«يرفع الفن رأسه عندما تتراخى العقائد» فريدريك نيتشه . هذه الجدلية في رأيي صحيحة ولكنها ليست ضرورية على الإطلاق . الفن هو الصورة الأكثر تعبيرا عن الإنسان حين تتحول الحياة إلى أرقام جافة ومكائن إنتاج ، الحياة ليست كمّا فقط والفيزياء هي أقل اللغات خدمة للإنسان ، الفيزياء وفرت الآلة والفن يوفر للإنسان روحه ومعناه ، العلم يكتشف لكن الفن يبدع . عبر تاريخ الإنسان كان الفن حاضرا ، كان الفن عبادة وكانت الرسوم والأغاني والرقصات جزءا من الشعائر . ليس هناك تناقض بين الفن والدين ، هناك تناغم وتفاهم ، لقد كان الجانب الفني في تركيب النص القرآني أحد أسباب خلوده ، وكانت الموسيقى شيئا أساسيا في تراكيب القرآن ، وكان القرآن يمتلئ بالدهشة والبيان ، وكان الرسول يحب مزامير داوود ، والماء والنساء . لا أصدقهم حين يقولون حببت إليه النساء لتنقل عنه ما يخفى من أمورهن ، ليس فقط لأنه تفسير غبي ، بل لأنه يختطف علينا الرسول الإنسان . مشكلة الفن ليست مع الدين بل مع الأيديولوجيا التي تأخذ شكل الدين ، ولهذا وضع الاتحاد السوفيتي سابقا روايات ديستويفسكي ولوحات شاجال في القائمة السوداء ، وأصدر بيانا رسميا بمصادرتها ومن بين سبعمائة كاتب حضروا المؤتمر الأول لكتاب الاتحاد السوفيتي حضر المؤتمر الثاني خمسون كاتبا فقط ، كان الآخرون قد غابوا في حملات التطهير ضد الفن . وفي الغرب احترق الفن في سوق العملة وضاع حين تحول لسلعة تفتش عن الربح ولا تهتم بروح الإنسان ، في الغرب هناك مستهلكون يسمونهم مواطنون ، أما الإنسان فقد مات في فوضى السوق والشركة والمنتج . ، أما المسلمون فإن الفن لازال في دائرة الممنوعات ، رجس من عمل الشيطان ، فهو لا ينتج سوى إنسان متفسخ لا يصلح للحرب والجهاد والرجولة !!! وحين نسمح بالفن في حدوده الدنيا فإننا نوظفه فقط في التعبئة والحشد و شد الهمم ، ليس للإنتاج ولا للصناعة بل للقتال والموت . حين نغني سنردد “ واجعل من جماجمنا لعزك سلما “ ، مع أننا نعلم أن الله عزيز ولا يحتاج لهذا اللون من السلالم كي يبلغ العز . كان المفكر المسلم المدهش علي عزة بيجوفيتش يستخدم الفن عبر العصور لتفكيك نظرية دارون ومقاومة الإلحاد كان الكثير من علماء المسلمين يحرمون الفن والتمثيل لأنه كذب ، كيف يمكن أن تقف على خشبة المسرح ويناديك الناس بأحمد بينما يكون اسمك أحمد ، هكذا بهذه السطحية كنا نقرأ المسرحية ، وكان التصوير في تصورنا مشاركة لله في الخلق !! في ذات الوقت يصنعون للناس آلهة من دون الله من الحكام والفاسدين والطغاة . وبدلا من نشر فلسفة التسامح والسلام التي اشتق الإسلام اسمه وتحيته منها ، ذهبنا نسوق الإسلام بوصفه دينا مهمته قتال الناس حتى يسلموا . صار العالم بعدها محتارا بين الإنسان الآلة الملحد في الشرق، والإنسان السلعة في الغرب ، وكنا نحن نقدم للناس إنسانا مهمته أن يقاتل أو يموت . كتبت ذات مرة منتقدا شعار جماعة الإخوان المسلمين «الموت في سبيل الله أحلى أمانينا» ، يمكن أن نفهم هذا الشعار لحظة ولادتها كحركة مقاومة ولدت في منطقة يحكمها المستعمر ، لأن الموت ليس شعارا يصلح لأن يكون هدفا للحياة ، الشعار هو النص الذي يختزل فلسفة الحركة للحياة وطريقتها في التعايش ، وهذا الشعار إن كان صالحا لزمن ما فإنه لن يكون صالحا كفلسفة للحياة الموت لا يصلح أن يكون عنوانا ، حتى لو كان في سبيل الله ، حتى لو كان لأمريكا وإسرائيل ، واللعنة لا تصلح أن تكون تحية في المراسلات ، كما يقول لنا شعار الحوثي حين يعلقه على واجهات منازلنا . في النتيجة يتكون شعب من المقاتلين الراغبين في الموت والهاربين من مهمة تعمير الحياة ، وهذا التعمير هي مهمة هذا الإنسان كخليفة لله على هذه الأرض ليعمرها ، وبدلا من مهمة السير في المناكب ، والنظر كيف بدأ الله الخلق كنا نختار المهمة الأسهل أن نقاتل ونموت ، هذه الأشياء السهلة لا تحتاج مؤهلات ولا شهائد ، تحتاج فقط إنسانا محبطا يبحث عن مبرر للموت . الآن يحب الناس الفنانين أكثر من المتدينين ، بل ربما أكثر من حفاظ القرآن ، هذه ليست مشكلة الناس ولا مشكلة الفن ، هذه مشكلة لها أبعادها الأخرى . ربما لأنهم لم يروا فنانا يذبح بسكينه إنسانا آخر وهو يتلو عليه آي القرآن وعليه علامات فرح ، لم يلحظوا اشتراك فنان في تفجير انتحاري . ربما لأنهم وصلوا لأعماق الناس في يوم ما حين كانوا معهم يمسحون عنهم بعض الوجع ، بعض الحزن ، بعضا من مصيبة ، أو يشاركونهم لحظة فرح ، لحظة حب ، لحظة أنس . ربما لأنهم يعلنون دائما أن رسالتهم هي الحب والحياة ، وهذه القيم هي بالنهاية من تنتصر لأن روح الإنسان تتعلق بها بفعل الغريزة ، ربما أشياء أخرى . الفنانون فاسدون ، لكنهم ليسوا قتلة ، ربما هكذا يقارن الناس الآن . سينحاز الإنسان لمن يمثله ، ينحاز لأعماقه ، ينحاز لصوته الداخلي حين يناديه ، ينحاز لمن يشبهه . لهذا يحب الإنسان الأنبياء و يحب أيضا الشعراء والفنانين والرسامين على امتداد عمر التاريخ وتحفظ البشرية أسماءهم جيدا