كان يجلس كعادته يمضغ القات ويتربع على “دكة الحافة”، يرمق الناس بنظرة تحية في مشهد يومي يتكرر... العيون تلقي السلام، الفم يمضغ القات بلا توقف، الذهن يسافر في دهاليز خفية.... إنها تقاليد يمنية خالصة.كان ينتظرها تعود من المدرسة في عباءتها السوداء الطويلة التي تخالطُ التراب فيتهيأ لك أنها مزروعة فيه، جسدها النائم في كهف أسود لم يستطع أن يخفي كنوزه، تفاحتا آدم تخرجان من الكهف دون استئذان، إنهما ثمرتان ترفضان الترويض ورغم كل كتب التاريخ وكل ابتهالات الأكف وحكايات الرواة مازالت التفاحة ثمرة الرجال الأشهر وعنوان النساء الأشهى. قوامها الممشوق، وجهها، عيناها، إنها شمس تشرق على “حافة الدبعي” لا يحجبها غير سياج أسود يزيدها جمالاً، عنقها المرمري، شفتاها العذبة، خاصرتها التي تختنق من فيض كرمها، قصص تحمل ألف نكهة للرغبة. لكنها تسير بسرعة تتبعها حسرات عيون قايد، الذي لا يقوى على مجاراتها أو مغازلتها، فهو عادة ما يكتفي بما تأخذه عيونه النهمة من جمال صفية الشهي ، فهو فقير مسن، شرب الشيب شعره وتربعت خطوطه طولاً وعرضاً على وجهه، أكلت السنون شبابه، بينما صفية مازالت عوداً أخضر تخطر بدلال السابعة عشرة. كان في حكم عمها، ولو تزوج قبل ولادتها لكان أولاده قد سبقوا خطواتها بسنوات، ولكنه أحبها من بين كل بنات حواء. أحب ضحكتها التي يسمعها من جدار بيتها الملاصق بحب لبيته، يشعر بها عندما تبكي تنزل دموعها جمراً على قلبه وهو العاشق، كان يشعر بها، يشعر بتعبها، ألمها، ويستلذ بقهقهاتها، يحس وقع أقدامها عندما ترقص، يتابعها كظلها لا يفصلها عنه غير جدار، (يقاطع قايد خيالي معاتباً: ما أهمية هذا الجدار إذا كنت أحياها، أعيش تفاصيلها). كان يعلم أيضا أنها قد نضجت... استدارت ...تدّلت، يعلم أنه آخر من يمكن أن يستمتع بجدائل الفل على شعرها، بدرعها الحريري، بالذهب الذي يشبه لون وجهها، بالحب الذي يشع من شفتيها، «كم أعجز عن وصف هذا الحب» يكتفي بالقليل منها ويمضغها مع القات ليل نهار، عَمّ قايد يعلم أن كل شيء سيذهب يوم ترحل، وها هو قد جاء اليوم الموعود، زفافها، ماذا سيفعل؟ ، كيف سيعيش في “حافة الدبعي” بدون أنفاسها. إنها تغتسل الآن وتضع الكحل، أحمر الشفاه، تلبس الذهب، ترسم النساء الحناء على جسدها البض، تضحك، ترقص، هي الآن تموت من ذاكرتي، تحيا في قلب وجسد رجل آخر. إنها التاسعة التي يسافر جمالها في بحر غيري ..... يبتسم متذكراً أن “حافة الدبعي” ولادة، مخزونها لا ينفذ..لا ينفذ ..لا ينفذ.