الدعاء يرفع يديه إلى السماء متذرّعاً وخاشعاً لربّ العزة، بعد أن انتهى من أداء صلاة الفجر، فقال بصوت منخفض «يا الله لا توقف نهر الدم والحرب الأهلية”. سمع أحدهم ما قاله الرجل فنظر إليه باشمئزاز وغضب لفترة قصيرة ولكنه كبح مشاعره فهو في بيت الله، ارتسمت ابتسامة صفراء على وجه الرجل وخرج من المسجد لكي يذهب إلى عمله في مكتبه المتخصص «بخدمات دفن الموتى». الجار الطيّب الابتسامة على وجوه الجميع، الكل يرفع يده ويلقي التحية له. عيناه دائماً على الأرض، وعلامات الخجل والتواضع واضحة عليه. يسير متجهاً إلى شقته ببطء وهدوء شديد، ويتقدم جيرانه نحوه لكي يساعدوه بحمل الأكياس التي يحملها هو. يحرّك رأسه، ويكرّر كلمات الشكر لجيرانه. يصل إلى شقته ويدخل لها، يُنزل الأكياس إلى الأرض بهدوء، ويمد يده إلى أحد الأكياس ويخرج قنينة ويقول بصوت منخفض: كدت أن أكشف، كم أنا مشتاق لشربكم حد الثمالة..!! الوباء يحملون جسد الشهيد الذي قُتل منذ أيام. الكل ينفجر في داخله بركان، ذاك لا يرضى إلا بالانتقام، وصديق الشهيد قرر منذ الآن حمل السلاح معه في كل مكان فلقد فقد الإحساس بالأمان والطمأنينة، أما أقارب الشهيد فهم بالحزن والألم غارقون، ولن يتنازل عنهم بسهولة. لقد انتشر وباء داخل نفوس كل المعزين، ولم يبقَ أحد على طبيعته القديمة فكل واحد تغيّرت مشاعره بين الحزن والغضب والسخط والانتقام. حب «عن بُعد» دخلت قلبه منذ أن رآها أول مرة عبر موقع الفيسبوك..!! بدأت الابتسامة ترتسم على وجهه طوال اليوم بعدما كان حزيناً ومنعزلاً. أصبح يكتب الشعر لها، وأجمل القصص القصيرة. هو يعلم أن هذه الفتاة لن تكون بتاتاً له، ولكنها حبّه العذري الأول الذي غيّره بالكامل. الصحراء ها هو آخر وتد للخيمة قد ثبت بإحكام، تنظر إليه زوجته وتقول له: أيعقل هذا؟ بيتنا في وسط المدينة ونسكن هنا في الصحراء..؟. علامات الحزن والتعب مرسومة على وجه الزوجة وهي تراقب زوجها فتدخل إلى الخيمة فيقول لها: ثقي سوف ترتاحين هنا، فالطبيعة لا تقتل بينما نحن البشر نقتل بعضنا البعض، ولكن نحن هنا سوف نعيش بسلام، لأننا نعيش وحدنا بعيداً عن كل شيء. الكيس الأسود قبل أن يخرج يأخذ الكيس الأسود كالمعتاد..!! هذان الشيئان فقط في الكيس ورقة عليها عنوانه وقطعة قماش بيضاء، حتى إذا قُتل في الخارج يعود إلى بيته عبر الورقة التي فيها عنوانه وهو ملفوف بكفنه الأبيض. الفضيحة يضرب بالمطرقة جهاز كومبيوتره الجديد بكل ما أوتي من قوة..!! لم يبق من جهاز كومبيوتره إلا قطع صغيرة متناثرة في المكان. يصرخ عالياً قائلاً: اللعنة عليك أيها الكومبيوتر، فلقد استخدمتك ليومين فقط، وبعدها رأيت جسدي عارياً عبر مواقع الأنترنيت. التوبيخ ما زال يعيد نفس المادة الجامعية. توبّخه أستاذة الجامعة، وهو فرح ومبتسم، وكأنه يسمع كلمات المديح. يحرّك رأسه بعدما انتهت أستاذته من توبيخه ويجلس على مقعده. إنه لا يحب الدراسة بتاتا،ً ولا يهتم بتخصّصه الجامعي أيضاً.. كعادته لا يستوعب من المحاضرة ولا كلمة ولكنه يحب توبيخ أستاذته بشدة.. إنها تذكّره بالماضي الجميل عندما كانت أمه ما زالت على قيد الحياة، حيث كانت توبّخه بشكل دائم من أجل مصلحته ومستقبله. إعلان نعي يتدافع الأدباء والمثقفون والإعلاميون نحو ذاك البيت الصغير المهمل. الكل يحمل بين يديه باقات مختلفة وجميلة من الورود مع عدة أوراق في جيوبهم. ذاك يبكي وتلك تدّعي البكاء، ومجموعة هناك تضع أقنعة الحزن المزيّف على وجوههم. تمتزج مشاعر الحزن والفرح معاً. يخرج من وسطهم، والكل تكاد أعينهم تخرج من رؤوسهم وإذ يقولون له :«ألم تمت؟، فيرد عليهم «الأديب الشاب» والابتسامة الصفراء مرسومة على وجهه: لقد كتبت إعلان نعي كاذب باسمي ونشرته في كل مكان، فأنتم منقطعون عن زيارتي، ولقد اشتقت لكم، وهذه هي الطريقة الوحيدة التي خطرت في بالي لكي أراكم مجتمعين حولي أيها الصعاليك. *كاتب عراقي مقيم في بريطانيا.