مع تقدم الإنسان في العمر، تفتر همته، ويقل طموحه، ويعيش في الماضي، ويعزف عن النظر إلى المستقبل، وتتحول حياته إلى حالة من الرتابة والملل، حتى أن المتخصصين في الدراسات النفسية يصفون هذه الفترة من عمر الإنسان “بمرحلة اليأس”، وللأسف هذه الحالة التي تنتاب كبار السن هي نتاج لثقافة سلبية سادت مجتمعاتنا في العقود الأخيرة، وعمقتها في النفوس البعد عن المنهج الإسلامي، وأنماط التربية الخاطئة، و وسائل الإعلام. إن لكل فرد داخل المجتمع الإسلامي قيمته ودوره الذي لا يتوقف للحظة واحدة، ولا ينتهي هذا الدور إلا بالموت، هكذا عاش المسلمون في الماضي لعقيدتهم وفكرتهم منذ الولادة وحتى الوفاة، ولم يقف السن عائقا أمام حركتهم وفاعليتهم داخل المجتمع، وكتب السير تحوي عشرات القصص التي تؤكد هذه القيمة وتشير إلى همتهم العالية مهما تقدم بهم العمر. همتهم في طلب العلم في الكبر قال البخاري - رحمه الله تعالى - في “صحيحه”: “وقد تعلم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في كِبَرِ سِنِّهم”. وعن نعيم بن حماد قال: قيل لابن المبارك: “إلى متى تطلب العلم”، قال: “حتى الممات إن شاء الله”. وعن ابن معاذ، قال: سألت أبا عمرو بن العلاء: “حتى متى يحسن بالمرء أن يتعلم؟” فقال: “ما دام تحسن به الحياة”. ويحدث الإمام “ابن عقيل” عن همته وهو في عشر الثمانين من عمره، فيقول -رحمه الله-: “إني لا يحل لي أن أُضيِّعَ ساعة من عمري، حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة ومناظرة، وبصري عن مطالعة، أعملت فكري في حال راحتي وأنا مستطرح، فلا أنهض إلا وقد خطر لي ما أسطره، وإني لأجد من حرصي على العلم وأنا في عشر الثمانين أشدَّ مما كنت أجده وأنا ابن عشرين”. وقال الزرنوجي: “دخل حسن بن زياد في التفقه وهو ابن ثمانين سنة، ولم يبت على الفراش أربعين سنة”. ، وقال الحافظ الذهبي في ترجمة “أبي الفرج بن الجوزي” ما نصه: “وقد قرأ بواسط هو ابن ثمانين سنة بالعشر -أي: بالقراءات القرآنية العشرة- على ابن الباقلاني، وتلا معه ولده يوسف، نقل ذلك ابن نقطة عن القاضي محمد بن أحمد بن الحسن”.، وعُمِّر الشيخ يوسف بن رزق الله طويلا حتى قارب التسعين، وثقل سمعه، لكن بقيت حواسه كلها سليمة، وهمته همة ابن ثلاثين، مات وهو يباشر التوقيع بصفد سنة 745 ه . وقيل لعمرو بن العلاء: هل يحسن بالشيخ أن يتعلم؟ قال: إن كان يحسن به أن يعيش فإنه يحسن به أن يتعلم!! همتهم في الجهاد في الكبر ومن أشهر من لم يمنعهم كبر سنهم وتقدم العمر بهم عن الجهاد في سبيل الله عاش أبو أيوب الأنصاري الذي خرج للغزو مع جيش المسلمين لفتح القسطنطينية تحت قيادة يزيد بن معاوية وكان آنذاك شيخًا طاعنًا في السن يحبو نحو الثمانين من عمره, فلم يمنعه ذلك من أن ينضوي تحت لواء يزيد, وأن يمخر عباب البحر غازيًا في سبيل الله، لكنه لم يمض غير قليل على منازلة العدو حتى مرض أبو أيوب مرضًا أقعده عن مواصلة القتال، فجاء يزيد ليعوده وسأله: ألك من حاجة يا أبا أيوب؟ فقال: اقرأ عني السلام على جنود المسلمين، وقل لهم: يوصيكم أبو أيوب أن توغلوا في أرض العدو إلى أبعد غاية، وأن تحملوه معكم، وأن تدفنوه تحت أقدامكم عند أسوار القسطنطينية، ولفظ أنفاسه الطاهرة رحمه الله. وممن اشتهر في الجهاد على الرغم من كبر سنه القاضي المجاهد “أسد ابن الفرات” الذي بلغ السبعين من عمره، وتطوع لقيادة أول حملة لفتح صقلية، ولولا إيمان هذا القائد وتأثيره القوي على الجنود لما تحقق هذا الفتح، حيث انبهر المؤرخ الإيطالي “أماري” بشخصية هذا القائد في زهده وإيمانه، وقال عنه: “إنه رجل يتطلع إلى ما وراء هذا العالم، ويتخذ من العلم والجهاد وسيلة لبلوغ الرسالة التي خرج من أجلها”. الماوردي يعالج الشعور باليأس عند الكبر: عالج الإمام أبو الحسن علي بن محمد، الشهير الماوردي في كتابه أدب الدنيا والدين هذه المفاهيم المغلوطة التي تتولد لدي البعض عن كبر السن وتقدم العمر، وأنها قد تقعد الرجل عن العمل، فقال: “وربما امتنع الإنسان من طلَب العلم لكبر سنه واستحيائه من تقصيره في صغره أَن يتعلَم في كبره، فرضي بالجهل أَن يكون موسوما به وآثره علَى العلم أَن يصير مبتدئا به. وهذا من خدع الجهل وغرور الكَسل؛ لأن العلم إذا كان فضيلَة فرغبة ذَوي الأسنان فيه أَولَى. والابتداء بالفضيلَة فَضيلَة. ولأَن يكون شيخا متعلما أَولَى من أَن يكون شيخا جاهلا. حكي أَن بعض الحكَماء رأَى شيخا كبيرا يحب النظر في العلم ويستحي، فقال لَه: يا هذا أَتستحي أَن تكون في آخر عمرك أَفضل مما كنت في أوله؟. وذكر أَن إبراهيم بن المهدي دخل علَى المأمون وعنده جماعة يتكلَمون في الْفقه فقال: يا عم ما عندك فيما يقول هؤلاء: فقال: يا أَمير المؤمنين شغلونا في الصغر واشتغلنا في الكبر. فقال: لم لا نتعلَمه اليوم؟ قال: أَو يحسن بمثْلي طلب العلم؟ قال: نعم. واللَه لأَن تموت طالبا للعلم، خير من أَن تعيش قانعا بالجهل. قال: وإلى متى يحسن بي طلب العلم؟ قال: ما حسنت بك الحياة؛ ولأَن الصغير أَعذر وإن لم يكن في الجهل عذر؛ لأنه لَم تطل به مدة التَفريط ولا استمرت علَيه أَيام الإهمال. وقد قيل في منثور الحكم: جهل الصغير معذور، وعلمه محقور، فأما الكبير فالجهل به أَقبح، ونقصه علَيه أَفضح؛ لأَن علو السن إذا لم يكسبه فضلا ولم يفده علما، وكانت أيامه في الجهل ماضية، ومن الفضل خالية، كَان الصغير أَفضل منه؛ لأَن الرجاء له أَكثر، والأمل فيه أظهر، وحسبك نقصا في رجل يكون الصغير المساوي له في الجهل أَفضل منه”. لذلك فإذا كان قد مضى زمن الشباب فتذكر أنه إذا ضاع الأمس. فبين يديك اليوم وإذا كان اليوم سوف يجمع أوراقه ويرحل فلديك الغد. لا تحزن على الأمس فهو لن يعود ولا تأسف على اليوم. فهو راحل واحلم بشمس مضيئة في غدٍ جميل. المراجع: - أدب الدنيا والدين ، أبو الحسن علي البغدادي، الشهير بالماوردي، دار مكتبة الحياة. - علو الهمة، محمد بن أحمد بن إسماعيل المقدم، دار القمة - دار الإيمان، مصر.- ابتسم للحياة.. قصص لمتفائلين حطموا اليأس، عبد الكريم بن عبد العزيز القصير.