قصيدة إيليا أبي ماضي التي سنرحل في أعماقها هذه المرة تتحدث عن شجرة (التينة) والتي سنرى تفاصيلها عند مرورنا على أبياتها وقد عوّدنا إيليا أبو ماضي صاحب الخيال الخصب والعقل المبتكر حين يريد تفصيل حالة أو صفة إنسانية فإنه يختار من الطبيعة الإنسانية ومن الكون مثالاً جميلاً يمكن إسقاطه بعد ذلك على الإنسان.. فبدلاً من ان يتحدّث عن صفة إنسانية هكذا مباشرة فإن ذلك لا يُظهر براعة الشاعر الحقيقية في صياغة المعاني والتقاط الصور, فذلك لا يتطلّب منه جهداً كبيراً, لذلك يلجأ إلى اختيار عنصر مساوٍ للإنسان ويجعله موضوعه الشعري والفلسفي الذي يريد , وهنا تكمن عظمة الشاعر وعبقريته.. لنبدأ الآن بإيراد مقطع من القصيدة لنرى ماهي القضية التي عالجها الشاعر من خلال القصيدة.. يقول مقطع القصيدة : وتينةٌ غضة الأفنان باسقةٌ قالت لأترابها والصيفُ يحتضرُ بئس القضاء الذي في الأرض أوجدني عندي الجمالُ وغيري عنده النظرُ لأحبسنّ على نفسي عوارفها فلا يبينُ لها في غيرها أثرُ اختار الشجر ليصوّر من خلاله صفة إنسانية تبرز بشكلها القبيح عند بعض الناس الذين حباهم الله سبحانه وتعالى بسطةً في العلم أو المال أو الجمال أو أية نعمة أخرى, فكان ينبغي على من حباه الله هذه النعم ان يقابلها بالشكر والعرفان والامتنان لله سبحانه وتعالى الذي منحه قدراً من النعمة أولاً وثانياً عليه أن يستغل هذه النعمة الاستغلال الأمثل ليكون فرداً سوياً في المجتمع.. فالعلم مثلاً يجب على صاحبه ان يوصله إلى من يستحقه ويعمل جاهداً على إضاءة عقول الناس بالعلوم والمعارف النافعة التي تسهم في خلق وعي ناضج ينفع الناس والمجتمع وينطبق هذا أيضاً على من حباه الله المال الوافر , وهناك كثير من النعم التي ينعم بها البشر ولكنّ الكثيرين منهم لا يُحسنون استغلالها, فيحرصون ويشحّون ويؤثرون أنفسهم في أوقات تحتاج إلى الجود والتضحية والتخلي عن الأنانية.. حال هؤلاء الناس يشبه حال التينة التي منحها الله الطراوة والليونة ورقّة الغصون فبدت جميلة , مكسوة بالفتنة والنضارة ولكنها مع كل ذلك كانت مفرطة في الأنانية وحبّ الذات لدرجة تمنت فيها لو لم توجد على الأرض، لأنها كما تزعم جميلة أخّاذه' ولكن ما فائدة كل هذا الجمال الذي تتمتع به وغيرها من يتلذّذ به ويستمتع به كما أنها تمنّت لو أن لديها وسيلة تستطيع بها أن تخفي جمالها وتغيب عن الأعين حتى لا ترى منها شيئاً.. القرّاء الأعزاء :ألا ترون ان ما تضمره هذه الشجرة هو نفسه ما نجده عند كثير من الناس على أكثر من صعيد؟.. دعونا نتابع معاً لنرى كيف تجلّت الأنانية والقُبح عند هذه الشجرة وكيف كانت نهايتها : كم ذا أكّلفُ نفسي فوق طاقتها وليس لي بل لغيري الفيءُ والثمرُ لذي الجناح وذي الأظفار بيْ وطرٌ وليس في العيش ليْ فيما أرى وطرُ إنّي مفصلةٌ ظلّي على جسدي فلا يكون به طولٌ ولا قصرُ ولستُ مثمرة إلا على ثقةٍ أنْ ليس يطرقني طيرٌ ولا بشرُ يمكن تلخيص المقطع بالقول على لسان الشجرة: إنني أبذل جهداً كبيراً وأتحمّل المشاق على اختلافها وأحرص على أن أمدّ ظلي بشكل متزن ومستقيم, لا يطول ولا يقصر, بل يأخذ شكلاً سوياً ولكن ما فائدة كل ذلك وأنا عرضة للطيور والعصافير التي تأخذ مني المتعة التي تريدها وتذهب, الكل يمنح نفسه المتعة مني أنا هكذا يذهب عيشي سدى, أحرص على أن أثمر دون ان تطال يد العابثين هذا الثمر ولكن لا فائدة.. هذا ما ترويه التينة في المقطع السابق أما نحن فنقول : ان التينة لم تدرك ان حياة الكائنات بأنواعها قائمة على هذا الأساس, فتبادل المنفعة قاسم مشترك بين جميع الكائنات والموجودات وعلى أساس تبادل المنافع تقوم الحياة، إذ لوكل كائن بخل بما عنده لتقطّعت الصلة بين المخلوقات وأصابها ما يشبه الخلل فالحياة لا تستقيم إلا بالأخذ والعطاء, فالحياة في ظل تبادل المنافع ونبذ الأنانية وحب الذات – تحت أي ذرائع أو مصالح - لاشك سيسودها التوازن والتناغم الذي يتيح فرص العيش لكل الكائنات.. دعونا نتابع المقطع الأخير من هذه القصيدة لنرى ماحلّ بالتينة الحمقاء جرّاء إفراطها في أنانيتها وحبّها لذاتها.. عاد الربيع إلى الدنيا بموكبهِ فازيّنت واكتستْ بالسُندس الشجرُ وظلّت التينةُ الحمقاء عاريةً كأنّها وتدٌ في الأرض أو حجرُ ولم يُطقْ صاحبُ البستان رؤيتها فاجتثّها فهوتْ في النار تستعرُ من ليس يسخو بما تسخو الحياة به فإنهُ أحمقٌ بالحرص ينتحرُ نصل مع الشاعر إلى خلاصة طبيعية, فمع عودة الربيع الذي يبث في الشجر والثمر والزرع الخضرة والطراوة والحياة والإيناع ومع ذلك لم يكن للتينة نصيب من ذلك لأنها في أعماقها مسمومة بالحرص الزائد والشحة المفرطة, لذا فقد تساقطت أوراقها وصوّحت فأصبحت كتمثالٍ عارٍ تصفّر في وجهه الرياح أو كحجر ملقى في الطريق تدوسه الأقدام في الذهاب والإياب ولأنها الآن لا تبدو إلا قبيحة ,فلم يطق صاحب البستان رؤيتها وهي ناحلة جرداء, فاقتلعها ورماها.. هكذا تكون نهاية كل من يحرص حرصاً يضرُّ بالآخرين ولا يفيدهم .. فلماذا لا نعوِّد أنفسنا على الجمال وحب الخير والإيثار والتعاون لكي تسود بيننا الألفة والمحبة والانسجام؟ لماذا يصرُّ بعض الناس على ان يكونوا حمقى ومغفلين كالتينة التي استكثرت على العين رؤيتها وهي خضراء جميلة .. ولعل بيت القصيد الذي يلخصُّ كل ما ذكرناه هو : من ليس يسخو بما تسخو الحياة به فإنه أحمقٌ بالحرص ينتحر. [email protected]