يداوم مجموعة من الأصدقاء على اللقاء في مقهى بمدينة تعز، لمناقشة قضية أو كتاب قرأوه، محاولة منهم لدفع شغف القراءة بحوارات مفيدة. وبرغم إعلانها عاصمة دائمة للثقافة اليمنية، لا تحضر أنشطة ثقافية لافتة في تعز. وهو ما يحاول نجم الكمالي وأصدقاؤه تعويضه عبر لقائهم شبه اليومي في منطقة الكمب، لإيجاد نشاط ثقافي لا تحفل به مدينتهم. وبالنسبة لمعطيات الواقع، لا يلوح أفق واضح يجعل من القرار الذي أعلنته الحكومة في يناير 2013 واقعاً عملياً. وفي الدول شديدة المركزية، تتركز معظم الأنشطة السياسية والاقتصادية والثقافية على حد سواء في العواصم.فخلافاً لاختفاء أدوات التعبير الثقافي، كالمنشآت والوسائل، لم تشرع الحكومة بخطوات للبدء بتنفيذ مشاريع منشآت ثقافية، وتنشيط فعاليات وبرامج مستمرة تساهم في زيادة الحركة الثقافية. بالنسبة للصحفي عبدالعزيز المجيدي فقال: لم يكن هذا القرار سوى رشوة “بلا معنى” لمحافظة تشكل الكثافة السكانية الأعلى في اليمن، الغرض منه التغطية على “إخفاق سياسي بعد ثورة 2011”. لا يمكن أن تكون تعز عاصمة ثقافية لليمن، يقول نجم الكمالي الشغوف بالكتابة والقراءة، مع “عدم وجود أدنى بنية ثقافية متخيلة”. يجمعه وأصدقاؤه اهتمامات تنبذ جلسات القات المستولية على غالبية اليمنيين. مؤخراً ناقشوا مفهوم الوطن. ما معنى الوطن؟ وبنوع من الحيرة أو الشك النابض بحس المعرفة، أشار أنه ألقى نفسه عاجزاً عن إيجاد تعريف للوطن. “قلة يمكنهم الشك بأن الميزة الرئيسية لكوننا هي افتقاره للمعنى” يقول الكاتب الأرجنتيني البرتو مانغويل: لكن هذا التعريف لن يفضل كثيرون إسقاطه على الوطن. توجد المعاني في تصور الجاحظ بحسب إحياء الناس لها واستعمالهم إياها. هل لتلك الحيرة علاقة بالاستعمال الشائع لليمن كوطن منذ عقود؟ وبالتحديد بعد أن سدت مراحيض السياسة فيه شكل الواقع. الوطن بالنسبة لنيتشة مثل الحب مفردة ملتبسة. وتعز شكلت محطة مهمة بالنسبة للثورة ضد الإمامة في الشمال، أو الاستعمار في الجنوب.. ويتملك أهالي تعز شعور بالظلم إزاء السياسات المركزية جعلها تبادر لاحتجاجات “الربيع العربي”. وما كان عنفوانه رافع وطني كبير، مهدد حالياً بعنف ذي طابع مذهبي.في المساء الحالم للمدينة، تتدلى أغصان جهنميات من الأسوار ملطخة بالإنارة والهواء العليل، في منقطة “الكمب”. تعود التسمية الانجليزية لسبعينيات القرن الماضي، نسبة لكمب أقامه الطاقم الأمريكي المشرف على مشروع مياه تعز (سبعينيات القرن الماضي) المدعوم من الولاياتالمتحدة. بالقرب من الموقع فلل أنيقة وبسيطة، تعكس روح المدينة في الثمانينيات، التي شكلتها طبقة من المتعلمين وأصحاب المهن . لكنها منذ التسعينيات صارت مدينة طاردة. من أعلى قلعة “القاهرة” المطلة على المدينة، تظهر محشوة ببيوت متلاصقة، بينما تتحدد خيوط هزيلة لبعض الشوارع، فالزقاق جزء أصيل لتوسع عشوائي. تتوزع أحياء كثيرة بلا ملامح كرواسب دهنية. بالتأكيد كانت ستتغير قناعة الروائي الكبير نجيب محفوظ الذي زارها عام 1963 وامتدح