عبدالله العليمي عضو مجلس القيادة يستقبل سفراء الاتحاد الأوروبي لدى بلادنا    هل سمعتم بالجامعة الاسلامية في تل أبيب؟    لأول مرة منذ مارس.. بريطانيا والولايات المتحدة تنفذان غارات مشتركة على اليمن    وكالة: باكستان تستنفر قواتها البرية والبحرية تحسبا لتصعيد هندي    هدوء حذر في جرمانا السورية بعد التوصل لاتفاق بين الاهالي والسلطة    الريال يخطط للتعاقد مع مدرب مؤقت خلال مونديال الأندية    جاذبية المعدن الأصفر تخفُت مع انحسار التوترات التجارية    الوزير الزعوري يهنئ العمال بمناسبة عيدهم العالمي الأول من مايو    حروب الحوثيين كضرورة للبقاء في مجتمع يرفضهم    عن الصور والناس    أزمة الكهرباء تتفاقم في محافظات الجنوب ووعود الحكومة تبخرت    إغماءات وضيق تنفُّس بين الجماهير بعد مواجهة "الأهلي والهلال"    النصر السعودي و كاواساكي الياباني في نصف نهائي دوري أبطال آسيا    الأهلي السعودي يقصي مواطنه الهلال من الآسيوية.. ويعبر للنهائي الحلم    البيض: اليمن مقبل على مفترق طرق وتحولات تعيد تشكيل الواقع    اعتقال موظفين بشركة النفط بصنعاء وناشطون يحذرون من اغلاق ملف البنزين المغشوش    غريم الشعب اليمني    الوجه الحقيقي للسلطة: ضعف الخدمات تجويع ممنهج وصمت مريب    درع الوطن اليمنية: معسكرات تجارية أم مؤسسة عسكرية    مثلما انتهت الوحدة: انتهت الشراكة بالخيانة    رسالة إلى قيادة الانتقالي: الى متى ونحن نكركر جمل؟!    جازم العريقي .. قدوة ومثال    دعوتا السامعي والديلمي للمصالحة والحوار صرخة اولى في مسار السلام    العقيق اليماني ارث ثقافي يتحدى الزمن    إب.. مليشيا الحوثي تتلاعب بمخصصات مشروع ممول من الاتحاد الأوروبي    مليشيا الحوثي تواصل احتجاز سفن وبحارة في ميناء رأس عيسى والحكومة تدين    معسرون خارج اهتمامات الزكاة    منظمة العفو الدولية: إسرائيل ترتكب جريمة إبادة جماعية على الهواء مباشرة في غزة    تراجع أسعار النفط الى 65.61 دولار للبرميل    الدكتوراه للباحث همدان محسن من جامعة "سوامي" الهندية    نهاية حقبته مع الريال.. تقارير تكشف عن اتفاق بين أنشيلوتي والاتحاد البرازيلي    الاحتلال يواصل استهداف خيام النازحين وأوضاع خطيرة داخل مستشفيات غزة    الصحة العالمية:تسجيل27,517 إصابة و260 وفاة بالحصبة في اليمن خلال العام الماضي    الحكومة تعبث ب 600 مليون دولار على كهرباء تعمل ل 6 ساعات في اليوم    "كاك بنك" وعالم الأعمال يوقعان مذكرة تفاهم لتأسيس صندوق استثماري لدعم الشركات الناشئة    لوحة "الركام"، بين الصمت والأنقاض: الفنان الأمريكي براين كارلسون يرسم خذلان العالم لفلسطين    اتحاد كرة القدم يعين النفيعي مدربا لمنتخب الشباب والسنيني للأولمبي    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    النقابة تدين مقتل المخرج مصعب الحطامي وتجدد مطالبتها بالتحقيق في جرائم قتل الصحفيين    رئيس كاك بنك يعزي وكيل وزارة المالية وعضو مجلس إدارة البنك الأستاذ ناجي جابر في وفاة والدته    اتحاد نقابات الجنوب يطالب بإسقاط الحكومة بشكل فوري    مئات الإصابات وأضرار واسعة