في زمنٍ تاهت فيه البوصلة وضاعت فيه القيم، وُجد رجال أعادوا للإنسان معنى العهد والوفاء وفي الذكرى السنوية للشهيد نتذكر من بين هؤلاء العظماء الشهيد أحمد محمد أحمد الكبسي سلام الله عليه، الذي كان نموذجًا للوعي القرآني والإحسان العملي، ورجلا جاهد بنفسه وماله حتى كتب الله له الخلود في سجل الخالدين. رحل الشهيد أحمد جسدًا، لكن روحه ما زالت تنبض في دروب العزة، تُلهب القلوب حماسًا، وتذكّر الأمة بوعد الله الحق: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا، بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾. وُلد الشهيد أحمد في بيئةٍ قرآنيةٍ نقيّةٍ، تشربت روحه معاني الهدى منذ نعومة أظفاره، فكان القرآن له نهج، والمسيرة القرآنية له درب، وولاية الله هويته التي لا تنفصل عن حياته. استشعر مبكرًا قوله تعالى: ﴿إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، فجعل من كل لحظةٍ من حياته قربى وعبادة وجهادًا في سبيل الله. لم يكن يرى الجهاد معركةً عابرة، بل عبادةً ساميةً ترتقي بالإنسان إلى مقام المحسنين، وكان يردد بثقة: "لا أريد أن أموت في فراشي، بل أريد أن ألقى الله وأنا في ميدانٍ من ميادينه." ذلك لأنه أدرك عمق قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ﴾، فباع نفسه لله راضيًا مطمئنًا، فكان بيعه رابحًا وعهده صادقًا ووعده حقًّا. في جبهات العزة والشرف، كان الشهيد أنموذجًا للجندي المؤمن، يفتح مع رفاقه خنادق النور، ويُسمِع الأعداء تلاوة الإيمان في قلب المعركة. قال أحد رفاقه: "كان صوته بالقرآن يعلو على صوت المدافع، وكأن الملائكة تنصت له." كان يكثر من تلاوة قوله تعالى: ﴿رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ﴾، ويقول: "أريد أن أكون واحدًا منهم، لا بالقول بل بالفعل." وعندما تشتدّ النيران، كان يبتسم مرددًا: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَى﴾، مؤمنًا بأن النصر من عند الله، وأن المجاهدين ما هم إلا أدواتٌ في يد القدرة الإلهية. كان يرى في الرصاص تسبيحًا، وفي كل زحفٍ امتحانًا لليقين، حتى أصبح صوته في الميدان دعاءً، وسلوكه آيةً من آيات الثبات. لم يكن الشهيد أحمد محاربًا فحسب، بل كان محسنًا كريم النفس، بواسي الفقراء، ويعول أسر الشهداء، وينفق مما رزقه الله سرًا وعلانيةً. كان يؤمن أن الإحسان زكاةُ الروح، وأن من جاهد بماله ونفسه فقد أحسن كما يحب الله المحسنين، مصداقًا لقوله تعالى: ﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾. كان كثير الدعاء والتهجد، يختلي بربه في ظلمة الليل يناجيه بدموع الخاشعين، ويردد في مناجاته: "يا رب اجعل لي نصيبًا في سبيلك، لا تحرمني شرف الجهاد." فما حُرم، بل أكرمه الله بالشهادة التي هي تاج المؤمنين، وكرامة المقربين، كما قال تعالى: ﴿فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾. في جبهة عسير، حيث اشتدت المعارك وتكالب الأعداء، كان الشهيد أحمد في الصفوف الأولى، يقود رفاقه بثباتٍ وإيمانٍ لا يتزعزع. وحين طلبوا منه التراجع إلى الخط الخلفي قال بثقة: "لن نفتح للعدو ثغرة، نحن على عهد الله باقون." وظلّ يقاتل ببسالة حتى الرمق الأخير، يُواجه الزحف بثقةٍ مطلقة بالله، حتى ارتقى شهيدًا برصاصةٍ غادرة، لكنه كان المنتصر، فقد صدّ الزحف وأفشل مخططات الأعداء، وغادر الحياة كما عاشها: ثابتًا كالطود، راضيًا مرضيًا، مطمئن القلب بنور الله. أحد رفاقه روى مشهدًا مهيبًا قائلاً: "أُصبتُ وأنا بجواره، فضمّني إلى صدره وراح يتلو عليّ آياتٍ من القرآن، فما شعرتُ بألم، كأن سكينته تغلب الوجع. وحين توقف عن التلاوة، عاد الألم." لقد كان القرآن أنفاسه الأخيرة، ونورًا يرافقه في لحظة الخلود وما زال اسمه يُذكر في المجالس، وما زال أثره في كل من عرفه، فمنه تعلم رفاقه أن الجهاد وعيٌ ومسؤولية، وأن الشهادة حياةٌ خالدة في ملكوت الله. سيرته تُروى فتُحيي الإيمان في القلوب، وصورته تُعرض فتُوقظ العزائم، كأن دمه ما زال ينادي: "واصلوا الطريق، فالله معنا، ولن يضيع الله إيمانكم." هو اليوم حاضرٌ فينا، في دعاء المجاهدين، وفي دموع الأمهات، وفي يقين الأمة التي تؤمن بأن النصر وعد الله، ﴿إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾، ومن سار على نهج الشهداء فلن يخيب أبدًا، لأن الله لا يضيع أجر المحسنين. سلامٌ على الشهيد أحمد الكبسي، سلامٌ على كل مؤمنٍ سار في دربه، على كل مجاهدٍ عقد النية لله، على كل أمٍ ربّت أبناءها على ثقافة القرآن والجهاد .. سلامٌ على أرواحٍ باعها أصحابها لله، فاشتراها الكريم بثمنٍ لا يُقدّر: الجنّة والرضوان. ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾ وسيبقى أحمد الكبسي رمزًا للبطولة والإحسان، وصوتًا من أصوات الإيمان الخالدة التي ترددها الأجيال: "سلامٌ عليكم بما صبرتم، فنعم عقبى الدار."