هم عليك من قبل ورسلاً لم نقصصهم عليك، وكلم الله موسى تكليماً». ويسرد الله في موضع آخر الرسل طالباً منا الإيمان بما أنزل إليهم جميعاً لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون. إن مجموع ما أنزل على هؤلاء جميعاً هو الإسلام «ومن يتبع غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين». وقد ضل اليهود والنصارى عن ملة إبراهيم لأنهم نسبوه إليهم بمعنى حصروه ولم يبينوا حقيقة عالميته. وجاء سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام بالملة الإبراهيمية والصراط المستقيم والدين القيم، فهو عالمي بالنسبة لنا وكذا موسى ويوسف، وعيسى، وغيرهم، هم عالميون للمطالبة بالإيمان بهم بل والإقرار بما أنزل عليهم من ربهم والغرض من كل ذلك التوحيد الأحدي «ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه».