في أحايين كثيرة يكون السعي نحو الكتابة الأدبية حلماً يراود الكثير من الساسة والقادة وأصحاب القوى؛ لأن الشعور الداخلي يكمن في مدى امتلاك القدرة الخالقة للموهبة المتميزة التي ينفرد بها الأدباء والكتاب،.. والتاريخ مليء بكثير من الأمثلة الذين حاولوا استجداء ملكاتهم واستبطان قدراتهم وتسخير سلطاتهم وتحفيزها على الكتابة، إلا أن هدف الإنجاز كان يتخلف عنهم كثيراً.. من هذه الإطلالة استنفذ هذه القراءة من أجل إثبات متناقض آخر, حيث يثبت مثل هذا التصور شكلاً من الحرج لدى صاحب القدرة والملكة, إن تلت تلك الملكة سلطة, فلا يمكن ترك واحدة تنعي الأخرى؛ لأن فيهما مطمحاً, وإليهما يمكن الوصول. يمكن لي الآن أن أقطع شوطاً للتقرب إلى موضوعي الذي أحوم حوله, إنه عبدالفتاح إسماعيل, ذلك النموذج المهم في تاريخ اليمن الحديث, كسياسي حر ومثقف عضوي وشاعر متخف وراء اسم مستعار, ربما للسبب الموضح آنفاً, لم يكن قد شغل في حياته السياسية كثيراً من الضجيج وكثرة من الآراء و التناولات المهمة فحسب, حتى نهايته التي تحمل طابعاً أشد إثارة وأكثر غرابة وجهود بحث من أجل الوصول إلى حقيقة تلك النهاية . ما يهمني الآن هنا, عبدالفتاح الشاعر؛ إذ أثارت في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين كتابة شعرية تملأ الصحف والمجلات تحمل اسماً مستعاراً, وهو«ذو يزن», هذا الاسم المستعار, لم يكن قد حرم أو حجب تلك النصوص الشعرية من القراءة أو التناول النقدي, بل زادها إصراراً وتناولاً بإعجاب شديد واهتمام بالغ, وذلك بما تحمله تلك النصوص من تفرد بالغ بالحلم بالثورة ومتغيراتها على الأرض, ومناداتها بالحرية للبسطاء والفلاحين, والدعوة نحو المساوة والعدل, كل ذاك التزاوج السياسي الفني يتناطح بشكل متناه من البناء والنسيج المتبادل بين ذات شاعرة وذات سياسية شاعرة بهموم البسطاء وأمانيهم بصورة أكفأ وأجدر. كان الشاعر ذو يزن من أوائل من كتبوا قصيدة النثر في اليمن, بنفس الوتيرة التي انطلق منه هذا الشكل الشعري المسمى قصيدة النثر, وكانت تجربته تشكل إلى جانب محمد المساح وعبدالرحمن فخري وعبداللطيف الربيع باكورة هذا الشكل في اليمن, حيث شكلت إرهاصات أولية لها . المجموعة الشعرية التي جمعت أخيراً لعبدالفتاح «ذي يزن», تحمل عنوان «نجمة تقود البحر» بتقديم الشاعر السوري الكبير أدونيس في 1989م, والذي عاودت صحيفة “الجمهورية” طباعته بمقدمته في اليوبيل الذهبي لثورة الرابع عشر من أكتوبر 2013م. المجموعة الشعرية, من خلال عنوانها, إذا حاولت أن تبدي تفسيراً يستكهن مدلولها ويستوحي خبيئها, سننبري مشغوفين بعمق هذا العنوان من أكثر من دلالة, لنرى مباشرته من جانب وعمقه من جانب آخر, فالأول وكما هو معلوم وعلى مدى عصور ,أن القبطان وقائد السفن لابد أن يدركوا وبتأن وحذر تام حركة النجوم وتوجهها من أجل السير بالطرق السليمة التي تحفظ حياتهم وحياة الركاب والعابرين فوق البحر, أي أن من يقود البحار هي النجوم من خلال إدراك كنهها من قبل القبطان والبحارة, ولولاها لتعثر مسيرهم وكانت رحلاتهم ضرباً في الهلاك. أما الجانب الآخر للعنوان فهي الأسطورة