الدكتورعبدالمعطي الدالاتي، أديب معاصر وشاعر إسلامي.. شاعر نظم قصائد شدت بها الألسن، وصفت إليها الأنفس، فأيقظت القلوب بالإيمان، وأشعلت الأرواح بحب الله، وغدت نشيداً للشباب المعتصم بالله، الحامل لواء الحق والسائر على درب الهدى والإيمان.. والدكتور الدالاتي يحمل فكراً قد مكن للثقافة العربية الأصيلة في نفسه، من أجل ذلك وجدنا شعره نقي العبارة، جميل الصورة، فصيح الأسلوب، عذب البيان، قوي النسج ينبض بحرارة الإيمان وأصالة الفكر. شعره شعرٌ فيه صدق العاطفة وحرارة الشعور، فكرة وتجربة وأسلوباً، شعر يعبر عن مكنونات النفس وخباياها من خلال التصورات والمفاهيم الإسلامية، شعر يتحدث عن الحب ومداراته التي يجب أن تكون دوارة حوله كل على حسب مرتبته، ويدعو إلى عودة الروح المحلقة في جنبات كنف الله، وإصلاح فساد القلوب، إنه شعر دعوة في كل قصيدة من قصائده بل وفي كل بيت من أبياته وإنه زاد من زاد الدعاة يجب ألا ينفك عنهم وهم سائرون إلى الله عز وجل، وشعره أداة تحمل من الطاقات كل عجيب. وتحدد الأبيات التالية للشاعر الأغراض التي طرقها في شعره، ومنها نستطيع أن نتعرف على اتجاهات الشاعر وتطلعاته يقول: لو عندي عمر يكفيني لنشرت تعاليم الدين ما بين القاصي والداني من أقصى المغرب للصين لو أملك أسلوباً عذباً لفتحت به قلباً قلباً وصببت الوعي بها صباً وسكبت خطاب شراييني أحلام الدعوة تغريني ترفعني عن دنيا الطين تخبرني أن الإنسان يمضي قدماً نحو الدين«1». وللشاعر في ديوانه «أمنية العمر» نظرة فاحصة؛ تعطينا حلة بهية للشعر الإسلامي الملتزم بالأهداف النبيلة والغايات السامية وتشدنا إلى القيم المستقاة من المنابع الصافية التي أمدتها السماء فأخصبت خيالها وغذت روحها وأمدت شعورها. ليست تلك القيم الشوهاء التي زينت بمساحيق الخداع التي لم تعد قادرة على إخفاء بشاعة تجاعيد المجون والانحلال والتفسخ التي حفرت أخاديدها في كيان الأمة والمروجة لهذا الفساد من قنوات، وما يبث فيها من مسخ للقيم وإفراغها من محتواها وسلخ للمسلم من أخلاقه في أبشع صورة، وما ثقافة أغاني الفيديو كليب إلا مثال لذلك وغيرها، وأصبح معلماً بارزاً يشير إليه ببنائه حتى أولئك الذين كان لكل واحد منهم سهم فيه. وشاعرنا من خلال ديوانه هذا المتميز بسلاسته وتدفقه، وتصويره الصادق وشعوره الحار والذي أظهره كحبات عقد قد نظمت وسبكت على نحو بديع، فديوانه «أمنية العمر» مواسم عطر، ومصباح فكر، وإشراقة فن، وشعر يموج بأعذب لحنٍ ونور سرى بأم القرى وحب لأحمد خير الورى وفيه ابتهال ونجوى سحر وصوت يذوب بنور القمر، وترنو العيون بدمع السكون لباب السماء، أدعوك ربي لتمنح قلبي سكينة قربي لأعمر دربي بمزمار حبي، فهب لي هداك وزد من عطاك، ويبقى رضاك أمنية العمر. اسمعه وهو يصدح بهذه الأمنية من خلال هذه الأبيات التي يقول فيها: لو تنظر دوماً وتفكر في خلق الله لو تسمع ترتيل القلب فادى الله لو تسمع إنشاد البدر أبدعني الله لو تفقه لغة الأكوان أبدعني الله لو تعلم يامسلم كم ذا أكرمك الله لسجدت بدمع منهمر بجلال الله لو تدري أمنية العمر أن يرضى الله لو طرت بخوف ورجاء بجنان الله فسيرضى الله ويابشرى أن يرضى الله«2» وشاعرنا يتخذ من الأبعاد الوجدانية والشعورية في حياة المسلم ميدانياً لشعره، ولعل رحلة الحب عند هذا المسلم هي ذروة هذه الأبعاد، وهي المجال الفسيح الذي ولجه شاعرنا ليكون له بذلك القدح المعلى والخيط المدلى ليحقق ما يعتبره رسالة الشاعر في تأكيد الذات الإنسانية التي لا