القصيدة التي سنرحل في أعماقها وفي ثناياها بعنوان ((أنا)) وهي لشاعر المهجر الأكبر إيليا أبي ماضي.. اخترت هذه القصيدة بالذات لأنها تحمل مضموناً اجتماعياً.. وتلخّص اعتداد الشاعر بذاته وافتخاره بنفسه الأبية, الشامخة, المترفّعة عن الصغائر والتفاهات.. وفيها أيضاً رؤية حكمية للأشياء.. وفيها يُبرز الشاعر سلوكاً حكيماً.. يُحسن التعامل مع الآخرين بإيجاد معالجة حكيمة لبعض الانحرافات الأخلاقية التي يغص بها المجتمع .. ولن نُسهب في شرح القصيدة قبل أن نبرز أو نذكر المقطع الأول منها لنرى تفصيلاً أكثر لما أوجزنا تقديمه في السطور السابقة.. تبدأ القصيدة بالأبيات التالية: حرٌّ ومذهبُ كلّ حُرٍّ مذهبي ماكنت بالغاوي ولا المتعصّبِ إني لأغضبُ للكريم ينوشُهُ من دونه وألوم من لا يغصبِ وأحبُّ كلّ مهذّبٍ ولوَانّهُ خصمي وأرحمُ كلّ غير مهذّبِ يأبي فؤادي أن يميل إلى الأذى حُبّ الأذية من طباع العقربِ لي أنْ أردّ مساءةُ بمساءةٍ لو أنني أرضي ببرقٍ خُلّبِ حسبُ المسيء شعوره ومقاله في سرّه: يا ليتني لم أذنبِ في الأبيات السابقة يوضح إنه حر وهذا مذهب عام لكل الناس ، هذا ما يراه وينشده كل إنسان في نفسه أن يكون حراً , طليقاً دون قيود تكبّل أحلامه وتطلّعاته.. ومع هذه الحرية يؤكد الشاعر أن حرية الإنسان ليست مطلقة ومتحرّرة من كل الضوابط .. فحريته مشروعة ولا تخرج عن إطار العقل والمنطق .. وما يغضب الشاعر ويثير حنقه وامتعاضه - كما هو واضح في البيت الثاني- أن لا يعرف الناس قدر الرجل الكريم, فيؤذيه ويترفّع عليه من هو أقل منه شأناً.. وأعتب كثيراً لإنسان لا تغضبه أو تثيره مفارقة ظالمة كهذه. والشاعر يحب ويحترم كل إنسان مهذّب الأخلاق, حسن الطوية ويُكبر فيه ذلك حتى لو كان خصماً له وهذا دليل على سماحة نفس الشاعر ونُبل أخلاقه.. وتقديسه للعلاقات الإنسانية. يبدو أن الشاعر قد تربّى على السماحة والنُبل وكل ذلك جعله بمنأى عن السقوط في وحل الحقد والكراهية الذي يتخبّط فيه كثير من ضعاف النفوس , فقلبه يقطر رقة وطيبة وهو بطبيعته محب للتسامح والصفاء والحب الصافي, النقي في علاقاته الإنسانية المختلفة.. فهو يكره أن يؤذي أحداً من الناس.. فهذا فعل قبيح لا يجيد شاعرنا الرائع التفنّن فيه.. فالأذية كما يقول ليست من طباع الناس الأسوياء بل هي من طبائع العقارب التي تحمل السُم القاتل.. بإمكاني أن أرد إساءة أيّ إنسان ويكفي المسيء حسرته الدائمة التي تلسعه ليل نهار بسياط الندم وتجعله يردّد في سرّه وجهره: (يا ليتني لم أذنب ) ويقول في مقطع آخر من هذه القصيدة: إني إذا نزل البلاءُ بصاحبي دفعت عنه بناجذي وبمخلبي وشددتُ ساعده الضعيف بساعدي وسترتُ منكبه العريّ بمنكبي وأرى مساوئه كأنّي لا أرى وأرى محاسنه وإنْ لم تُكتبِ وألومُ نفسي قبله إنْ أخطأتْ وإذا أساء إليّ لم أتعتّبِ متقرّبٌ من صاحبي فإذا مشتْ في عطفهِ الغلواء لمْ أتقرّبِ أنا