التي تقول إن للحرية نجما في السماء , يعاود الطلوع بين الحين والآخر , وربما ذهبت مخيلة الشاعر صوب هذا المعنى ليسوقه مطابقاً بين دلالة النجم وبين مضمونية وخصوصية نصوصه, التي تجعل من الحرية رمزاً للنضال والتضحية, وهو الأمر الذي ظل يلازم الشاعر السياسي, وإذا كنا إلى الآن فسرنا معنى النجمة , فما هو البحر , يبقى البحر في مقاربة هو ذلك الظلم والاستبداد والفقر الذي يطير كالموج فوق أرضية اليمن وفي كافة أوديته, وتلك هي صفات تلازم البحر الذي يوصم بالغدر بالسواد بالليل بالذي يخشى عواقبه , لذا كانت المناسبة بين طبيعة العنوان وخصوصية النصوص ومدى جديتها في سبيل تعزيز هذه الروح الحالمة بثورة وحرية . وثمة دلالة أخرى يحملها لفظ البحر ولا يمكن بأي حال من الأحوال تجاهل مثل هذه الدلالة , وهي دلالة البحر «الثورة», «وأمواجه هي أمواج البسطاء والفلاحيين الذين يشعلون ثورة بحثاً عن أمن وسلام بحثاً عن حب ووئام , فالعلاقة جلية بين البحر «الثوار» والنجمة «الحرية» , حين يحاول الشاعر قطع هذه المسافة القريبة واقعاً البعيدة فنياً لتأخذ الصورة دلالة عميقة وهامة. من هنا يكون للعنوان صلة وثيقة بالنصوص, ومن ضوئها يمكن تتبع أثره في دلالتها وسماتها الفنية , حيث تتخذ هذه النصوص كما قلنا من الطابع السردي المحمل بانبثاقات شعرية وتقنياته المختلفة, التي يحاول الشاعر أن يوزعها في نصوصه, محاولاً المزج بين اللون الشعري وبين الوصول إلى مدارك الجمهور الذي يحاول أن يستثير حماسهم ويؤجج مشاعرهم ويحيي حلمهم بضرورة الثورة والحرية , لذا تكمن القدرة في كتابة شعرية بشكل نثري وبين شعارات تحمل طابع الحماس والثورة. هذه اللازمة ما سنحاول الإجابة عليها من خلال قراءتنا واستعراضنا لبعض النصوص. وأول هذه النصوص الذي يستوقفنا يحمل عنوان «الثورة والموت والميلاد» , حيث يقول فيه : عالمُنا اليوم يركض فوقَ صهوةِ خيل نحو الشرق نحو عُباب البحر يتحدى الإعصار يمضي ليعانق شمس الحرية الكبرى يزرع بديلاً للعبث واليأس الأملَ الأخضرَ في كل مكان لتتحقق ما كانت أحلاماً ينشر بسمَته الحلوة في المدنِ والأرياف بين البسطاء بين العشاق وعلى وجوهِ الأطفال يروي شجرة الحرية والحب والأمن«ص12» آن لهذا المقطع الشعري أن يكون مفتتحاً فعلياً لنصوص فتاح , وإذا كان شعره بهذا الانطباع الذي يلامس بها أحلام البسطاء والعشاق معاً , فتلك غاية إنسانية قيمة يسعى الشاعر لخلقها حقيقة وفناً وهذا ما حصل بالفعل , وستجده بصورة أجل في مقاطع أخرى ,وفي قصيدته «الساحة الحمراء ملونة »,يقول : النجمة الملتهبة الحمراء تاج المطرقة والمنجل هي القمر الأرضي الأشقر تتجمع فيه نجوم الأرض بالأمل تتعانق بقلوب تخفق ...بالبهجة النجمة ... الشمس المنتصرة تزداد إشعاعاً بالساحة الحمراء في خنادق أخرى في سماء سلام «الديوان 14». وإذا كنا قد وضعنا تصوراً لدلالة البحر والنجمة , فإن نصه «شمس الفكر» ربما يقرب لنا ذلك التصور, كما في قوله: فالنجمة المنزرعة في رحم البحر أفقياً تكبر عمودياً تكبر صارت فجراً يتصاعد ثورة في الأفاق تولد منه الشمس الفكر الشمس الفكر..... رغم بقايا أجنحة الليل ومهما كانت تدب الآهات لكن أشعتها تخصب فينا أملاً تسقي دمنا فرحة يا لبسمتها بسمة أطفال زدنا وثوقاً بالنجمة زدنا حباً بالبحر زدنا دفئاً بالتربة زدنا......«الديوان 16» ولم يكن فتاح بعيداً عن مفردة العشق إلا أن عشقه يأخذ لوناً آخر من العشق , عشق للأرض , عشق للبحر , عشق لكسرة الخبر, عشق للزرع والمطر : من يعشق التوحد بالبحر يعشق شواطئه الخُضر يعرف سرَ الكنوز ونوع المَحَار خطوطَ التواصل للمد والجزر وليس فقط معنى التلذذ بالملح حين يضاجع كسرة خبز. من يعشق الأرض في الوجوه السُمْر يعرف معنى حنينِ البشر للون المطر وهذا الشوق في البشر لعناق السنابل «ص19». وقد يظن ظان أن فتاح قد التهمت تجربته الشعرية بمعان الثورة والنضال وجديتهما وخلت من معان البسمة والحب والرومانسية , لكنها تململت بتلك المعان وامتزجت بصوتها الدافئ كما في قصيدته التي غناها نجيب سعيد ثابت : «كيف ألامسك/ أداعب جواهرَ جسمكِ/ كيف يغادرني شجني / وحبلُ المسافات منك قريبٌ ومقطوعٌ عني / ووسط عذابي طريقُك/تحسستُ جرحَك /رددت موال حزني /وحزني حزنك ينقش اسمك جراحاً في رحلة عمري ... بدونك لا اسم لي.«ص26» وكذلك قصيدة أخرى غناها الفنان عوض أحمد, يقول فيها : من حيث لا أدري دريت في قربكِ عرفت الحبَ وعشت العمرَ من أجلكِ أصون ودَّك تقياً في حنايا القلب قديمةً كانت الأيامُ وحبُك جدد أيامي خيالاً كانت الأحلامُ فحقق كلَّ أحلامي« ص27» ثمة ملمح فني تفيض به معظم قصائد فتاح وخاصة قصائده النثرية , هذا الملمح من ناحية يعد أساساً فنياُ في قصيدة النثر ومن ناحية أخرى يسعى فتاح إلى ملء نصوصه وهجاً وإشعاعاً رؤيوياً يتناسب والغاية التي رسمها بدقة, وهي وصول ذاك الوهج الثوري وشعاع الحرية إلى كل موطن وكل باحة , تجده يحشد كثيراً, ألفاظ الرؤيا والنجمة والبحر والأمل ,كلها ترسم ملامح المستقبل ,كما في قوله : قالوا : استبقت برق الزمان حملت من راحتيه سيف الضياء للمكان الذي يعشعش في ضفتيه الظلام أجنحة الليل استيقظت أدركت معنى سحر الضياء ..فالجرح مهما بدا هلالاً في ساحة الرأس يسافر ينشر بدراً في ضفتي المرايا ...... المرايا حقاً مشروخة غير أن النجمة في قلبها تلحمَها تصقُلها وأبوابُها مفتوحةٌ للضياء على امتداد ساحاتها والعيونُ التي قد أبصرتْ خيوطَ الضياء باسمةٌ مفتوحةٌ للضياءِ على امتداد مِحجَريها في كل المرايا «ص21» ختاماً , ونحن ننهي هذه القراءة البسيطة لديوان نجمة تقود البحر يمكن القول: إن الشاعر جرى في متواليات نصوصه باحثاً ومتأملاً برؤى ثاقبة معنى الوجود الإنساني الحقيقي الذي يسعى إلى إيجاده متوسلاً في سبيل ذلك كل معان الحرية والثورة والحب والعشق بمختلف صوره وأشكاله, ليعبر جسراً من التضحية والنضال وصولاً إلى المستقبل , نصوصه تفيض بالأمل وتحاصر اليأس والظلام ناثرة النور والضياء في كل أرجائها , كما أن لغته بسلاستها وعذوبة ألفاظها وكثرة دلالتها تشكل علاقة حميمية بينها وبين القارئ , أخيراً هذه التجربة غنية وجديرة بالقراءة العميقة التي نحن في حاجتها الآن وفي ظروف كهذه الظروف السياسية التي نمر بها, دمت رفيقاً حضوراً وغياباً.