سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
ثقافة الجدران.. لا سلطة لأحد هنا..!! «جدران» منهكة تختلط فيها الألوان والكلمات والرسومات والشخبطات، «سبورات» عامة مكشوفة يدون عليها المارون أفكارهم، ونزواتهم.. وهي فوق هذا وذاك «مذكرات» شاهدة على تناقضاتنا..
حين تسير في شوارع العاصمة صنعاء، تستوقفك جدرانها مفتشة في أعماقك عن نقش تذكاري ينقصها، أو عن عبارة لا زالت تفتقد إليها زاوية ما، في شارع ما، تتخيل نفسك وأنت تقود أقدامك باتجاه لوحة جسدها رسام ماهر، لكنك ما تفتأ أن تصادف جدراناً كأنها لمدينة أخرى لا لهذه التي رأيت جدرانها للتو، إنها ثقافة الجدران حيث لا سلطة لأحد هنا.. في اليمن وحدها؛ في حوائطها وجدرانها العامة تجد عبارة تخدش الحياء والذوق العام، بينما الجدران في أسوار المدن الأوروبية تحتضن ألوان افضل رساميها، إنها مفارقة كبيرة بين من يحتضن وردة وسيف وعبارة ومدفع. واجهات الأماكن العامة هي من تستهوي هذه التناقضات، فنجد الكثير يهرعون إليها لتدوين رسومات أو حكايا، وإذا كان المكان مزدحماً نجد البعض يرصف ألوانه على سابقتها، دون احترام للعمل والجهد الذي بذله رسامون سابقون أمثاله، إنها اليمن، اذا أردت أن تعرفها أنظر إلى وجوه حيطانها، أو كما قال البردوني؛ لذلك لا يحتاج الزائر إلى دراسات ليتعرف إلى ثقافة أبنائها عند قدومه، كل ما يحتاجه زيارة قصيرة في شوارعها ليجد ضالته، في وطن الجدران، يتفاوت اللون والرسم والخط، وتتناثر الكلمات المعبرة والعابثة والفاسقة، لا سلطة هنا لأحد، وحدها الأخلاق من تتحكم في تفاصيل شخبطاتنا الصغيرة.. أحداث 2011 لم تترك مأساتها الثقيلة على اسر الشهداء والجرحى فقط؛ الحيطان أيضاً كان لها نصيب من هذه المأساة، لكن لا احد يشعر هنا أو يحس بمعاناتها، إنها تنتحب بصمت كشابة تعرضت لمعاملة سيئة من قبل أسرتها، فهي تهرع إلى غرفتها لتنتحب وحيدة، لم تتباطأ ريشات الفنانين والرسامين لمعالجة هذه الجروح التي لحقت بجدراننا، إنها تتعافى اليوم بفضل ألوانهم، لكن ثمة من لا يريد للمدينة أن تتجمل .ثمة من يريدها أن تتعرى كباغية. جدران صديقة يقول الفنان مراد سبيع إن الجدران لها ذاكرة رحبة أوسع من ذاكرة الإنسان الضيقة، إنها كتاب مفتوح يستطيع أن يقرأه الجميع, وأضاف: من خلال عملنا في الشارع تغيرت النظرة النمطية تجاه الجدران بأنها سجن أو عائق أمامنا وأصبحت صديقة تعبر عنا، وتابع: من المهم لأي عمل في حياتنا أن تتواجد النية لكي ينجز بشكل جيد، وبالنسبة لي فهي النية وحب ما أقوم به مع أصدقائي، ويضيف: الفكرة الناجحة هي التي تتعرض للنقد، ومن الطبيعي في بيئة يمنية يحضر الرسم في الشارع بشكل قوي لأول مرة أن تثير التساؤل، وفي الأسابيع الأولى كانت بين محب لما نقوم به وغير مكترث، ومن ثم تحول الأمر إلى تأييد كامل من غالبية اليمنيين، بل وانعكس الأمر على ازدياد المشاركين معنا في الرسم. - ويرى سبيع أن الألوان حياته، وأن الريشة لم تقم سوى بواجبها تجاه جدران المدينة المنهكة، وأضاف: كل أعمالي الفنية متساوية ولا يجب أن أميز بينها، ارسم للناس في الشارع, وعن حملة “لون جدار شارعك” قال: كانت مليئة بالمعاني, طبعاً، عرفتني بالناس وعرفت الناس بي, وبما أنها الحملة الأم فهي شكلت انطلاقة لفن الشارع في اليمن ولحملات الجرافيتي اللاحقة التي اطلقتها. وطن الجدران الرسام بسام العطاب قال أن الجدران وطن بالنسبة له، وان علاقته بالجدران