هبات النسيم الباردة لطفت حرارة ذلك اليوم الصيفي من أيام أغسطس, حيث كانت الشمس ترسل سياطها على رأسي , وأنا أنتظر بفارغ الصبر وصول مركبتي كالمعتاد.. تلفتُ يميناً وشمالاً أبحث عن صديقتي التي تشاطرني هذا المكان كل يوم, لم أجدها ! تساءلت بيني وبين نفسي لماذا تأخرت يا ترى ؟ هل تكون على علم بما حدث؟ حقيبتي اليدوية تهتز .. أوه .. إنه الجوال لم أتمكن من سماع نغمته لقد كانت منخفضة.. التقطته بسرعة لأرد. .. ألو . أين أنت يا صديقتي.. هل أنت في الموقف ؟ - نعم .. لماذا تأخرت؟ - إنني بالمكتبة المجاورة أحصل على نسختي من الصحيفة اليومية, انتظريني أنا في الطريق إليك . - أرجو أن لا تتأخري لقد اقترب موعد وصول الباص . بعد دقيقة أقبلت بخطوات مسرعة وأنفاس متلاحقة.. هذا هو حالها كما عهدتها منذ عامين, حينما تعرفت عليها كموظفة جديدة في الدائرة الحكومية التي أعمل بها, شغوفة بقراءة الصحف والمجلات.. تصر على أن تحصل على نسختها اليومية قبل أن تذهب إلى العمل, وافتتاح يومها بالمطالعة قبل أداء أي عمل في الدائرة. كنت مندهشة لذلك , فأنا أيضا أحب القراءة ولكن ليس بهذا الإدمان , لم أحب أن أسألها عن شيء وقتها , فقد كنا حديثي العهد في علاقتنا وأخشى أن يكون سؤالي لها تدخلا في شؤونها الخاصة , اكتفيت في تلك الفترة بالنظر دون تعليق.. ولكني كنت أسأل نفسي دائما ماذا تقرأ؟ يبدو أنها شغوفة بمطالعة الجديد في عالم الجمال والموضة ولكن بساطة مظهرها لا توحي بذلك. لابد وأنها تهتم بقراءة صفحات عالم الطهي.. ولكن نحولها وشحوب وجهها لا ينم على أنها تهتم بأصناف الغذاء, علاوة على ذلك رؤية الكثير من الصديقات لزوجها هاشم وهو يتردد على المطاعم الشعبية. إذاً لابد وأنها.. أو أنها.. يوماً فيوم تعمقت صلتي بها أكثر فأكثر وأصبحنا نأنس لبعضنا البعض داخل ذلك المكتب, فهي تمتلك خفة روح تخفف عنا أعباء العمل, في ذلك اليوم كانت كعادتها تغوص في كومة من أوراق الصحف والمجلات التي تنفق عليها الكثير من المال, يومها بدت شديدة التوتر تقلب تلك الصحف مرات ومرات وخاصة تلك الصحيفة التي كانت تعود إلى تصفحها مرة بعد مرة, لفت انتباهي اهتمامها المتزايد بها ذلك اليوم وضعت تلك الصحيفة جانباً لتنتقل إلى أخرى, دعاني الفضول إلى طلبها منها : هل تسمحين لي ؟ نعم .. أجابتني دون أن تلتفت نحوي كانت منهمكة للغاية.. أخذتُ تلك الصحيفة و بدأت بتصفحها حدثتها بصوت مسموع: شيء مؤسف ما يحدث في غزة وهذا الحصار الذي تتعرض له منذ مدة. - حصار أي حصار إجابتها تدل على أنها لم تقرأ ما نشر في الصحيفة عن أخبار مفجعة يتعرض لها أبناء غزة . لحظات من الصمت تتسلل إلينا قطعته بقولي: - عظيم ذلك الكاتب ومبدع للغاية, وخاصة في كتابه الأخير.. ما رأيك في كتاباته ؟ عن أي كتاب تتحدثين ؟ - كتاب الأم للكاتب الكبير والأديب المبدع عبد العزيز المقالح, الذي تحدثت عنه مختلف الصحف والكثير من النقاد . يا له من إبداع !. - لم أسمع عنه وكما أن هؤلاء الكتاب يضيعون وقتهم وجهدهم فيما لا ينفع. دهشت لرأيها وتساءلت ماذا كانت تقرأ يا ترى؟ آه لابد و أنها قرأت ذلك العمود كيف تحافظين على زوجك ؟ - نصائح جيدة هل تعتقدين أنها تنفع؟ نصائح ماذا ؟ - كيف تحافظين على زوجك؟ - هذا هراء كل الرجال لا يؤتمن عليهم فهم مخادعون ومهما عملنا لن يكونوا أوفياء. نظرت إليها باستغراب.. لازالت منهمكة في القراءة ..فجأة بدأت تبحث بين تلك الأوراق وتتمتم بعصبية أين وضعتها ؟ أين هي ؟ التفتت نحوي.. سحبتها من بين يدي.. بادرتني بالسؤال إلى أي الأبراج تنتمين ؟ أبراج ! أنت تعلمين أنني أسكن في حي بسيط من أحياء مدينتي التي تخلو من وجود الأبراج السكنية !. أي الأبراج الفلكية تنتمين؟ القوس, الحمل, السرطان.. - دهشت لسؤالها غير المتوقع وتفكيرها الغريب.. و أجبتها: في الحقيقة لا أعلم ولكن لماذا ؟ - لأرى هل حظك مثل حظي البائس أم إنه أفضل ! - هل تؤمنين بتلك الخرافات ؟ - إنني أؤمن بها إيماناً كاملاً فهي ليست خرافات . عادت لتصفح تلك الصحيفة, ألقت نظرة عليها, ثم وضعتها جانباً, دفعت مقعدها للخلف.. وقفت بعصبية .. تناولت حقيبتها وبصوت منزعج: سأعود إلى المنزل . ولكن لماذا ؟ - إن حظي اليوم يقول “ تتعرضين لمشكلة في عملك تؤثر على علاقتك برئيسك “ ولا أحب أن يحدث بيني وبين المدير أي احتكاك لذلك سأغادر. - ولكن.. لم تتح لي فرصة الكلام, غادرت مسرعة فما كان من الإدارة إلا أن وجهت إليها لفت نظر لخروجها من العمل دون استئذان. علمت بعد ذلك سر اهتمامها بالصحف وتعلقها بتلك الزاوية الكاذبة التي تسيطر على أفكارها وحياتها. حاولت أكثر من مرة أن أنصحها بترك تلك العادة, ولكن دون جدوى. اعتدتُ على ذلك منها, كل يوم يخيم الصمت على أرجاء مكتبنا لمدة عشرين دقيقة حتى تنهي جولتها بين حظك هذا اليوم في مختلف الصحف وهكذا كل يوم.. حتى يومنا هذا, وصلت أخيراً إلى الموقف, أمسكت بذراعي ولازالت أنفاسها تتلاحق.. وبصوت متقطع: - الحمدلله وصلت قبل وصول الباص يا صديقتي العزيزة. وصلنا إلى مقر عملنا بعد رحلة صمت غير معتادة وكالعادة أسرعنا إلى حافظة الدوام التي تستقبلنا كل يوم.. لتسرع بعدها لمطالعة تلك الصحيفة التي جعلتها تتأخر صباح هذا اليوم, وبعد صمت قصير ارتسمت ابتسامة على شفتيها وتلألأت عيناها فرحاً سألتها عن السبب أخبرتني « لقد قرأت اليوم أني سأتلقى خبراً ساراً يغير كل حياتي وأنا متفائلة للغاية ». كان الحزن يملأني, عيناي تحاولان خنق عبراتها و أنا أتابع كلامها والفرحة التي كانت تغمرها في صمت على ذلك الظرف الذي تمسك به يدي, والذي حصلت عليه البارحة مصادفةً وأنا أفتش معطف زوجي قبل تنظيفه, جذبته بدلال . وما هذا الظرف الذي تمسكين به منذ الصباح ؟ أسرعت إلى فتحه, بدأت بقراءته, اتسعت عيناها, ثم ضاقت, تبدلت الفرحة التي تسكنهما إلى حزن, كانت يداها ترتجفان وهي تعيد قراءة تلك السطور في ذهول, صوتها هو الآخر كان يرجف ،مرددة.. دعوة زفاف.. هاشم.. لا .لا أصدق ذلك.. غادرت المكتب وهي تجهش بالبكاء.. تاركةً خلفها كومة من أبراج كاذبة وخبرًا سيغير كل حياتها .