حرّية المعتقد وحرّية الضمير تستدعيان الإقرار بوضوح تام من دون أي استثناءات أو خصوصيات أنّ ثمّة تساوياً في جوهرية الناس كلّ الناس، واحتجاجات الفكر الإسلامي الشائع على مسألة حرّية المعتقد وحرّية الضمير مرتبط بإقامة علاقة تماهٍ بين الأخلاقي والديني، ما يعني حصر الأخلاقية في الإطار الديني، وهو استنتاج في غير محلّه، حين يتم تعريف الأمور بشكل آخر يقوم على بناء الأخلاقية على أسس ومعايير عقلانية مرتكزة على الإرادة الإنسانية الحرّة المستقلّة والاتساق الذاتي والقابلية للتعميم.. سوسيولوجياً، الإسلام يعاني تخلّفنا، بالقدر ذاته الذي نعاني تأويليه وتفسيره في شكل ضيق ومحافظ، وترجمته بطريقة متشنجة وحرفية تمتص أبعاده الإنسانية والحضارية؛ كل ذلك يثبت أنْ ثمة علاقة جدلية بين الإصلاح السياسي في بلداننا والإصلاح الديني. هذه العلاقة ربما هي جزء من الخصوصية لدينا، كما نبّه إلى ذلك كثيرون من الباحثين، ومنهم عالم الاجتماع اللبناني إيليا حريق. والنصوص المقدّسة هي هي، يقرأها الأتراك فينتجون نسخة منفتحة من الإسلام تتعانق في كثير من المجالات مع التقدّم والعصر، وتكون محرّكاً للتنمية والتحرّر والإبداع، وتقرأها حركة "طالبان" أو "داعش" و"القاعدة" و"جبهة النصرة" أو "أنصار الشريعة" فتنتج إسلاماً خشناً صنواً للتخلّف الاجتماعي، والتقاليد والبيئة القاسية، فيصبح تعليم المرأة محرّماً، والانتخابات رجساً من عمل الشيطان، ويغدو النظام الدولي والمواثيق الأممية استعماراً وغزواً فكرياً ومؤامرة كونية. ولنتساءل معاً: لماذا انخرطت ندرة من الهنود في تنظيم "القاعدة" فيما كانت الأعداد كبيرة في باكستان، أليس لقيم التنوّع والتعدّدية والتسامح ودولة المواطنة في الهند علاقة بذلك بعكس باكستان التي تعاني انقساماً اجتماعياً وضعفاً في الاندماج الوطني يغذّي النزوع إلى التشدّد والعنف والتطرّف..؟!. أليس في ذلك تأكيد بأن العرب - كما يقول الكاتب الراحل جوزف سماحة - لم يفتحوا قفل الإسلام، ولذلك فهم يوالون الانحدار، ويتلقون الهزائم، ويخرجون من كل هزيمة أشدّ محافظة وتقليدية؛ أيْ أكثر استعداداً لنكسة جديدة، وكأننا في مسار تنازليّ. أليس النقاش السعودي الذي اشتعل في وسائل الإعلام السعودية قبل سنوات عقب افتتاح جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية في شأن الجامعة وآفاقها وطبيعة العلاقة بين الجنسين فيها ومسألة الاختلاط في صفوف الدراسة التي تحدّث عنها عضو (سابق) في هيئة كبار العلماء في السعودية مستنكراً، أليس ذلك تعبيراً عن أزمة وعي من خلال التساؤل الكبير: أيّ إسلام نريد، أو على الأصح: أيّ مواطن أو فرد نريد..؟!. أخشى أننا لا نريد دفع ثمن تغيير أوضاعنا الاجتماعية والسياسية المهترئة، وأننا نفتش في الإسلام عن «غطاء» لكسلنا الحضاري وانحطاطنا الفكري وعجزنا السياسي، في محاولة بائسة وتدعو إلى الرثاء تستهدف "أسلمة" انحطاطنا، وإسباغ الشرعية على كثير من أفكارنا وعاداتنا وتقاليدنا وقيمنا الاجتماعية التي تشدّنا إلى الوراء، والإسلام الحضاري مفارق لها لو فسّرته عقول واعية تدرك تنوّعه وما ينطوي عليه من تعدّدية، وترنو لتأسيس نموذج إنساني يحتذى، تكون المحلّية والخصوصية فيه إطاراً إبداعياً منفتحاً نحو الإنسانية، لا رديفاً ومرآة للجمود والانغلاق الذي يأخذ من الخصوصية والهوية أسوأ معانيهما، بدلاً من الاندماج الحقيقي في قيم العصر عبر تمثّل شعار العولمة: "فكّرْ إنسانياً ونفّذْ محلياً". وعليه، فإنّ كل أطروحة للتقدّم والنهضة في المحيط العربي لا تقدّم