من ضميري ساكنٌ في معقل أنا من خِلالي سائرٌ في موكبِ فإذا رآني ذو الغباوة دونه فكما ترى في الماء ظلّ الكوكبِ يوضح الشاعر في المقطع السابق خلاله وصفاته الحميدة التي يتحلّى بها والتي هي رصيده الذي يعتز به ويفاخر به ومعه الحق في ذلك فليس هناك كنز ثمين أعظم من الأخلاق الطيبة التي يمتلكها الإنسان وتبدو جلية واضحة في تعامله الإنساني في المجتمع.. الأبيات السابقة. كما سيلحظ القارئ - تكشف أكثر من جانب مشرق في أعماق نفس شاعرنا العظيم .. فهذه الصفات الجميلة هي التي تعطي فرصة للمقارنة والمفاضلة بينه وبين غيره من الناس ممن يُضمر في أعماقه الحقد والضغينة ومن يقطر قلبه سواداً وقتامة.. فالشاعر في الأبيات السابقة يصف لنا حاله وكيف يظهر ودّه وحبه وعطفه وحنانه لصديق له بلاه القدر بنازلة أو مصيبة .. يصف لنا مشاعره حين يضعه القدر في وضع أفضل من صديق له فإنه لا يستغل هذا الظرف الإنساني البائس لصديقه للتشفّي به.. أو تأجيج حالة البؤس لديه.. كما يلاقي هو ذلك من بعض أصدقائه وأنه ليس لئيماً بل يتدفق كرماً وعطفاً ومؤازرة حينما تشتد الصعاب والملمّات بصديق له.. بل إنها فرصة ذهبية لو أراد استغلالها استغلالاً سيئاً للتشفّي بأصدقائه التي تحل بهم النوازل والنوائب .. فكيف يبدو الشاعر في هذه الظروف الإنسانية الحرجة؟ فيقول: إذا نزل البلاء بصاحبي كنت أشد من يقترب منه ويدافع عنه ويتحسس همومه وألمه النفسي والجسدي.. وقد استخدم للتعبير عن هذا الموقف المساند والشجاع صورة بلاغية وتعبيرية قوية تدل على الاستماتة والوقوف بحزم وثبات وصدق وهي (دافعت عنه بناجذي وبمخلبي) صورة تعبيرية في غاية الجمال والدقة. فالصورة في هذه الحالة تعبّر عن المؤازرة والمشاركة التي تعدّت المشاعر والعواطف ووصلت إلى قمة الاندماج حين عبّر بالمحسوسات كالأنياب والضروس والأظافر التي ربما قصد بها المخالب .. وتتوالى الصور البلاغية قوة وجمالاً في الأبيات التي تلي البيت الأول ..(شددت ساعده بساعدي) كناية عن صدق الشاعر وإخلاصه وحسن نيته في الوقوف إلى جانب صديقه وهو في محنته .. ومن شدة حبه لصديقه وإعزازه له بات يرى سلوكه سلوكاً حسناً ويغض الطرف عن سيئاته وأخطائه حتى لو كانت ظاهرة وبادية للعيان ولكن من حُبّه الشديد لصديقه يلقي على أخطائه رداء قاتماً حتى لا يراها .. إنه وفاء نادر قلّ أن يوجد في مجتمع هذه الأيام التي طغت فيها الماديات والمصالح على القيم الإنسانية النبيلة.. يعتزُّ فيها كثيراً بما يمتلك من أخلاق عالية كالسماحة والنُبل والكرم والإيثار والتواضع وغيرها، وهو واثق في نفسه كثيراً لأنه يحمل قيماً إنسانية صادقة لا زيف فيها ولا تزلّف ولا رياء أو محاباة.. فهي نابعة من أعماق نفسه بدون كلفة أو تصنُّع .. وهكذا معظم أو كل قصائد شاعر المهجر الأكبر إيليا أبي ماضي تحمل مضامين رفيعة تنأى عن الترف الشعري الذي يستهلكه كثير من الشعراء..