كعلاقة العصفور بعشه، وأضاف: الألوان تعني لي الحرية، وتعاملي مع الألوان كتعاملي مع الأطفال، فإن استطعت أن تكسب محبتهم نجحت، وإن لم تستطع فلن يكتمل معنى الحرية بالشكل الذي تريده، ويضيف “عندما ترسم أنت تدون، ومن لم يدون أعماله لن يرى الناس مجلداته، لكن للأسف الشديد، في اليمن جدراننا أصبحت كل يبكي على ليلاه، ذاك يرسم وهذا يمحي ما رسم قبله؛ لذلك لابد من احترام الجدران كي يحترمنا الوطن ويحبنا، والجدران كالدفتر إن سطرته وزينت أركانه ومزجت فيه الألوان بدون شك سيصبح لوحة عملاقة. وقال العطاب: أكثر لوحة رسمتها وشعرت أنني أشاركها مماتها هي «جدارية شهداء ثورة فبراير شهداء جمعة الكرامة» وأن اكثر من شجعني لرسمها هي طفلة اسمها غادة وتعد اكثر واصدق طفلة ساعدتني برسم الجداريات ورسم شهداء الوطن فلها مني كل الحب والشكر والامتنان، بالإضافة إلى الرسامة “سمر الأغبري”. تلقائي بحت الدكتورة نادية الكوكباني أستاذة الرسم والتصميم بكلية الهندسة جامعة صنعاء قالت: الفن الجرافيتي لا يدرس باليمن، الناس لا تعرف حتى ما هو الفن الجرافيتي حتى تبني أو تكون رؤى خاصة، وبالتالي ما فعله اليمنيون بهذا الفن كان تلقائي بحتاً في هذه الفترة التي هي “لون جدار شارعك”، وأضافت: كان الغرض منه تعليم الناس كيف تستعمل اللون والفرشاة في لحظات صعبة كان يمر بها الشعب اليمني، بعدها جاءت فكرة «لون جدار شارعك» التي كانت فكرتها أيضاً تسلية المجتمع من الصراع الذي كان يمر به اليمن في 2011، وبالذات أمام جامعة صنعاء. وعما اذا كانت تحمل رموزاً خفية قالت: عملية الرسم تمت بتلقائية بحته، لا يوجد فيها أي رموز، لكن البعض حاولوا تشويه الحملة وإزالة هدفها الإنساني الذي قامت من أجله، برسم صور ورموز كانت تطلع في مخيلتهم لكنها ترمز لأشياء معينة، وهذا كان هذا خطأ رهيباً، وعن سؤالنا هل جدراننا تعكس ثقافتنا قالت: في تلك الفترة كانت تعكس ما كان مطلوباً منها، كان المطلوب منها سلام، مطلوب منها أنها تنشغل بأشياء غير الحرب والصراعات الدائرة. أثرت حملة «لون جدار شارعك» لمراد سبيع وزملائه على الشباب وعلى المارة في الشوارع بشكل كبير، بدأ الناس يتداولون الرسم والألوان بدلاً من الأشياء السياسية وهذه كانت بحد ذاتها رسالة اجتماعية ، قالت الكوكباني، وتضيف: الحملة السياسية من خلال المخفيين قسرياً كانت لا تكررون إخفاء هؤلاء الناس عن أهليهم وذويهم حتى وان حدثت في الماضي، فيجب ألا تحدث في المستقبل، وهي رسالة هامة جداً لأن بعض الشباب والشخصيات أيام الثورة كانت مختفية فكانت رسالة آنية ومستقبلية أيضاَ. مذكرات عميد كلية الإعلام ،الدكتورعبد الرحمن الشامي قال أن: الناس لديها ثورة إزاء كل شيء وضد كل شيء، لكن هناك مكان خاص للمذكرات والجدران لا تمثل المكان المناسب لها، هذه كلها تمثل تجاوزات لا يصح أن تتم، وأضاف: الشخبطة على الجدران تعكس مدى الذائقة لدى الناس، وتعبر عن مخزون انفعالي ثورجي هائل، فالناس تعبر عن مللها لكن أسلوب التعبير ليس صحيحاً، كونها تخدش جمال المكان، وجمال الحيطان، واذا جئنا إلى الجامعة أو الكلية المفروض أن يخصص مكان معين لوضع الملصقات، وليس الكتابة في أي مكان كان، وهذا يمثل تجاوزاً للحريات، لكن اذا كانت هذه الألفاظ تخدش الحياء العام، فهو خروج عن نطاق الحرية. وأكد: هذه إفرازات لمكنونات داخلية تعتمد في النفوس لها مبرراتها الكثيرة في الواقع، سببه غياب الدولة المدنية