رؤية عميقة لفتح القفل، وعدم استبعاده من معركة التحرُّر والنهوض واحترام الإنسان، هي أطروحة منذورة للإجهاض والإحباط والفشل. ولعل إحدى أهم نوافذنا المحكمة الإقفال نافذة الحرية وفي عمقها حرية الضمير، وإذا كان الكثيرون أشادوا مؤخّراً بالتجربة التونسية في مجال إقرار دستور حافل بالانتصار لحرّية المعتقد وحرّية الضمير، فإن ما نرغب به في هذه المقالة هو أن يُصار إلى تأسيس ثقافة دينية تقبل بهذه الحرّيات عن قناعة فكرية وليس عن ضرورة سياسية قد تتغير وتتحوّل في حال تبدلت موازين القوى في التنافس على استلام السلطة لصالح الإسلاميين. لا شك أنه يُحسب لحركة "النهضة" في تونس إصغاؤها إلى رغبة غالبية الفعاليات في المجتمع التونسي لإقرار دستور عصري ورد فيه أن "الدولة راعية للدين، كافلة لحرّية المعتقد والضمير وممارسة الشعائر الدينية وحامية للمقدّسات وضامنة لحياد المساجد ودور العبادة عن التوظيف الحزبي و(أنه) يحجر التكفير والتحريض على العنف". ويُحسب لحركة "النهضة" في تونس أن دسترة حرّية الضمير تمّتْ بموافقتها ومن دون عنف أو اقتتال، وأنه حدث على الرغم من أن الحركة تحوز أغلبية في المجلس التأسيسي «البرلمان التونسي». وهذا الأمر الإيجابيّ والمقدّر كان سيكون على أفضل حال لو أنه عبّر عن موقف ذاتي أصيل من قبل "النهضة" وليس تجاوباً مع ضغوط سياسية مارسها المجتمع المدني التونسي، ورأت "النهضة" ضرورة الاستجابة له تحاشياً للاحتراق السياسي والاقتراب من نموذج "الإخوان المسلمين" في مصر. بعبارة أخرى: إن تفاعل الفكر الإسلامي المعاصر مع مسألة الحرّيات، ومنها حرّية المعتقد وحرّية الضمير ليس كافياً ويبقى مبتوراً في حال كان خضوعاً لاعتبارات وضرورات "برانية" وليس نتيجة تحوّلات وانزياحات "جوانية" من داخل مقولات هذا الفكر، وليس خضوعاً لاعتبارات الأقلّية السياسية أو الأكثرية السياسية، دون أن نغفل أن مثل هذه الاعتبارات من المفترض أن تكون في أي مجتمع محرّكاً للتغيير الفكري والاقتناع بأن الأفكار وجدتْ لخدمة الإنسان وتحقيق مصالحه وتحقيق الخير والصالح العام. الإنسان، وفق بعض الباحثين، قابلٌ للبرمجة فعلاً وقابلٌ لأنْ يكون "روبوتاً تقيّاً" لكن ربما ليس ذلك من دون استئصال جذري لحرّيته، وعلى الفكر الإسلامي أن يتجاوز حشر فكرة حرّية المعتقد بما يسمّى "أهل الذمّة". إنّ فكرة المواطنة المتساوية غير متغلغلة في تضاعيف الفكر الإسلامي الشائع، ومازال هناك اتجاه غالب بأنه لابدّ من إخضاع هذه الفكرة لاعتبارات "الشريعة" بدلاً من أن يكون العكس هو القائم والمعمول به. فكرة المواطنة ستتغلغل في عمق الفكر الإسلامي حين يُصار إلى الاقتناع الكامل من قبل مدارس هذا الفكر المختلفة بأنّ الحرّية منظومة متكاملة غير قابلة للتقسيم والاجتزاء والحذف والانتقاء، ومن المهم تأسيس فكرة الدّين والإيمان على الحرّية، وأنه لا دين بلا حرّية، ولا إيمان بلا حرّية. إنّ أفكاراً مثل «الحرّية والعقلانية والمساواة بين الناس» هي أعلى مبادئ وأفكار هرم التحضُّر والتقدّم والحداثة التي تعدّ خلاصة إنجازات الإنسان المتراكمة على مدار قرون من التاريخ الإنساني وحتى اللحظة، ويصعب الدفاع عن دين أو إيمان يقف على الضّد من تلك المبادئ والإنجازات، ومن هذه المبادئ كما يقول الدارسون: إنّ "حرّية غير المؤمنين هي شرط حرّية المؤمنين؛ وذلك لأنّ الحرّية هي حرّية المختلِف وليس حرّية المماثل (أو الممتثل) فهذا الأخير لا يطلب حرّية؛ لذلك حرّية الأقلّية هي شرط حرّية الأكثرية، وحرّية الفرد هي شرط حرية الجماعة".