فضل شهر رمضان الأزمنة في أنفسها متماثلة، وتفاضلها بما يظهر فيها من هداية وخير، وإلى هذا المعنى يشير الشاعر إذ يقول: وما فاقت الأيامُ أخرى بنفسها ولكنَّ أيامَ الملاحِ ملاحُ.. وإذا نظرنا إلى شهر رمضان من هذا الوجه، وجدنا له مزايا تكسبه حرمة، وتجعل إقبال الناس فيه على الأعمال الفاضلة عظيماً. فكان هذا الشهر مظهر الكتاب الذي هو منار الهداية، ومطلع السعادة؛ كما قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة : 185] وإن شهراً ينزل فيه كتاب يملأ العقول حكمة، والقلوب طهارة، لذو طلعة مباركة، ومقدم كريم. ومن مزايا هذا الشهر: إنه الشهر الذي فتحت فيه مكةالمكرمة، ذلك الفتح الذي علت به كلمة الإسلام في البلاد العربية، وعلى أساسه قامت الفتوحات الإسلامية في الشرق والغرب. فقد جمع هذا الشهر بين ميزتين عظيمتين: أولاهما: إنه الزمن الذي أنزل فيه القرآن إلى سماء الدنيا جملة، أو ابتدئ فيه نزوله إلى الناس، ثم تواردت آياته على حسب ما تقتضيه الحكمة. ثانيهما: إنه كان مظهر الفتح الذي استوثقت به عرى دولة الإسلام التي مدت سلطانها العادل، وساست الأمم بشريعة تلائم مصلحة كل زمان ومكان. واقتضت حكمة الله تعالى أن يكون للناس من بين سائر الشهور شهراً يقضون بياض نهاره في عبادة الصوم، واختار أن يكون شهر رمضان هو الشهر الذي تؤدى فيه هذه العبادات ذات الحكمة السامية، والثواب الجزيل. ولعظم ما يترتب على الصيام من إصلاح النفوس، وتهذيب الأخلاق، جعلت فريضته في القواعد التي يقوم عليها الإسلام، والدليل على أن القصد من الصيام: الإصلاح والتهذيب، لا تعذيب النفوس بنحو الجوع والعطش: قوله صلى الله عليه وسلم: (من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه). وليس معنى هذا الحديث: أن من يقول زوراً، ويعمل به، ليس له من صيام، وإنما القصد منه: التنبيه على أن الصيام لا يتقبله الله تعالى بقبول حسن إلا إذا اجتنب صاحبه قول الزور والعمل به. ولرفعة منزلة الصيام، وعظم آثاره في إصلاح النفوس وتقريبها من مقام الخالق تعالى، أخذ في نظر الشارع عناية خاصة، فجاء في الحديث القدسي: أن الصوم لله، وأنه يتولى جزاءه بنفسه، ففي (الموطأ)، وغيره: (كل حسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلا الصيام، فهو لي، وأنا أجزي به). أضاف الله تعالى صيام العبد إلى نفسه؛ لأن سائر الأعمال تظهر على صاحبها، وقد يدخلها شيء من الرياء، والصوم لا يظهر على صاحبه، فيقع لله خالصاً، وأخبر في الحديث: إن الله تعالى يتولى جزاءه بنفسه؛ إيماءً إلى عظم ثوابه؛ فإن أكرم الأكرمين لا يقابل العمل الصالح إلا بالجزاء الأوفى، وأكد ذلك بأن جزاء الصوم فوق الجزاء المضعف إلى سبعمائة ضعف. أمر الشارع بالإنفاق في وجوه البر، وورد في السنة ما يدل على أن للإنفاق في هذا الشهر فضلاً على الإنفاق في بقية الشهور، يظهر هذا من حديث ابن عباس، قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان).