مفتاح: مسيرة التغيير التي يتطلع اليها شعبنا ماضية للامام    من المرشح لخلافة محمد صلاح في ليفربول؟    منتسبوا وزارة الكهرباء والمياه تبارك الإنجاز الأمني في ضبط خلية التجسس    افتتاح بطولة 30 نوفمبر لالتقاط الأوتاد على كأس الشهيد الغماري    تركيا تعلن مقتل 20 من جنودها بتحطم طائرة شحن عسكرية في جورجيا    المنتصر يدعوا لإعادة ترتيب بيت الإعلام الرياضي بعدن قبل موعد الانتخابات المرتقبة    تألق عدني في جدة.. لاعبو نادي التنس العدني يواصلون النجاح في البطولة الآسيوية    دربحة وفواز إلى النهائي الكبير بعد منافسات حماسية في كأس دوري الملوك – الشرق الأوسط    الإخوان والقاعدة يهاجمان الإمارات لأنها تمثل نموذج الدولة الحديثة والعقلانية    جنود في أبين يقطعون الطريق الدولي احتجاجًا على انقطاع المرتبات"    إيفانكا ترامب في أحضان الجولاني    عالميا..ارتفاع أسعار الذهب مدعوما بتراجع الدولار    حضرموت.. تُسرق في وضح النهار باسم "اليمن"!    خبير في الطقس: برد شتاء هذا العام لن يكون كله صقيع.. وأمطار متوقعة على نطاق محدود من البلاد    القائم بأعمال رئيس هيئة مكافحة الفساد يكرم والد الشهيد ذي يزن يحيى علي الراعي    زيارة ومناورة ومبادرة مؤامرات سعودية جديدة على اليمن    عين الوطن الساهرة (2)..الوعي.. الشريك الصامت في خندق الأمن    احتجاج على تهميش الثقافة: كيف تُقوِّض "أيديولوجيا النجاة العاجلة" بناء المجتمعات المرنة في الوطن العربي    اليوم انطلاق بطولة الشركات تحت شعار "شهداء على طريق القدس"    إيران تفكك شبكة تجسس مرتبطة بالولايات المتحدة وإسرائيل    وزير الإعلام الإرياني متهم بتهريب مخطوطات عبرية نادرة    30 نوفمبر...ثمن لا ينتهي!    عسل شبوة يغزو معارض الصين التجارية في شنغهاي    تمرد إخواني في مأرب يضع مجلس القيادة أمام امتحان مصيري    حلّ القضية الجنوبية يسهل حلّ المشكلة اليمنية يا عرب    أبين.. الأمن يتهاوى بين فوهات البنادق وصراع الجبايات وصمت السلطات    الواقع الثقافي اليمني في ظل حالة "اللاسلم واللاحرب"    كلمة الحق هي المغامرة الأكثر خطورة    تغاريد حرة .. انكشاف يكبر واحتقان يتوسع قبل ان يتحول إلى غضب    "فيديو" جسم مجهول قبالة سواحل اليمن يتحدى صاروخ أمريكي ويحدث صدمة في الكونغرس    قاضٍ يوجه رسالة مفتوحة للحوثي مطالباً بالإفراج عن المخفيين قسرياً في صنعاء    قرار جديد في تعز لضبط رسوم المدارس الأهلية وإعفاء أبناء الشهداء والجرحى من الدفع    مشاريع نوعية تنهض بشبكة الطرق في أمانة العاصمة    ارشادات صحية حول اسباب جلطات الشتاء؟    انتقالي الطلح يقدم كمية من الكتب المدرسية لإدارة مكتب التربية والتعليم بالمديرية    قراءة تحليلية لنص "خطوبة وخيبة" ل"أحمد سيف حاشد"    النفط يتجاوز 65 دولارا للبرميل للمرة الأولى منذ 3 نوفمبر    مواطنون يعثرون على جثة مواطن قتيلا في إب بظروف غامضة    اليونيسيف: إسرائيل تمنع وصول اللقاحات وحليب الأطفال الى غزة    لملس يبحث مع وفد حكومي هولندي سبل تطوير مؤسسة مياه عدن    الحديدة أولا    قيمة الجواسيس والعملاء وعقوبتهم في قوانين الأرض والسماء    حكاية وادي زبيد (2): الأربعين المَطّارة ونظام "المِدَد" الأعرق    نائب وزير الشباب والرياضة يطلع على الترتيبات النهائية لانطلاق بطولة 30 نوفمبر للاتحاد العام لالتقاط الاوتاد على كأس الشهيد الغماري    عدن في قلب وذكريات الملكة إليزابيث الثانية: زيارة خلدتها الذاكرة البريطانية والعربية    البروفيسور الترب يحضر مناقشة رسالة الماجستير للدارس مصطفى محمود    5 عناصر تعزّز المناعة في الشتاء!    قراءة تحليلية لنص "خصي العقول" ل"أحمد سيف حاشد"    عالم أزهري يحذر: الطلاق ب"الفرانكو" غير معترف به شرعا    الدوري الاسباني: برشلونة يعود من ملعب سلتا فيغو بانتصار كبير ويقلص الفارق مع ريال مدريد    الشهادة .. بين التقديس الإنساني والمفهوم القرآني    ثقافة الاستعلاء .. مهوى السقوط..!!    الزعوري: العلاقات اليمنية السعودية تتجاوز حدود الجغرافيا والدين واللغة لتصل إلى درجة النسيج الاجتماعي الواحد    كم خطوة تحتاج يوميا لتؤخر شيخوخة دماغك؟    مأرب.. تسجيل 61 حالة وفاة وإصابة بمرض الدفتيريا منذ بداية العام    كما تدين تدان .. في الخير قبل الشر    الزكاة تدشن تحصيل وصرف زكاة الحبوب في جبل المحويت    "جنوب يتناحر.. بعد أن كان جسداً واحداً"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ما بعد الإسلاموية؟: أبعاد الصراع بين القوى الإسلامية في الشرق الأوسط
نشر في عدن الغد يوم 30 - 12 - 2012