غياب العدالة الاجتماعية غياب النظام والقانون على الجميع، فبالتالي كل هؤلاء الناس لا يجدون متنفساً إلا أن يعبر عن هذه الأشياء ولو بطريقة خارجة لكنها تعكس أسلوباً عدوانياً، لأنه هناك حين نتحدث عن العنف ليس العنف الجسدي لكن العنف اللفظي، وهذه نوع من أنواع العنف. غير مجدية أستاذ علم الاجتماع مجيب شمسان قال: وسيلة التعبير على الجدران وسيلة غير مجدية؛ كون الوعي الداخلي غير جاهز لاستقبال مثل هذه الرسائل؛ وبالتالي هي تساهم بصرف مال عام دون جدوى، وأضاف: علينا أن نعيد بناء الرسالة وبناء الوسيلة التي من خلالها يمكن أن نتوقع الإجابة، وتابع: لابد من عملية إنشاء معاهد، مؤسسات، ومنظمات تقوم على إعادة ترتيب بنية الثقافة، بنية التنشئة، بنية الآخر، لتعرفنا بالأخر كشخص، كفن، كثقافة ..إلخ، والتشخيص السليم لابد أن يتبعه علاج سليم ، مشكلتنا لا تكمن في كيفية أن نوصل رسالة إلى الآخر من ملصقات أو شعارات عبر الجدران، العملية تقف وراء ذلك تماماً، لأن معظم فئات الشعب نتيجة للوضع الميؤوس وتراكم الثقافة غير الصحيحة، تجعل الفرد ينظر إلى كل ما هو مكتوب على هذه الجدران بنوع من الاستهتار وعدم فاعليته، وبالتالي عندما نقوم برسم مثل هذه الأشياء يصبح من الصعب جداً أن نلمس اثرها على الفرد، ويضيف: علينا أن نولي بناء وسيلة جديدة بشكل مؤسسي منظم تستهدف بنية الثقافة، وبنية التنمية بحيث تسعى إلى فتح مسؤولية قدرة الأفراد في التعامل مع الثقافة العامة والمظهر العام عند الآخر، لان الآخر مازال غائباً في ثقافتنا ونتعامل معه بمنظور إما الإقصاء أو التهميش أو التعالي. - وأوضح أن محاولة تصوير الثورة بأشكال ورسومات وشعارات معينة على الجدران كان يتطلب منها نفس الطريقة رفع مستوى وعي الأفراد وانتباههم، وكانت تحتاج في المقابل إلى وعي الأفراد حتى تتمكن من قراءة مثل هذه الرموز، لأن الثقافة المجتمعية المستهدفة لم تصل بعد إلى مرحلة القدرة على استشعار أهمية هذه الرموز وقراءتها على الجدران، ولكي تعكس جدراننا ثقافتنا علينا أن نكسبها مظهراً عاما متشابها حتى تلفت الانتباه، وأن نقوم بوضع شعارات على شكل دقيق لا أن نضخها مرة واحدة، لأن ضخها بشكل كبير جداً يوقف عملية التحليل لدى المستقبل، ويضيف: لازم أن تكون الشعارات على فترات حتى يستقبلها الدماغ ويحللها بشكل جيد. رؤى الدكتورة نادية الكوكباني ، قالت: نحن بحاجة إلى تنظيم هذا العمل حتى لا يتم تشويه الشوارع ، نحن الآن بحاجة إلى أن ننظم هذه العمليات بقانون، إنما في هذه البلاد لا يوجد قانون بما في ذلك الجدران، ويرى سبيع أن الرسم في الشارع هو الوسيلة الأمثل لإعادة الاعتبار لجدراننا، ويطالب العطاب أن نجعل من جدران الوطن لوحات جدارية عملاقة نوصل من خلالها الرسالة ونفيد الناس ونعلم الأجيال ونحسن من صورة جدراننا. لجأت الكثير من المؤسسات والمباني الحكومية والخاصة إلى طلاء جدرانها بالألوان لتزيل ما علق بها من عبارات تخدش الحياء أو تسيء لشخص أو لجهة معينة دون أخرى ، وهو ما يعني أن مثل هذه الأعمال ستكلفنا الكثير من الطلاء لتحسين صورة المدينة من جديد، ما يعني أيضاً السماح للمنظمات والمبادرات لأخذ أموال دون وجه حق، لتحسين صورة العاصمة صنعاء بعدما غزتها العبارات العدائية والشعارات السياسية والطائفية وحولتها إلى ما يشبه دفتر طالب في الصفوف الأولى، يعبث بما يريد من صفحاته، ويرص حروفه إلى أعلى واسفل، هذه هي صنعاء اليوم.