هواءها وتضاريسها، هو لم يزر طيلة حياته سوى بلدين: سويسراواليمن. ما خسرته تعز احتمالات لما كان عليها أن تكون: تشكلت في جغرافيا فريدة، مستندة على جبل “صبر” الشاهق، بتضاريس يتعدد فيه الصعود والهبوط كطواف هارموني. حتى تلك الأجزاء الكثيفة في صورة غابة صغيرة لأشجار الأكاسيا العربية والأثب والساج في “المجلية”، أحراش “ثعابات” وفواكهها، اختفت في وحشية التناسل غير المعنية بالجماليات. كيف تكون عاصمة ثقافية؟ يتساءل نجم (يدرس الأدب الإنجليزي في جامعة تعز ويخطو مبكراً في الكتابة) وهي “التي لا تملك أية دور للسينما والمسرح بشكل يمكن الاتكاء عليه في أي فعل ثقافي مستقبلي” يضيف نجم لافتاً إلى اختفاء الصحيفة الثقافية الوحيدة منذ سنوات، وقد عبرت عن “الفعل الثقافي للبلد خلال مراحل”. كما يشير إلى عدم إمكانية تحقيق ذلك مع عدم وجود مؤسسة ثقافية حكومية. “فقط هناك مؤسسة يتيمة تتبع القطاع الخاص، تهتم بنتاجات النخب وأنشطتهم”. في الواقع لا تمتلك المدينة الكثير من الحوافز والأنشطة الثقافية لتكون عاصمة للثقافة اليمنية. اعتمدت الحكومة 21 مليار ريال (حوالي 100 مليون دولار) كميزانية لثلاث سنوات، لكنها لم تدخل حيز التنفيذ الفعلي. وكما يبدو ليس هناك استراتيجية واضحة لتنمية البنية التحتية الخاصة بالمؤسسات الثقافية. لا يوجد تصور حقيقي لأن تكون مركز تنشيط ثقافي، يستقطب الفنون والإبداعات الثقافية، الشيء الوحيد الذي تم إنجازه حتى اليوم، وبصورة مبكرة، هو الشعار الخاص بالعاصمة الثقافية، وتتوسطه صورة لقلعة القاهرة. ما يتحدث عنه المسؤولون في المكتب التنفيذي لمشروع العاصمة الثقافية مشاريع ليست معنية بإنجازها ، مثل قناة تلفزيونية متخصصة، مجلة ثقافية شهرية، إنتاج أعمال مسرحية، فيلمين وثائقين، ندوات وفعاليات معينة. كما لو كان مجرد تصريف لنفقات ميزانية محدودة أصلاً. وهو ما يثبت انعدام الأفق لتنمية الثقافة بصورة عامة؛ إذ إن دعم الثقافة، الذي يقوم على الحكومة بدرجة رئيسية، يندرج في تهيئة بنية تحتية وتهيئة مناخ ملائم لدفع النشاط الثقافي، كإنشاء مسارح وبيوت ثقافة، دور سينما، مكتبات عامة.. وتحفيز ثقافة تنوع مستديمة، عبر استقطاب أنشطة وفعاليات دولية ومحلية، حسب الإمكانيات. إضافة إلى المساهمة في دفع النشاط الثقافي بدءاً من المدرسة، والتنسيق مع الجهات المعنية بذلك. كيف يمكن أن تكون عاصمة للثقافة اليمنية، وتخلو المكتبات من أعمال تجذب إليها شريحة القراء؛ إذ يتركز ذلك في صنعاء. بعد عملية ترميم مشوهة للقلعة، استمرت 14 عاماً بإشراف مقاول محلي غير خبير بترميم الآثار، فُتحت القلعة كمزار. استحضر الأيوبيون في القرن الثالث عشر العاصمة المصرية “القاهرة” لتسميتها، بعد فتحهم اليمن. تعود القلعة للعهد الحميري، حيث عُثر فيها على نقوش يمنية قديمة. قبل أن يسمي الأيوبيون المدينة“تعز”، كانت تُسمى “عُدينة” مشتقة من “عدن” أو “العدين”. وفيها أسس الرسوليون، وهم قادة في الجيش الأيوبي، دولة يمنية مزدهرة، استمرت أزيد من مائتي