المركز الاقليمي للدراسات الاستراتيجية
كتب / رضوى عمار
يقدم مفهوم ما بعد الإسلاموية Post-Islamism الذي طرحه آصف بيات Asef Bayat محاولةً لفهم تعقيدات المشهد السياسي في عدد من دول إقليم الشرق الأوسط التي شهدت نجاح ثورات رفعت شعارات في مضمونها عبرت عن التيار المدني، ولكنها في الأخير جاءت في أولى انتخابات شهدتها تلك الدول بقوى سياسية محسوبة على تيار الإسلام السياسي.
ورغم أن الثورة في مضمونها تُعبر عن تغيرات، فإن طبيعة هذه التغيرات وبشكل رئيس التحول إلى الديمقراطية هو ما سوف نتوقف عنده في هذه الورقة، من منظور القوى المحسوبة على فريق "ما بعد الإسلاموية"، وما يرتبط به من صراعات داخله، وبين القوى المحسوبة على فريق "الإسلامويين"، وطبيعة العلاقة بين الطرفين بعد الثورات العربية، وتجادل هذه الورقة بأن هناك درجة من الصراع بين هذين الفريقين، هو متحول في طبيعته، وهو ما يحدد شكل الشرق الأوسط خلال المرحلة الحالية.

وتجدر الإشارة إلى أن استخدام مصطلح "الإسلاموية" و"ما بعد الإسلاموية" بدلا من المصطلحات الدارجة ك"الإسلاميين" "وما بعد الإسلاميين"، يرجع إلى أن هذين المصطلحين الأخيرين فضفاضان، ويشملان كل من يدين بالإسلام كمعتقد ديني، وليس لهم بالضرورة انتماءات سياسية أيديولوجية.