يمكن أن تعيش في هذه الحياة بدون الحب. بل لابد لها من معايشة واقعية تذوب النفس في مداه، لايدركه إلا من مارس الحياة بأبعاد الروح الإيمانية الشفافة، بهذه الروح ومن بعض هذه المعاني كتب شاعرنا أبياتاً يقول فيها: أراود نفسي وليست تجيب للقيا حبيب وأين الحبيب أقول لها إن صدري انتهى وصدري رحيب وقلبي نحيب فقالت أراك لزيد الهلاك فدرب المحبة درب عجيب سُكون وشوق وعنف ورق به لو علمت الوليد يشيب عجبت لها تشتكي أنها غريبة درب وأني غريب وفيه جمال وفيه جلال وميدانه للقلوب رحيب ويا نفس طيبي بلقيا حبيبي وهل في الحياة كلقيا الحبيب فقلت وقالت وصرت وصارت بظل صراع صراع رهيب فأمسكت فأسي وحطمت نفسي وقلت وصلت ديار الحبيب «3» وشاعرنا فيما ذكر يلفتنا إلى تولعه الشديد في مدح هذا الحبيب الذي يجد في حبه ما يحقق له أمنيته أمنية عمره، لذلك نجده في كثير من قصائده يستطرد في مدحه متفانياً في حبه جاعلاً حبه نواة في قلبه وما سواه، فمدارات تدور حوله كل حسب قربه من قلبه إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يجب أن يكون له الحب الخالد إن كان هناك حب خالد. ولعله بحبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ينعكس ذلك الحب الحقيقي لمن جبل الله عز وجل القلوب لحبهم سواءً كان أماً أو أباً أم زوجة أم أولاداً أم إخوة وغيرهم كل حسب قربه من قلب حبيبه. فهو يرى الحب فيضاً من المشاعر تحتشد فيه المعاني والآمال والأفكار والأماني، له في ذلك قصدة نظمها يقول في مطلعها: يموج القلب في كون رحيب ويشدو القلب في لحن غريب فبعض اللحن صمتي ودموعي وبعض اللحن قولي ياحبيبي «4» ثم يعرج على مدح المصطفى صلى الله عليه وسلم كما هو ديدنه فيبثه شجونه الفياضة ومشاعره الجياشة وحبه الصادق وما يعمله حبه في قلبه خاصة إذا كان يسير في مركب تعلوه المهابة يسير في كنف الله تحفظه عينه وتحرسه، ينتهي به المطاف عند هذا الحبيب فيقول: يسير الركب في درب طويل نهايته بمحراب الرسول ومن يدري بحالي في وصولي أأسكت أم أناديه حبيبي رسول الله حيرني المقام وماأدري أيسعفني الكلام «5» فبعض البوح نجوى وسلام وبعض البوح صمتي ياحبيبي ويتجه شاعرنا اتجاهاً إسلامياً تراثياً يقف من خلاله موقفاً كله هيبة وإجلال، يتغنى من خلاله بفضائل الرسول صلى الله عليه وسلم، ويؤكد هذا ماكتبه من شعر في حب المصطفى صلى الله عليه وسلم. وهنا يجب أن ننوه على شيء ينبغي التركيز عليه فلم يظلم عرض من أعراض الشعر كما ظلم المديح النبوي. فدراسة هذا الفن الإسلامي الرفيع أهملت إهمالاً شديداً، قد يقول قائل: إن الشعراء على مر العصور لم ينفكوا عن مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد طارت شهرة هذه المدائح حتى جدت على كل لسان، وهذا صحيح، ولكن دراسة هذه المدائح دراسة تستحق التنويه مازال الطريق أمامها فسيحاً، ولعل هذه الهبة العالمية التي قامت نصرة وفداء ووفاء لرسول الله يوم أسيئ له في رسومات جعلته في أوضاع مزرية يندى لها جبين كل متبع لهذا الحبيب قد تكون مؤذناً لدراسة هذه المدائح من بطون كتب أدبنا العربي الأصيل من قبل الباحثين، وهذه نماذج للشعر الرفيع الذي أهمله الدارسون ولم يلتفتوا إليه. يقول حسان مادحاً سيد البشر بما هو أهله: وأجمل منك لم تر قط عيني وأحسن منك لم تلد النساء خلقت مبرأًً من كل عيب كأنك قد خلقت كما تشاء «6» ويقول كعب بن زهير بن أبي سلمى منوهاً ببعض صفاته عليه السلام: تجري به الناقة الأدماء معتجراً بالبرد كالبدر ليلة الظلم