جراء انفجار كبير في ميناء بجنوب إيران    برشلونة يفوز بالكلاسيكو الاسباني ويحافظ على صدارة الاكثر تتويجا    الأزمة القيادية.. عندما يصبح الماضي عائقاً أمام المستقبل    أطباء بلا حدود تعلق خدماتها في مستشفى بعمران بعد تعرض طاقمها لتهديدات حوثية    لتحرير صنعاء.. ليتقدم الصفوف أبناء مسئولي الرئاسة والمحافظين والوزراء وأصحاب رواتب الدولار    غضب عارم بعد خروج الأهلي المصري من بطولة أفريقيا    علامات مبكرة لفقدان السمع: لا تتجاهلها!    حضرموت اليوم قالت كلمتها لمن في عينيه قذى    القلة الصامدة و الكثرة الغثاء !    عصابات حوثية تمتهن المتاجرة بالآثار تعتدي على موقع أثري في إب    حضرموت والناقة.! "قصيدة "    حضرموت شجرة عملاقة مازالت تنتج ثمارها الطيبة    الأوقاف تحذر المنشآت المعتمدة في اليمن من عمليات التفويج غير المرخصة    ازدحام خانق في منفذ الوديعة وتعطيل السفر يومي 20 و21 أبريل    يا أئمة المساجد.. لا تبيعوا منابركم!    دور الشباب في صناعة التغيير وبناء المجتمعات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



امرأة
نشر في الجنوب ميديا يوم 23 - 09 - 2012


من يكتب النعي المقبل؟
بالتأكيد رجل آخر .
كما في شجر الحزن، كما في سراب استدرج جدي إلى غواياته، كما في جنون حوريات البحر، كما في تراب العيون العسلية المائلة إلى اخضرار مشاغب، كما في انطفاءات نيازك فقدت ذاكرتها، كما في حليب الأمهات الثكالى، كما في لهاث العمل اليومي، كما في الأراجيح، كما في ثريات الكنائس،كما في زجاج الروح، كما في ملامح قراصنة المحو، كما في صورة البحر المتدارك، كما في كستناء شعرك، كما في قصة شعرك الطفولية، كما في انتباهة عينيك الجنيتين، كما
كما أنت
وكما خلقك الله كأحسن ما تكونين،
فجأة تطلعين، وفجأة تكتبين اسمك من جديد على الجزء المجروح من قلبي، ذلك الجزء الذي وضعني منذ السنين الأخيرة المعتمة بذاتها، المضيئة بك، في حيرة اليقين أمام الشك، فلم أعد أعرف كيف أعيش ولا كيف أموت .
هذا الوقت الضيق هو وقتك، ولا بد أنه اتسع عندما لامسته برماد أحاسيسك المتقدة، وهنا، الآن، تزدحم قصائد الشعر على أرصفة الشوارع، وأبواب الحدائق، ومواعيد العشاق، وأقسام الحوادث في الصحف والمستشفيات . تزدحم قصائد الشعر حتى في ثلاجات الموتى وصفحات الوفيات .
كما في حركة الأفلاك، كما في التقاويم المعلقة في الزوايا بخيوط العنكبوت .
فجأة، يواجهني وجهك كأنك مطر الحكاية . يأخذني إلى الطمأنينة وراحة البال . يأخذني بعيداً بعيداً، ليعيدني إلى نفسي ويفتح لي أسرار الطريق .
حين يشد وتر القوس يذهب السهم أبعد . يصل إلى هدفه، أو يحضر في جسد الغياب وكأنه الزمان، وحين يشد وتر الآلة الموسيقية يستقيم الوزن إلى درجة عدم التوازن، ويدخل النظام كله في الفوضى كلها . لدى الإنسان الأمر يختلف، فأوتار الصوت في حالة الشد تؤدي إلى الحشرجة، أما إذا اعتبرنا الأعصاب أوتاراً فإن كثرة العزف عليها تقود إلى التوتر . هنا يقف الاشتقاق أمامنا وكأنه مرآة من الفضح والاعتراف: لا وقت للنسيان، وعلينا أن نتعب قليلاً، وربما كثيراً، حتى نشعر بحركة قلوبنا .
آه يا سهم القلب! إنك هناك، هنا، منذ طفولة بعيدة غابرة، مرسوم في جذع نخلة، إلى جانب قلبين من وضوح وشوق، من عزم ورحيل، فأينك الآن؟ أين أنت، وهل أنت إلا في الضلوع، يا سهماً كبر معنا كلما كبرنا، ويكبر معنا كلما حملنا على ظهورنا سنين الحب والتعب؟ هل أنت إلا هنا، هناك معنا، بين كل وتر وتوتر، وبين كل احتراف وانحراف؟
لقد رحلت نخيل الطفولة وجدرانها . غادرتنا إلى ذلك الأبد الأول النهائي، اللانهائي، الجديد، الطازج، وتركتنا وحدنا مع الانتظار والرسائل، وحدنا بعيداً عن جرأة لا نمتلكها وجنون لا نستحقه .
بقينا وحدنا نكتب الدمع أو يكتبنا . بقينا وحدنا نقرأ ما لا يقرأ ونتناول ما لا يتناول، كل منا فأر تجربة حبه أو نحبه .
وليس أصعب من حبي لك إلا كتابتي فيك . ليس أسهل، منذ اكتشفت أن غصونك قصائد على البحر الخفيف .
لم يبق من الشعر إلا أنت .
لم يبق من العمر إلا أنت .
ولقد رأيتك من قبل، في مدينة قديمة تطل على البحر وأحببتك .
حتى هذه العبارة معادة .
هل تذكرين لحظة قلتها لك، ذلك الصيف، فارتفعت درجة الحرارة في نشرة الأرصاد الجوية، وفي الجغرافيا والجيولوجيا، وفي دورتنا الدموية، وترمومتر الجيران؟
آه يا امرأة لها موسيقا الصيف .
بداية الكلام: أحبك . لم أقل لك هذه الكلمة مكتوبة، وبهذا الشكل المدهش . أعرف كما أعرف مسافة الحنين بيننا، وأعرف أن طريقي صعب، وأنني رجل لا أحتمل، ولكنني أحبك .
لم يحن لي أن أستريح بعد . ورائي فضاء من الحزن وأمامي سماء زرقاء من الموت . ها أنا أعود إليك مع العلم أنني، أساساً، لم أغادر . ها أنني أبكي بأعلى صوت وأفرح حتى الثمالة . الحب، في تقديري وتقدير الشجر والمطر، قضية سياسية . لذلك أشرح موقفي السياسي، وبالتفاصيل المملة، كلما أحببتك .
وأريد أن أعود إلى قواعدي سالماً .
ها عدت . ها لم أعد .
ها ضعت بعد أن ضيعت المرافئ، والمرآب، فكيف لي أن استنشقك، في الصباح كما أستنشق رائحة الشمس؟ كيف لي أن أغلق دفاتري وعيوني عليك كلما تسلل إلى أصابعي ليل؟ كيف لي أن أبقى عندما تسافرين؟
أنت هناك وأنا هنا . العالم يا سيدتي مقسوم نصفين، فكيف أحفظ التوازن بين خطواتي والأرض؟ سأحاول .
وهل حياتي معك، من أولها إلى آخرها، إلا محاولة لها طعم النجاح والفشل والرضا والغضب والبعد والقرب والوعد والاكتراث واللامبالاة والحوارات إليها التي لا تنتهي، ولا تفيد، ولا تؤدي إلى نتيجة؟
ويقولون إن كتابتي غامضة .
وتقولين إنني غامض .
فهل فاجأك، اليوم، هذا الوضوح المخيف؟
سوف أتقاسم معك غدك وبعد غدك حتى ننسج معاً، بالخيط والإبرة، مستقبلنا مهما كان شحيحاً ضوء النهار .
وربما أتحول قريباً من الشعر إلى الفن التشكيلي، سوف أرسمك على الجدران والسقوف، والشوارع والأرصفة والحكايات والأنهار والتنهدات، سوف أرسمك على أشياء كثيرة .
فأنا الوحيد الواقف في الصحراء كرملة مكسورة، أنا الوحيد الشاهق في الفضاء كالفضاء، من أين لي أن أخترع حرفاً جديداً وأحمله ما لا تحتمل الأبجديات واللغات؟ من أين لي أن أرسمك على الورق بشكل مبتكر، تكونين فيه أنت أنت بكل عطرك الأخاذ، وسحرك البريء، وسحرك غير البريء، وضحكاتك الحزينة، وأيامك الحلوة كلثغة نهر صغير؟
أحبك .
ومرة، قلت الكلمة، فسمعني الليل، فأصبح أكثر مودة وألفة .
كان الليل، تلك الليلة، جميلاً ومعتماً، كما لو كان خطوة شمس .
وكنت وحدي .
فكرت . ترى لماذا أحبك؟ ما هي الأسباب، وما هي النتائج؟ وهل لدي القدرة على الاستمرار في حب جارف كهذا؟ حب يملأ أضلعي وحياتي، ويحولني أمام مرايا اليقين إلى أسطورة أو ندم؟ هل لدي القدرة لألقاك كل يوم؟ هل تستطيع ذاكرتي أن تنسى أصلها الشمعي، فتتماسك عندما تكون أمام الخوف الأزرق في عينيك البنيتين؟ هل تسطيع ذاكرتي أن تنسى؟
سيدتي: أحاول، الآن، أن ألمس شيئاً من معناك، لعلني أستطيع، ولو قليلاً، أن أفك رموز قصائدي التي كتبتها فيك .
أحاول أن أكتبك من جديد، فترفضني أقلامي، وتتكسر زجاجة حبري بين أصابعي .
أن أكتبك فكرة سخيفة .
وأن أقرأك فكرة أسخف .
فهلا بادرت إلى قراءتي حرفاً حرفاً، وإلى كتابتي غصة غصة هلا بادرت إلى إيقاظي من موتي اللذيذ؟ هل ابتعدت عني مراحل لأقترب منك مراحل؟
لكنني، هذا الصباح الممطر كرائحة الغيم، اشتقت إليك . كانت حبات المطر تدق على نافذتي . على نافذة القلب .
ولم يكن قلبي ميتاً .
وبعينيّ هاتين اللتين سيأكلهما الدود، رأيت قلبي صامداً في حركته الأزلية، نحو كونه الأزلي بين شلالات الدم .
لم يكن قلبي ميتاً .
وبعينيّ هاتين اللتين سيأكلهما الدود، رأيت قلبي حياً .
كان الدم يتدفق حواليه كما يتدفق السأم أو الضجيج .
وكانت الساعة خارج الوقت، تشير إلى ثلاثة: أنت والمطر والصباح .
وكنت وحدي .
قلت لك: أحبك .
وكنت وحدي .
كانت خطواتك المجنونة معي، وكنت وحدي .
كان وجهك الرائع معي .
وكان جسدك الشاعر يدعوني إلى قصائده المستحيلة، ويزين لي حتفي .
وبعينيّ هاتين اللتين سيأكلهما الدود، رأيت قلبي يقفز نحوك .
بعينيّ هاتين اللتين أكلهما الدود .
ذلك أول الوعي . لا يكفي أن تكون السماء صافية حتى نكتشف اللون الأزرق، ولا يكفي أن ندمع حتى نعرف شكل البكاء، ولا يكفي أن نتنفس حتى نحس بالهواء النقي الذي يملأ العالم من حولنا . الهواء النقي الذي في الوقت نفسه، لا يجرح الصدر . ليس المهم أن نلامس سطح الأشياء . المهم أن ندخل في الأشياء . أن تحول الجمادات إلى كائنات ناطقة، وأن نتحاور مع المطر والشجر والحجر، في مستوى خلاق من اللغة والإدراك والمحاولة . نحن، بداية ونهاية، نشغل هذا الحيز أو ذاك من الفراغ، فهل نكون فراغاً آخر، أم نكون الابتلاء المبدع، والخطوات الصغيرة، لكن الواثقة، على الأرض؟
هكذا قال الرجل للمرأة حتى يقترب من المرأة ومن إنسانيته، وهكذا قالت المرأة للرجل، حتى تكون معه في رحلة البحث والحياة، معه جنباً إلى جنب، في علاقة من الصداقة والندية، حتى إذا كان بينهما اختلاف في الفكر أو المجتمع أو السياسة أو الثقافة، كان الاختلاف الذي يشعر كلاً منهما بكينونته، وبالتالي، بكينونة الآخر .
وأنا أشعر بك أكثر . أحس بك أكثر عندما تكونين مختلفة . عندما لا تكونين نسخة كربونية من أحد، ولا تشبهين أحداً .
هذا أول الوعي .
وفي طريق الوعي أشواك ومسامير . ورود وأنهار، جبال وسفوح ومنحدرات ووديان . في طريق الوعي، أنا وأنت يا صديقتي، نحاول أن ننحت لنا في الفراغ، مكاناً غير كل الأماكن، وزماناً غير أزمنة الناس .
أنت في مواجهتي . أنا والزمان .
وأنا لست حائراً، ولا أسهر الليل من كثرة الشوق، وإذا حدث وسهرت فلمتابعة وصلة من الغناء الهابط أو الرقص الشرقي البديع .
هل أحار وأنت في مواجهتي؟ هل أشتاق إليك وأنا أطالعك حتى ولو لم أرغب في ذلك؟ سأصدقك القول: تسيطر علي، أحياناً، رغبة جامحة في التصرف كما يفعل العشاق العاديون منذ قابيل إلى قيس ليلى وجميل بثينة . أتمنى لو أستطيع أن أكتب إليك رسالة غرامية بالسهولة المفرطة ذاتها، أو أن أبدأ بك قصيدة مديح بالاستهانة المفرطة ذاتها .
أتمنى لو أستطيع أن أكتبك في قصيدة واحدة أو ديوان واحد .
أن أرسمك في لوحة واحدة أو عصر فني بأكمله . أتمنى أن تشغلني ثرثرة عن صورتك، أو حلم عن صوتك، وأتمنى أن أقف كالتمثال الأبله بالقرب من نافذتك البعيدة، أرمي لك قبلة في الهواء، ووردة، وسرب عصافير .
أتمنى لو أتصل بك هاتفياً وأعاكسك حتى لو سالت بين أصابعي شلالات عذبة من الشتائم والكلمات البذيئة . أتمنى لو أنك تتخلين، ولو لوهلة، عن ذكائك المذهل، ليتسنى لي أن أحدق في وجهك قليلاً، خارج نظريات الفكر الفلسفي والسياسي، وأتمنى لو أكذب عليك أحياناً وأنت تصدقين: أنت تعرفين أنني صادق في أكاذيبي، وأنا أعرف أنك كاذبة في تصديقك .
لا تهمني كثيراً كل تلك التفاصيل، ولا يهمني أن أحبك كما أريد وكما تحب الخيول غير المروضة إناثها، أو أتنازل، ولو مسافة شبر، عن ذكائي وخيلائي، فأحبك كما يفعل الآخرون، مدمنو التواضع الخانق، وقراء دليل التلفونات .
إنني أحبك، وهذا لا يكفي حقاً، لكني أعدك لو أن الساعة عادت إلى الوراء خمس سنين أو خمسين أو سبعين، لأعرف الحكاية ذاتها إلى الحكاية ذاتها: مصافحة سريعة في شارع سريع، وبحث عن بصمات قدميك بين العواصم، ومحاولة مستمرة لتلويث قميص العالم بالأبيض والبنفسجي .
السر في طيفك الأليف . السر في دمك الخفيف . السر في حدسك المخيف . لا تصطف كلمات السجع في نهايات عباراتها ونهايات المهج اعتباطاً، وإن بدت، من فرط بداهتها أو بلاهتها، كذلك، أعبر عن حبك يا امرأة الوجدان بالطريقة التي تعجبني، في الوقت الذي يعجبني، وأتصرف كذلك، أحياناً، في معظم الأحيان، من دون اعتبار معظم الاعتبارات المرعية عادة . أحبك بأعلى صوتي عند إشارات المرور، وفي زحام الأسواق، وقريباً من وحشة المقابر . أحبك في زحمة مظاهرات الربيع العربي، وفي البيكاديللي، والطرف الأغر، والتايمز سكوير . أحبك عند أسوار البيت الأبيض والبنتاغون وباكنجهام بالاس والقصر الإمبراطوري في طوكيو . أحبك في المدرج الروماني الكبير في جرش وعلى قمة قاسيون . أحبك يا امرأتي في الغيوم عند بحيرة قارون، وعلى ضفاف المسيسبي . أحبك يا امرأة الجنة في الحجيم، ويا امرأة الجحيم في الجنة أحبك في ساحة الغنا في مراكش، وفي مقهى الفوكيت على الشانزليزيه، في الرياض والخرطوم . في الزمالك والدقي وبولاق الدكرور . أحبك في تورا بورا وأفغانستان . أحبك في بغداد وكربلاء . في الموصل والبصرة ومقديشو . أحبك في الهند والسند وبلاد ما وراء النهرين . في المريخ وعطارد، في صنعاء وعدن، ودمشق وريفها، وإدلب وريفها . أحبك في الأيام العادية التي تشبه بعضها وفي يوم القيامة . أحبك في الواحات والصحارى القاحلة، في البحيرات والكهوف، في بيروت، في الأشرفية، وكورنيش المزرعة، في جبل لبنان وجبال رأس الخيمة، أحبك يا امرأة الظن واليقين .
أحبك في أبوظبي . على الكورنيش والكاسر، وفي ليوا، وفي مربع برج خليفة في دبي، أحبك في الإسكندرية وروما والدول الإسكندنافية، في مدن وقرى الشمال، كل شمال .
لو أن للنهاية تتمة لحاولت ابتكار أسلوب جديد لم يجرب من قبل . الكلمة مقابل الكلمة وكأنها تحاورها . العبارة في مواجهة العبارة، ومعركة الأفكار وشيكة دائماً لأنها لا تقع، نار خفيفة تصهل على مقربة، والشاطئ البعيد يرسل رسائل شوقه إلى الشاطئ البعيد .
ولد وبنت يتمشيان على الكورنيش، ويذهبان في الغيبوبة، ويغيبان، ثم يكتشفها رسام مجنون، ويقدم لهما لوحة زيتية . يسوق الحجج الدالة على أنها لهما، لكن لا أثر لهما في اللوحة ولا ملامح، وبمراجعة شارع الكورنيش يتبين أنهما لم يكونا فيه أصلاً، لا في ذلك اليوم . ولا في كل يوم . النتيجة أن فكرة الشاعر تستعصي على الرسام، ومرة حاول شاعر أن يضع امرأة الرسام في قصيدته، فاستحضر البحور جميعاً، لكنها كانت أقصر من الطويل، وأبعد من المتقارب وأنقص من الكامل، وأقل من الوافر .
للشارع امرأته كما للرسام، لكن الفرق واضح وحاد جداً، امرأة الشاعر تصعد من ذهنه إلى يديه، وامرأة الرسام تصعد من يديه إلى ذهنه .
ليس الفارق الوحيد على أي حال، فامرأة الشاعر تتحرك في القصيدة كما تشاء، وأحياناً تحلو لها مغادرة القصيدة ليلاً، والعودة إليها صباحاً، وأحياناً تأخذ إجازة طويلة شهراً وشهرين وأكثر، ثم تعود لتبدأ مرحلة جديدة من التفاعل والغرور .
وقد تتحرك امرأة الرسام داخل لوحته، لكن الإطار في معظم الأحيان يمنعها من التسلل إلى الجدار والباب والنافذة .
وقد تنتقل امرأة الشاعر من قصيدة إلى قصيدة، ومن ديوان إلى ديوان، وكأنها نسمة أو نحلة، أو طائر هوايته التنقل بين الفصول، وعندما تريد امرأة الرسام ممارسة الفعل نفسه، فقد تواجه ببعض الإجراءات الصعبة، قبيل التقدم بطلب والحصول على تأشيرة، وحجز تذكرة، ثم ركوب طائرة . . إلى آخره .
وحين يريد الرسام رسم امرأته، فإنه يضطر إلى وضعها أمامه وكأنها جدار .
وحين يريد الشاعر رسم امرأته، فإن خطوته الأولى الضرورية هدم الجدار الذي أمامه، ثم الركض في الطريق العام وكأنه يطارد أيامه الضائعة أو هويته .
ولا شرط .
الشرط أن أتجلى كسماء صغيرة تطل على بحر صغير . أن أتسلق الجبال ثم أهبط بالمظلة على مدن ملعونة، أن أطأ أرض الحكاية، وأنصت إلى صرخات الغصون وهي تتفتق عن الثمار . أن أكتب أحزاني وكأنني أغني، ألا أكتب أحزاني لأنها، في الأصل، يا امرأتي، عادية، ولا تستحق الاهتمام . أن أطلق صفات مشتعلة على موصوفين مطوقين بلهب المعرفة، ثم أصطفيهم واحداً واحداً للدخول معي في طقوس كل ولادة وانتحار .
أشعر أنه لا يوجد أي داع لأي شرط، كل ما يحصل في اليقظة معقول، أما ما يصادفني في النوم فله خصوصية اليقظة أيضاً، لن يتحقق بسهولة . أعرف، لكنني، بداية ونهاية، لا أطمح إلى تحقيقه . الأجمل أن يظل حلماً معلقاً في المسافة المنكسرة بين العقل والقلب، المهم أن يكون فعلاً الإشارة والبشارة، وأن أظل أحمله على ظهري كما أحمل كل أمنياتي المستحيلة والممكنة على ظهري منذ عقود القرن الماضي .
أحياناً، أشعر أن وقتي ثمين جداً، ولذلك أنفقه في التحرش بفتيات الخيال .
الشرط، إضافة إلى ذلك، أن أتحرش بفتيات الواقع، ولم لا؟ القصائد على أهبة الاستعداد، أما القصص القصيرة، فواقفة منذ أزلها في انتظار لحظة تنوير لا تأتي مع انقطاع الكهرباء، خصوصاً كهرباء القلب .
ولا شرط للكتابة . لا شرط على الكتابة . لا شرط على كتابتي فيك يا امرأة، لكن الأصابع لا تصدق، ولا الأقلام، ولا الأوراق . الكاتب لا يصدق، ولا الطابع، ولا القارئ .
بالرغم من ذلك، فعهداً عليّ أن الغي جميع الشروط التي تسبق أو تلحق كتاباتي المقبلة في عين حبيبتي، وفي وجهها الجميل، وفي شفتيها العسليتين، وفي القضايا العربية القائمة والمؤجلة، وفي حوادث الاغتصاب، والقتل والفساد .
ولا شرط
بيني وبينك حبل السرة الذي يتصل وإن انقطع، ونشيد من جمر غياهب محدودبة لا تكاد تنتهي حتى تبتدئ من جديد . سنوات الطفولة، الخوف والوجل والترقب، كلما اقترب موعد إعلان النتيجة، وكلما أزف فجأة، فراق . بيني وبينك سمك لعوب، ومواسم حصاد مكتظة بالمهرجانات، جنوح غابة، وانكسار جبل بعد الزلزال، فلا تحاولي الهرب من حدود دماغي وأصابعي، وانتظريني هناك على حواشي الأرض . انتظريني على ناصية الوعد، وسوف أجيء مع قطار آخر الليل، فأنا أخاف من ثلاثة مجاهيل: الظلام، ومحطات القطار التي يودعني فيها أحد، ومحطات القطار التي لا يستقبلني فيها أحد .
وهذه ليست رسالة غرام
هذا منشور
هذا فرمان غادر التكايا العثمانية وانضم إلى المظاهرات .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.