عام. استعان الملك الأشرف إسماعيل بداية القرن الرابع عشر بمهندسين مصريين، لبناء جامع الأشرفية، ومازالت مئذنتيه البيضاء تعكس تقاليد العمارة المملوكية في القاهرة، وإن كان لها بعض الخصوصيات. ارتبطت تعز كحاضرة بتأثيرات خارجية، ربما ذلك السبب لكونها واحدة من أكثر المدن اليمنية مبادرة للانفتاح. تحدث الرحالة “ابن بطوطة” الذي زارها في عهد الملك المجاهد الرسولي، عن آداب العرش مع كبار الدولة كان شاهدها في الهند. قد تكون شجرة التمر الهندي، عمرها مائتي عام، واحدة من الأشياء القليلة التي احتفظت بها أحياء المدينة القديمة؛ الميدان، المظفر، الأشرفية، المعتبية.... قبة الظاهرية تنبت من شقوق جدرانها شجرة جميز صغيرة بأوراقها التوتية، تعرضت المدينة القديمة لتحريف اسمنتي تهتك بمبانيها، وطابعها. فقط ما تبقى من آثار الرسوليين، وبعض البيوت. الذاكرة قد تكون محيط انفعالات يومية، فالإهمال محاولة للنسيان، لكنه أيضاً اعتياد على الندب. وتعز تعاني بصورة مستمرة من الترميم المشوه ليس فقط لذاكرتها، بل أيضاً لروحها المكتنزة بالخيبات. أعاد أحد الأئمة بناء الباب الكبير، وهو الباب الرئيسي للمدينة القديمة، على شكل بوابات صنعاء القديمة. وبنفس الطريقة تم بناء مئذنة الجامع المظفر، أكبر جامع رسولي، كمآذن صنعاء، هل يعود ذلك لتأكيد هيمنة، أو مجرد نزوة؟ قبل سنوات أعاد المجلس المحلي المئذنة بطلاء أبيض مقتلعين لون الآجر المخاط بخطوط عمودية بيضاء. لكنها تصحيحات مستمرة، تعيد رسم الأخطاء. أقام الملوك الرسوليون قصورهم في ثعبات، لم يبق منها أثر. في سبعينيات القرن الثامن عشر زارها الرحالة الألماني كارستن نيبور شاهد بقايا منشآتها المعمارية؛ سور، قبة صغيرة وجدران مسجد من الأحجار الحمراء. أشهر قصور الرسوليين: دار السلام، الخورنق، السدير، وقصر المعقلي. والأخير استمر بناؤه سبع سنوات نهاية القرن الثالث عشر، وامتدحه المؤرخون، في كتابه (العقود اللؤلؤية في وصف الدولة الرسولية) يقول حسين الخزرجي ربما تحت إلحاح السجع، “أجمع أرباب اختراق الآفاق أنه لا مثيل له في شام ولا في عراق”. يحتوي القصر على مجلس طوله خمسة وعشرون ذراعاً وعرض عشرين ذراعاً مسقوف بالذهب. “بستان عجيب المنظر” يطل من الشبابيك. بركة ماء طولها مائة ذراع وعرضها خمسون ذراعاً، تتوسطها نافورة، أو “فوارة” على حوافها “صفة طيور ووحوش ترمي الماء من أفواهها” وهناك “شذروان بعيد المدى يصب ماءه إلى البركة المذكورة كأنه لوح من بلور”. بحسب الوصف يحاكي المعمار، تحديداً البركة، معاصرتها أساليب الهندسة الإسلامية في زمنها، فتماثيل الطيور والأسود التي ترمي الماء من أفواهها متقابلة تعيد لنا تماثيل أسود قصر الحمراء في غرناطة. لكنها أيضاً أساليب ظهرت في حواضر إسلامية شرقية آنذاك.تتسم تعز بأنها أول الجنوب حين تأتي من الشمال، وتكون أول الشمال حين تأتي من الجنوب. وهو ما يعطيها موقعاً متميزاً، لاحتضان الثقافة اليمنية وتكون جسراً ممتداً إلى الخارج، لكنها أولاً بحاجة إلى واقع ثقافي. .