ففي عطافيه أو أثناء بردته مايعلم الله من دين ومن كرم «7» ويقول أنس ابن زنيم الدؤلي ذاكراً مجموعة من فضائله صلى الله عليه وسلم: وما حملت من ناقة فوق رحلها أبر وأوفى ذمة من محمد أحث على خير وأسبغ قائلاً إذا راح كالسيف الصقيل المهند واكسى لبرد الخال قبل ابتذاله وأعطى الرأس السائب المتجرد «8» هذه المدائح وهذه النماذج غيض من فيض المدائح النبوية التي قالها الصحابة الكرام في رسولنا الأمين، واستمرت شخصية الرسول على مر الأيام مصدر وحي وإلهام. وعلى هذا الطريق سار شاعرنا يقول: حار فكري لست أدري ماأقول أي طهر ضمه قلب الرسول أي نور قد تجلى في العقول أنت مشكاة الهداية أنت نبراس الوصول أي مدح كان كفواً للشمائل يا رسولاً بشرت فيه الرسائل أي كون نبوي فيك ماثل أنت نور أنت طهر أنت حق هد باطل قد تبعنا سنة الهادي المطاع ونجونا من عقار وضياع وشدونا في سويعات السماء طلع البدر علينا من ثنيات الوداع «9» شاعرنا عبقري البيان، صادق العاطفة ذو خيال خصب وموهبة عميقة وأداء جميل وتوفيق كامل ومؤثر في رسم الصورة والمشاعر، يبدو في شعره سلاسة العرض وفصاحة الأسلوب، وطول النفس، وتتجلى فيه روح صاحبه. بتوشح أدواته وصياغاته متمنطقاً وجدانه ماثلاً أمامه، ومتدرعاً بصدق شعوره، كأنه يسير إلى جيش عرمرم يراه على مد بصره فيستعد إليه أكمل استعداد، حتى يصل إليه وهو في أهبة الاستعداد والانطلاق يخوض الوغى بكل جاهزيته. وشاعرنا تراه كذلك في ميدان الشعر بهذه الروح المتوثبة حين وجدناه خاض ميداناً في الشعر وجدنا كثيراً تعثر عنده فلم يستطع احتواءه في شعره وإخراجه بصورة قيمة سوية تنبئ عن شاعرية عند أصحابها. أقصد بذلك موضوع الحب وتوظيفه توظيفاً حقيقياً وهذا توظيف ليس جدلاً فلسفياً عقيماً فهو لم ينحرف عن وجهته الصحيحة. والدالاتي شاعر بارع في تجميع خواطره واسترداد ما يند منها من خلال اصطيادها دون عناء بما يملكه من خبرة في ذلك تنبئ عن مدارك واسعة وآفاق متطورة. انظر إليه في قصيدة تزدحم فيها المعاني وتحتشد عندها الأماني، واصفاً إخوة له قد رحلوا إلى مسكن الروح ومهوى الأفئدة، ومستقر القلوب أرض الحرم، فيناديهم وكله وله هيام يراهم في مخيلته وقد سكبوا العبرات، وأطلقوا الآهات، وعلى حال أمتهم قد نفثت كالسهم المريش منهم الزفرات، وقد وقفوا بين يدي مقام بيت الله الحرام فيقول: الراحلون إلى ديار أحبتي عتبي عليكم قد أخذتم مهجتي وتركتمو جسدي غريباً هاهنا عجبي له يحيا هنا في غربتي وإذا بجسمي في هجير بعاده وإذا بروحي في خلال الروضةِ قلبي وأعلم أنه في حلكم كصواع يوسف في رحال الإخوةِ قلبي ويحرم بالسجود ملبياً لبيك ربي يامجيب الدعوةِ قلبي ويسعى بين مروة والصفا ويطوف سعياً في مدار الكعبة قلبي ارتوى من زمزم بين النوى وأتى إلى عرفات أرض التوبة «10» السائرون فلا بشير قد رمى بقميص أحمد موت عز الأمة فالمسلمون تعثرت خطواتهم والمسجد الأقصى أسير عصابة وعوداً على بدء أقول: إن شعر الدالاتي الماهر يغري دائماً بالمزيد، ولكن المجال هنا لا يسعفنا لأن ننظم هذا الدر المنثور أو نستخرج المزيد من هذا اللؤلؤ المكنون«11». الهوامش: 1 ديوان أمنية العمر للشاعر. 2 نفس المصدر. 3 نفس المصدر. 4 نفس المصدر. 5 نفس المصدر. 6 ديوان حسان بن ثابت ص10. 7 سيرة ابن هشام ج2 ص424 8 الاصابة في تمييز الصحابة للعسقلاني ص68،69. 9 ديوان أمنية العمر للشاعر. 10 نفس المصدر. 11 والديوان لمن يطرب لروعة النغم ملحن في شريط اسمه أمنية العمر للمنشد محمد العزاوي.