يقال إن الهويّة الأولى لأية أمّة من أمم الأرض تكمن في لغتها، وهذا بطبيعة الحال متفق عليه والسبب ببساطة متناهية أن اللغة هي الوعاء الذي يجتمع فيه كل شيء لهذه الأمّة من قيمها وعاداتها وتراثها وأصالتها وتجاربها وخبراتها، وعند اهتزاز أو ضعف اللغة، تكون المحصّلة في المجملة هزّة عنيفة لجميع تلك القيم التي تكون ضاربة العمق في الزمن والتاريخ، وببساطة متناهية اللغة هي الحضارة. هذا البُعد العميق لأهمية اللغة بين الشعوب والأمم تم التنبُّه إليه منذ وقت مبكّر في بلادنا الحبيبة، وعملت قيادتنا، أيّدها الله، على تعزيز وجودها، وأن تكون هناك قواعد وأنظمة لحمايتها، ولعل الجميع يتذكّر جملة من القوانين التي صدرت في هذا السياق، كذلك أُنشئت منتديات ومراكز تُعنى برعاية اللغة العربية، ويكفي أن نعلم أن دور النشر والطباعة والحركة المعرفية في بلادنا تقوم أساساً على اللغة العربية، وفي هذا خير دعم لها. وبطبيعة الحال هناك الكثيرون يدركون ماذا يعني إتقان لغة أخرى مع اللغة الأم، فهذا يمكنك من الاطلاع على تاريخ وعادات وتراث وفكر تلك الأمّة، ومعرفتك بلغة أخرى تعني مداركك أوسع وأكبر، ولعل هذا الجانب هو الذي جعل شخصية عالمية مثل بيل غيتس، مؤسّس «مايكروسوفت» وأغنى أثرياء العالم يعلن أنه متحسّر ونادم لأنه لا يتحدّث إلا اللغة الإنجليزية، وتمنّى لو تعلّم لغات أخرى مثل اللغة العربية. وصلتني رسالة من قارئة تحدّثني عن قصّة حدثت في موقع سياحي، تقول: «كان شاب مواطن يطلب الحصول على خدمة باللغة العربية، والذي أمامه يحدّثه باللغة الإنجليزية، عندها تدخّل شقيقها للترجمة، وكانت المفاجأة أن المواطن أبلغ أخاها وباللغة الإنجليزية الواضحة أنه يتقن هذه اللغة، ولكن يصر أن يتم خدمته باللغة العربية؛ لأن الذي أمامه أيضاً مواطن عربي، فلا مبرّر لاستخدام الإنجليزية، وبعد أن سمع الموظّف هذه المحادثة ضحك وتنازل أن يتحدّث بالعربية». هذه القارئة طلبت منّي أن أكتب عن اللغة العربية، ولعلّي بهذه الكلمات أفتح الشهيّة لتناول هذه القضية في مقالات مقبلة لكن تبقى قضية لغتنا أساسية، ويجب أن نستلهم من قصة هذا الشاب المواطن القيمة الحقيقية بالاعتزاز بلغة القرآن، وأيضاً نوجّه رسالة أن تحضّرنا وتقدّمنا سيتحقّقان ونحن أيضاً أكثر إصراراً على التمسُّك بهويتنا وأيضاً لغتنا الحبيبة، تطوّرنا لا يعني أبداً أن نلوي ألسنتنا ونطعّم كلماتنا بمفردات أجنبية لنظهر وكأننا أكثر تطوّراً وحضارة.