أولًا: الفرق بين "الإسلاموية" و"ما بعد الإسلاموية":

يقوم منظور الإسلامويين Islamist Paradigmعلى أن الإسلام نظام سياسي نموذجي كامل، له أسس ثقافية، وهياكل قانونية، وقواعد اقتصادية، تجعله قادرًا على الاستجابة لكافة المشكلات التي تواجه الإنسانية، وتقدم حلولًا وافية لها. كما أن الدولة أكثر المؤسسات قوة وفعالية لنشر "الخير" والقضاء على "الشر". ومن ثم تكمن الغاية الرئيسة لهم في تأسيس دولة إسلامية، وليس تحقيق التنمية الاقتصادية، أو حل المشكلات الاقتصادية التي يعانيها الفقراء. ويتسم خطاب هذا الفريق بالشعبوية التي تَعِدُ بمستقبل مثالي تحت شعار "الإسلام هو الحل"، ويركز في ذلك على القضايا الأخلاقية مثل حظر الكحول، ومحارم المرأة، والهوية الإسلامية. كما يصور هذا الفريق المواطنين ك"رعايا" عليهم الوفاء بالتزاماتهم للدولة الصالحة (الدولة الإسلامية بمفهومهم)، أي أنه يركز على مسئولية وواجبات أفراد الشعب مع قليل من الاكتراث لحقوقهم.

وقد لاقت الإسلاموية رواجًا في مجتمعات الشرق الأوسط منذ السبعينيات، وهو ما رده آصف بيات إلى عاملين متزامنين إلا أنهما متناقضان في الوقت ذاته. يتمثل العامل الأول في زيادة التوسع في التعليم، والنمو الاقتصادي الذي صاحب ثروة النفط والحراك الاجتماعي العام الذي شهدته مجتمعات هذه الدول، بينما يرجع العامل الثاني إلى القمع، والتهميش السياسي، وتزايد عدم المساواة الذي عانت منه شعوب هذه الدول من قبل السلطات الحاكمة في هذه الدول، والتي كانت تحسب على المنظور العلماني.

غير أنه ومع منتصف التسعينيات عانى الإسلامويون من التناقضات بين الخطاب الشعبوي الذي مارسوه وتطبيقه الذي اصطدم بمعوقات الواقع. وهو ما ظهر جليًّا في نماذج زعمت تطبيق مفهوم الدولة الإسلامية، وانتهاجها السياسة الإسلامية والاقتصاد الإسلامي، لكنها لم تستطع مواكبة موازين القوى في النظام الدولي، وتجرعت شعوبها الكثير من المعاناة المستمرة حتى اللحظة مثل إيران والسودان وباكستان. كما فشلت الاستراتيجيات العنيفة والنضال المسلح الذي اتبعه الإسلامويون الراديكاليون في تحقيق نجاحات في مصر والجزائر، وهو ما دفع عددًا كبيرًا من الإسلامويين إلى مراجعة أفكارهم، وخطابهم الشمولي، والأساليب العنيفة، والبدء في تطوير رؤية معاصرة لمشروع الدولة الإسلامية.

وفي هذا السياق، دشن آصف بيات مفهوم ما بعد الإسلاموية Post-Islamismفي مقاله عام 1995 بعنوان"The Coming of a Post-Islamist Society" ليعكس من خلاله التطور الذي لحق بأفكار الإسلاموية ونهجها وممارساتها. ويلاحظ أن بيات عندما بدأ استخدام هذا المفهوم كان مرتبطًا بسياق الحالة الإيرانية.

وتركز رؤية "ما بعد الإسلاموية" على الدمج بين التدين والمطالبة بالحقوق والحريات، والتحرر من الجمود، وفكرة احتكار الحقيقة الدينية، والتعددية والمساواة بين أطياف المجتمع، والوصول إلى حلول وسطى. فهي لا تُعرف الإسلام كدين ولكن كإطار ثقافي وحضاري يضم الأقليات ولا يستبعدها، فالغاية الرئيسة هي تحقيق مجتمع "نقي" في دولة ديمقراطية.

ومن ثَم تُعد "ما بعد الإسلاموية" أحد أطياف الإسلام السياسي، بمعنى آخر هي ليست معادية للإسلام anti-islamic، كما أنها ليست غير إسلامية un-Islamicأو علمانية secular. فهي تعبر عن محاولة لتجاوز الإشكاليات والانتقادات التي أصابت "الإسلاموية"، من خلال الإعلاء من قيمة الفرد وحقوقه كمواطن أكثر من فكرة الدولة، باعتبار أن المواطن هو الذي يبني الدولة، وقد عبر بيات عن هذه الرؤية بشعار "نحن لا نمانع هدم المساجد لكي نبني الطرق السريعة".

ثانيًا: الصراع بين "الإسلامويين" و"ما بعد الإسلامويين":

من الصعوبة بمكان القطع بانتماءات القوى السياسية إلى "ما بعد الإسلاموية" أو "الإسلاموية"؛ إذ إن بعض القوى السياسية قد تعلن أفكارًا وتنطوي ممارساتها على ما يخالفه. وفي هذا الإطار تتعامل هذه الورقة مع القوى التي اعترفت بآليات الديمقراطية الحديثة، وأعلنت في خطابها المعلن أن الإسلام هو مرجعيتها السياسية، كفاعلين يعبرون عن تيار "ما بعد الإسلامويين".

ويلاحظ في هذا الإطار، أنه من ناحية، أن بعض القوى التي يمكن حسابها على تيار "الإسلامويين"، مثل الجماعات السلفية، أعلنت بعض التنازلات عن أفكارها بشأن الدخول في معترك العمل السياسي، محاوِلةً التكيف مع تطورات العصر، لكن رؤيتها تجاه الدولة والمجتمع لم تزل تستند إلى مفهومها للدولة الإسلامية على أساس ديني. على عكس قوى "ما بعد الإسلامويين" التي يقوم عملها السياسي على عدم فرض الإسلام بأدوات الدولة، وإنما بخلق نموذج حكم جذاب يستقطب الناخبين. وهو ما نتج عنه مساحات رمادية ومرتبكة بين الفريقين أسهمت في زيادة تعقيد المشهد السياسي الراهن.

ويزيد من حدة هذه الإشكالية أن مصدر الأفكار الرئيسة لفريق "ما بعد الإسلامويين" وهي جماعة الإخوان المسلمين، تعتبر في الأساس أحد روافد الفكر المتشدد والتي جنح عدد من أفرادها إلى استخدام العنف المسلح، وهو ما يخلق إشكاليات للنموذج الذي يهدف "ما بعد الإسلامويين" إلى تحقيقه.

ومن ناحية ثانية، يلاحظ اصطدام فريق "ما بعد الإسلامويين" الذين وصلوا إلى السلطة بممارسات بعض قوى الإسلامويين المتشددة التي تسعى لإنفاذ قوانينها ورؤاها الخاصة في المجتمع، بمعنى آخر "أسلمة المجتمع" بمفهومها الفوقي من خلال القوة والعنف. وهو ما يضع "ما بعد الإسلامويين" في حرج، خاصة وأن الانتقادات عادة ما توجه إلى التيار الإسلامي باعتباره كتلة صماء، لا تميز بين الفاعلين داخل هذا التيار. فعلى سبيل المثال، يتهم معارضو حركة النهضة التونسية باستغلال السلفيين الذين مارسوا أعمال عنف دموية ضد المواطنين، كذراع أمني للتستر على أفكارها المتشددة وهو ما تنفيه الحركة باستمرار.

ويغذي مثل هذه الاتهامات عدم تجانس خطاب "ما بعد الإسلامويين" وكذلك ممارساتهم. فقد كشف الواقع عن وجود تفاوت بين أنصار هذا الخطاب في نظرته إلى قضية الدين واختلاف قراءاته للنصوص وتطبيقها على أرض الواقع. وانعكس هذا التناقض في بعض الحالات على صورة هذا الخطاب ومصداقيته.

فعلى سبيل المثال، خلال المؤتمر الأول لحزب "جبهة الإصلاح الإسلامية التونسية"، والمعروف باسم جبهة الإصلاح، (أولى الأحزاب السلفية التونسية، وتم الترخيص له في 29 مارس 2012)، والذي انعقد في 9 يوليو 2012، تحت عنوان "الشريعة مسارنا والإصلاح خيارنا"، رُفعت لافتات تعلن أن "تطبيق الشريعة أولوية في العمل السياسي"، وذكر رئيسه محمد خوجة رفضه الفصل بين الدين والدولة.كما ينص برنامج الحزب على "أن تكون الشريعة الإسلامية المرجعية الأساسية في كتابة الدستور ومصدرًا وحيدًا في التشريع، مع الاستفادة بما أنتجته المدنية المعاصرة التي لا تتناقض مع أصول الشريعة"، و"تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية في جميع مجالات الحياة السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية".

كما لم يطرح حزب النهضة في برنامجه الانتخابي الذي تكون من 360 فصلا تضمين الشريعة في الدستور، معتبرًا المبادئ التي طرحها برنامجه هي الشريعة الحقيقية التي يؤمن بها. بل إن رئيس الحزب "راشد الغنوشي" عند مناقشة الدستور قرر تأييد عدم النص على الشريعة في الدستور، بعد أن وجد تخوفًا لدى بعض التونسيين من الشريعة بسبب بعض الممارسات القمعية باسمها، وعبر عن رؤيته هذه أن مفهوم "الشريعة" غامض، وليس عليه توافق، وأن صياغة الدستور يجب أن تقوم على الإجماع، وهو متوافر على الإسلام وليس الشريعة. مؤكدًا أن جميع من في حركة النهضة يؤمنون بالشريعة، لكن الحركة لا تريد فرض الإسلام من فوق، مشيرًا إلى أن "الإجراءات الإسلامية ينبغي أن تصعد من تحت، وعندما يطالب المجتمع بصفة توافقية بمسألة ما سيستجيب له المشرع".

ومن ناحية ثالثة، استفاد فريق "ما بعد الإسلامويين" من الحضور التنظيمي لقوى تيار "الإسلامويين" وقدرته على الحشد في الشارع، في دعمه للوصول للسلطة. وهو ما انعكس بصورة واضحة في إعلان الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية في انتخابات الرئاسة المصرية في المرحلة الأولى عن اختيارها المرشح الإسلامي، فصفة الإسلامي لم تغيب عن الحملات الانتخابية، وكانت محور استقطاب كبير بين القوى، وأيهما يعرض المفهوم الصحيح. وهو ما كان عليه الحال في الانتخابات البرلمانية المصرية أيضًا، لكنها ظهرت في الأولى بصورة أكثر وضوحًا، حيث أعلنت كافة التيارات الإسلامية المختلفة والمتنوعة مساندتها للمرشح الذي يطبق الشريعة من وجهة نظرها، وتسابقها حول أنه "عنوان لحقيقة الإسلام".

ثالثًا: الجدل داخل تيار "ما بعد الإسلامويين":

يُلاحظ أن كلا الحالتين التونسية والمصرية كانتا أبرز الحالات التي شهدت ثورات، ووصلت فيها قوى سياسية يمكن أن تحسب على تيار "ما بعد الإسلامويين" إلى الحكم. بينما كانت المغرب هي الحالة الأبرز التي شهدت وصول "حزب العدالة والتنمية" إلى السلطة دون ثورة، ولكن عقب إصلاحات سياسية أعلنها ملك المغرب نتيجة احتجاجات الشارع.

