كلنا تابع السيل الجارف الذي اجتاح المملكة العربية السعودية منذ فترة بسيطة ومات على أثره عدد من أبناء المملكة، وعرف الناس يومها أن بعض البنى التحتية من شوارعها تم إنجازها بطرق لم تراع الأمانة فيها الأمر الذي سبب الأضرار التي تحدث عنها الإعلام السعودي على مرأى ومسمع من العالم وليس موضوعنا يكمن هناك لأن حديثنا من عنوانه نتحدث فيه عن الإيجابية وروح المبادرة على ضوء ما حدث في مثل هذا اليوم. سمعنا ضمن ما وصلنا من مشاهد صاحبت السيل الذي أودى ببعض الوفيات غرقا كيف أن بعض الناس تحملوا كثيرا من المسئولية وأصبحوا أنفسهم ضمن فرق الإنقاذ على الرغم من عدم تلقيهم دورات أو معارف في فنون الإقاذ لكنهم وبمسؤولية قاموا بالمخاطرة بأنفسهم فخاطروا بأنفسهم لما رأوا أن الوضع يستدعي أن يتحمل كل واحد مسئوليته الفردية أمام أبناء بلده الذين يغتالهم السيل واحدا تلو الآخر، وأمام هذه المواقف المسئولة لن نستطيع إلا أن نسلم بأن هناك من التضحيات ما توصف بالرائعة فنجد أنفسنا مدينين لمن يضحي من أجلنا، وحين يضرب الناس أمثلة كثيرة في التضحية والبذل، تراهم يبذلون ذلك من أجل أغراض كثيرة، وأهداف شتى، بعضها هابط كأدنى درجات الهبوط، وبعضها سام سمو قمم الجبال. من المواقف الإيجابية التي تم رصدها في خضم مأساة إخواننا في السعودية بسبب السيل الذي ضربها مؤخرا، مشهد لرجل ليس من أبناء المملكة وإن كان مسلما يعطي بلا مقابل، وهو ممن يرحلون بلا أضواء ولا ضجيج.!! إنه البطل الباكستاني فرمان خان -32 عاماً- طلبن بناته الثلاث الصغيرات زبيدة (7 سنوات)، ومديحة (6 سنوات) وجريرة (4 سنوات)، إلقاء نظرة الوداع الأخيرة عليه في موطنه، ومن حقه علينا ألا تسقط تضحيته من الذاكرة وأن نجازي إحسانه إلى الذين قدر الله لهم النجاة على يديه، بإحساننا إلى أهله وأن نخلفه فيهم بخير. فرمان كان لا يجيد العربية إلا بمشقة متلعثماً في كثير من حروفها وكلماتها، إلا إنه كان يجيد لغة الشهامة بفصاحة مطلقة قد يعجز عنها الكثير من أهل الضاد الذين تركوا الغرقى يكابدون مرارة السيل، وانهمكوا إما في سلب الغنائم من السيارات التي هامت مع السيل، أو في تصوير مشاهد الدمار للحصول على صور للذكرى النادرة، بينما اختاره الله دون غيره لحكمة يعلمها سبحانه وأحيا به 14 نفساً دفعة واحدة، وكأنما أحيا الناس جميعاً أربع عشرة مرة، حين تحدى الطوفان وانتشل هؤلاء من الغرق وخلصهم من قبضة السيل العرم. لم ينتظر فرمان قرارا من مسئول ولا حضورا إعلاميا ولم يسع إلى موسوعة جينز ليحطم رقم قياسي في الإنقاذ، بل استخدم دواليب سيارات وحبلاً وألواحاً خشبية لإنقاذ 14 نفساً تستغيث، وحينما همّ بإخراج الشخص ال15 جرفه السيل محتضناً الحبل الذي أنقذ به أرواح غيره. أربع عشر مرة يربط الحجارة في طرف الحبال ويرميها للمستغيثين، وتضربه أمواج السيل وتحاول أن تجرفه، ولكنه يتشبث فيوفقه الله في انتشالهم واحدا بعد الآخر، فيزمجر السيل وتتلاطم أمواجه في وجه فرمان، أربع عشرة مرة تهزم إرادة فرمان إرادة السيل، فيبيت الأخير النية ويتحين الفرصة حين يختل توازنه وهو ينقذ الضحية الخامس عشر وفي طرفة عين ينقض عليه السيل ويجرفه إلى حيث ينال ثوابه في الآخرة إن شاء الله. لم يعبأ السيل بأن الشهيد بأذن الله حاصل على شهادة جامعية وشهادة في فن الكاراتيه ولديه العديد من الشهادات في الأعمال التطوعية في باكستان، وقد راقبه وهو يخرج من منزله في الكيلو 13 محاولاً إيجاد ألواح خشبية كان يمدها ليتشبث بها الغرقى، و إطارات سيارات وحتى حبل غير مبال بغدرة السيل، أو وجود شحنات كهربائية محتملة بين أمواجه. نتذكر اليوم أما هذه المواقف البطولية التي تشنف الآذان عند سماعها كيف آتت بذرة التضحية التي أرسالها الإسلام في نفوس أتباعه من عرب وعجم أكلها في محنة هذا السيل، وأنبتت أمةَ الإسلام الباسقة -ولا تزال – أمثال البطل الشهيد الباكستاني فرمان خان، الذي ضحى بنفسه التي بين جنبيه في سبيل نجاة أنفس لا يعرفها ولم يجتمع معهم بنسب ولا مصلحة دنيوية ولكنها الشهامة والرجولة ، لقد قدم الغالي لينال الأغلى، وباع النفيس ليشتري الأنفس في الجنة. وإن كان السيل قد أسدل الستار على حياة بطلنا الشهيد، فإنه لم ولن يسدل الستار على ذكراه التي يجب أن تمتد لتشمل الإحسان إلى بنياته الثلاث في حقهن ليس فقط بمليون ريال أسوة بشهداء المملكة، بل لا نجاوز الحق إذ نقول حقهن في أربعة عشر مليون ريال، أنقذ والدهن حياة أصحابها من الغرق. ومشهد آخر من مشاهد الإيجابية وروح المبادرة، فعلى غير ما تعارفنا عليه أن يأتيا لشعراء يمدحون في هذا الأمير وغيره، ويشيدون بمنجزاته التي تملأ طول البلاد وعرضها شاعر، أما هذا السيل الجارف الذي اغتال أنفسا ما كانت لتغتال لولا تقصير من قاموا بإنشاء الطرق، ومعابر السيل بطرق تتنافى مع المعايير والمقاييس.