وفي هذا الإطار يمكن رصد أربع سمات رئيسة اتسمت بها رؤية هذا الفريق، بدرجات متفاوتة من دولة لأخرى، تتمثل السمة الأولى في الحفاظ على الدولة ككيان، والسعي نحو خلق توافق على نظام مدني له مرجعية إسلامية. وهو ما قد يعكس مفهومًا جديدًا للتغيير يجمع ما بين الإصلاح والثورة، وصفه بيات بالثورة الإصلاحية لما بعد الإسلاميين"Post-Islamist refo-lutions"وهي مزيج ما بين الكلمتين reformوrevolutions.

وتتمثل السمة الثانية في أن هذه القوى في مجملها تنتمي فكريًّا إلى قوتين رئيستين هما

جماعة الإخوان المسلمين، ويعبر عنها في مصر أحزاب مثل الحرية والعدالة والوسط ومصر القوية، والنهضة، والتيار المصري، والريادة، ويعبر عنها في تونس حزب حركة النهضة، ويعبر عنها في المغرب حزب العدالة والتنمية الذي ولد من رحم تنظيم "حركة التوحيد والإصلاح".

وتتمثل القوة الثانية في الأحزاب السلفية، وهي القوى التي خرجت من رحم حركات الدعوة السلفية في تلك الدول، ودخلت معترك السياسة مع التزامها بهدي "سلف الأمة الصالح". ويعبر عنها في مصر حزب النور، والفضيلة، والأصالة، والإصلاح والنهضة. ويعبر عنها في تونس حزب "جبهة الإصلاح الإسلامية التونسية"، ويلاحظ أن السلفية في مصر كانت أسرع في وتيرة تطويرها مفهومها للعمل السياسي.

وتنصرف السمة الثالثة، إلى أن هذه القوى لا تزال تتمسك بأن نظام الحكم لا بد أن يلتزم بتطبيق الشريعة، وهو ما يصفه البعض بالمداهنة Lip Service. لكنها في الوقت ذاته تؤكد أن الشعب هو مصدر السلطات، وليس النصوص المقدسة، وربما يكون ذلك نتيجة تأثير الشعار الذي أخذ زخمًا نتيجة حالة الثورات العربية.

وتتعلق السمة الرابعة، بأن معظم هذه الأحزاب التي خاضت الانتخابات البرلمانية في بلدانها في شكل تحالفات تعددية ضمت مختلف التيارات السياسية. ففي الحالة المصرية تأسس التحالف الديمقراطي من أجل مصر الذي كان حزب الحرية والعدالة مكونًا رئيسًا فيه إلى جانب أحزاب أخرى ناصرية وليبرالية ويسارية، ويلاحظ أن القائمة الانتخابية قد حملت اسمه فيما بعد. كذلك تشكلت قائمة الكتلة الإسلامية والتي ضمت ثلاثة أحزاب سلفية هي النور والأصالة والبناء والتنمية. وقد حملت القائمة اسم النور بعد ذلك.

وتتعلق السمة الخامسة بأن فكرة العدو البعيد قد تلاشت من خطاب هذه القوى؛ حيث أضحت أكثر براجماتية في نظرتها لعلاقاتها بالخارج، ففي معظم برامجها لوحظ أنه لم يتم التطرق للموقف من إسرائيل، وتم الاكتفاء بضرورة التأكيد على احترام العهود والمواثيق، بل إن بعضها أشار إلى عدم الزج بالبلاد في نزاعات تدمر ولا تُعمر.

ورغم هذه السمات المشتركة بين هذين الفريقين، إلا أن هناك عدد من نقاط الاختلاف في رؤاها، والتي يمكن رصد أبرزها في نقطتين. تتعلق الأولى، بأنه رغم اتفاق جموع فريق "ما بعد الإسلامويين" حول شعار "الشعب يريد"، إلا أن بعض الفاعلين في هذا الفريق الذي خاض إجراءات الديمقراطية استخدم هذا الشعار بمفهومه، والذي يتقاطع بصورة كبيرة مع فريق "الإسلامويين" فأصبحت هناك شعارات مثل "الشعب يريد تحكيم الكتاب" "لا مدنية ولا علمانية إسلامية إسلامية".

ولعل مظاهرات يوم الجمعة في التحرير 29 يوليو 2011، والتي عرفت بجمعة قندهار، مثلت علامة فارقة عكست هذا الاختلاف على نحو واضح في الحالة المصرية. ذلك فضلا عن الحملة الانتخابية لبعض الفاعلين في "ما بعد الإسلامويين" في الاستفتاء على الدستور المصري في مارس 2011، والتي روجت للحشد على توجهاتها تحت مزاعم أن ذلك حتى يتم تطبيق الشريعة.

وتتعلق النقطة الثانية بفكرة تطبيق العلمانية، ففي حين أن المفهوم من وجهة نظر "ما بعد الإسلامويين" في تركيا يعني وقوف الدولة على مسافة متساوية من جميع الأديان وعدم حرمان الناس من أن يمارسوا شعائر دينهم، وإعطائهم ضمانًا لذلك. يحمل المفهوم دلالات سلبية لدى قطاع كبير من "ما بعد الإسلامويين" في مصر وتونس على سبيل المثال. ويلاحظ هنا أن حزب العدالة والتنمية في تركيا في حملته الانتخابية عام 2002 كان يؤكد على أن "العلمانية حامية لكل المعتقدات والأديان، نحن نكفل هذه العلمانية وإدارتنا سوف تحقق ذلك".

يمكن القول إنه بينما سعت "الإسلاموية" إلى أسلمة المجتمع تدريجيًّا من أعلى من خلال السيطرة على الدولة وتطبيق مفهومها للدولة الإسلامية، وذلك غالبًا من خلال القوة؛ فإن "ما بعد الإسلاموية" تعبر نظريًّا عن الميل إلى علمنة الدينresecularize religion، والحد من الدور السياسي للدين من منطلق أنهم ليس لديهم كافة الإجابات لكافة مشكلات المجتمع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. وأنه ليس هناك تعارض بين الإسلام والحداثة، وأن بقاء الإسلام كدين له مصداقية يعتمد على تحقيق هذا التوافق. بمعنى آخر، خلق نموذج جذاب للحكم. ينضم إليه الأفراد بإرادتهم وليس بالإجبار، وتعكس نتائج صناديق الانتخابات مدى نجاح هذا النموذج.

ويتضح من التحليل أن التحدي الذي يواجهه "ما بعد الإسلامويين" بعد وصولهم إلى السلطة يكمن من الناحية العملية في طيات النموذج الذي يطرحه هذا الفريق بشكل رئيس، بمعنى آخر هم يواجهون أنفسهم بشكل رئيس، فضلا عن مواجهاتهم الصاخبة "للإسلامويين" والذين أخذوا من الشارع وسيلة لفرض إرادتهم.

وهو ما تبين بشكل جلي في مسألة "الهوية"، والتي تعد شأنًا عامًّا وشائكًا لدى كافة مجتمعات الثورات العربية، فالجدل بين فريق "ما بعد الإسلامويين" وفريق "الإسلامويين" بعد الثورات العربية، أدى إلى وجود تقاطعات أكبر في رؤية الفريقين، أعادت النظر في خطاب "ما بعد الإسلامويين"، والذي كان يقوم على استيعاب كافة أطياف المجتمع، وخلق توافق عام وليس الإقصاء، أي أن المسألة تحولت من مناظرة حول "النموذج الإسلامي" الذي يطرحه كلا الفريقين إلى من هو أكثر تدينًا، وكل طرف منهم أصبح يدافع عن أنه يعبر عن الإسلام، وأصبح يجد "مسألة الهوية والشريعة" مثيرة للجدل في إقناع الطرف الآخر بموقفه، فهو أشبه بصراع داخل التيار الإسلامي ينذر بتزايد احتمالات عودة الأصوليات الدينية.

الكاتبة: باحث محلل بالمركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.