قد يكون من المناسب التذكير أن التجربة الشعرية عند كل الشعراء – على اختلاف أزمانهم واتجاهاتهم – تنبع من تأثيرات الواقع وتعود إليه، مهمّة الشاعر هي إعادة إنتاج الواقع إذاً برؤية تستقل بنفسها متخذة نمطاً من الإفصاح الأسلوبي والتقاني ابتداءً من هذا الفهم تولّدت فكرة أن يرتبط الشاعر بالواقع ارتباطاً ذهنياً تحكمه وتتحكّم به لغته.. وسنتجاوز تفاصيل كثيرة قد لا تخفى على متابع الحركة الشعرية الحديثة؛ لكننا سنقف على ما يقوله سامي مهدي في معرض حديثه عن جيله الستيني والتحوّل الذي أوجده على صعيد «علاقة الشاعر بالواقع» يقول: «إن الشعر الخمسيني كان قد انهمك طوال عقد كامل أو أكثر في شؤون الحياة السياسية ويومياتها؛ في عكس هذا الاتجاه ذهب الخطاب الشعري الستيني، فلقد عاد الشاعر إلى عالمه الداخلي يغوص فيه ويستجلي غموضه ويكتشف حقيقته الإنسانية وطاف لحلم فيما وراء الواقع مغامراً في مطاردة المجهول». هذا النص المقتطع سيضعنا أمام تساؤل أكيد هو: أين يمكن أن يوضع الشاعر الخمسيني ومن ثم الستيني من «حركية الحداثة العالمية» بوصفها وعياً آخر في الوجود وموقفاً مختلفاً إزاء الواقع..؟. واقع الحال يشير إلى أن تشخيص سامي مهدي لم يكن مبنياً على رؤية واضحة للحداثة، لذا هو يهتم باقتطاع مواقف الشعراء ورؤاهم عن سياقاتها العامة بناءً على مواقف الشعراء أنفسهم وسعيهم في تجربتهم، لكن أجيال الشعرية التي أعقبتهما أنتجت تصوّرات أخرى عن النص والواقع، ومن الطبيعي أن يكون هذا التصوّر منبعثاً نتيجة إغراءات جديدة عملت على إنتاج وعي جديد، أعني تحديداً أفكار ما بعد الحداثة التي شرعت بالحضور شعرياً في مرحلة الثمانينيات ولكن بصور متفاوتة ليس هنا مجالات تفصيلها، وإنما يهمّنا الإشارة إلى تأثيرات ما بعد الحداثة على موقف الشاعر من الواقع. هذه المقدّمة ستقودنا إلى معاينة تشتيت الواقع في نصوص جابر محمد جابر التي أسماها «دوائر مربعة» من خلال ثلاث بنيات دالّة. «بنية التشكيك» ليست هناك حقائق..!! الحقيقة الوحيدة التي يؤكدها الشاعر هي “لغته” وفي ملاحظة أولية تدهمنا عناوين نصوصه بوصفها علامات مؤسّسة لها بنمط التشكيك «إبهام الظلام, أسنان الوهم, الحاسة الكاذبة, خيول الشك». هذه العناوين تعلن بدءاً أن هناك بنية غير مستقرّة قلقة تجاه الواقع؛ لذلك هي لا تشكّله من جديد ولا تغايره أو تضاده وإنما تشكّك فيه وتدهمه بالأسئلة، في نص «حافلة الرغبة» بمقاطعه الخمسة تتحد نهايات المقاطع كلها في إثبات حالة الشك بمنطق التواصل مع الزمن؛ ولأن الزمن هو المعيار الرئيس إن لم يكن الوحيد للتفاعل مع الواقع وكسبه يصبح الانتهاء به والسكوت عنه تشكيكاً فيه وأن تنتهي المقاطع كلها بالثيمة نفسها هو أمر يستدعي القول إن الشاعر لم يكن في ذهنه المحافظة على تقانات جديدة في بناء نصّه أو استكمال بنائه بما يفضي مقطع إلى آخر في حالة من الإنماء العضوي؛ إنما يلمس قارئ النص أن ثمة نصوصاً في نص واحد تتجمع لخلق حالة من تعدد زوايا النظر للانتهاء بوجهة نظر كلية لكنها تتكرّر. في المقطع الأول: ذات مطر/جاء صوت على الهاتف/خلع صمتي/ولبس/صوتي وكلماتي المحترقة. نلاحظ بدءاً بنية التغييب القصدي للوعي الحاضر بالزمن من خلال التنكير «ذات مطر/صوت» غير أن المغيّب بحركتيه الفاعلة لن ينتهي إلا إلى «كلمات محترقة» وإذا افترضنا أن الكلمة دائماً تحيل على حركية الواقع فإن الاحتراق هو النهاية لأي حركة مفترضة؛ ما يعني التشكيك بقدرة الفاعل على إنتاج واقع. وفي المقطع الثاني ينبني المشهد بالإسناد إلى فاعل مغيّب عن الحضور قصدياً في النص أيضاً، لكن في عتمة الحواس كان الكسل الكاذب يقترب رويدا/ رويدا / من مظلة الكلمات، ونلاحظ أن شاطئ المفاجأة يرسم في عتمة الحواس ما يحيل إلى السكة وصولاً إلى الأسئلة المفضية إلى لا رغبة في البحث والتقصّي في المقطع الثالث ثم إلى الجسد الأخرس الذي ترك فوضى جميلة على منطق الزمن ثم إلى الكلام المربك الذي ترك على عنق الكلمات. هذه النهايات لم تأتِ اعتباطاً إنما كما أشرنا تؤشّر حالة من الشك في قدرة الواقع على أن يتفاعل، تتكرّر هذه الصورة بإدهاش في كل نصوصه لكنها تتلوّن بألوان اللغة الزاهية التي يجيد الشاعر اللعب معها، ففي نص «في منفاي الضوئي» وبعيداً عن المفارقة التي يشي بها العنوان ستكون الصورة الأثيرة فيه/ النص هي «الانكفاء والهروب والهزيمة والذاكرة المستبدّة والضياع» وكلها إحالات واضحة على إمكانية التشكيك بهذا الواقع المزدان بفجيعة الأنا، وفي نصّه «الحاسة الكاذبة» نلاحظ في أول انبثاقه شعرية حركية القدوم من الماضي، كما اعتدناها في معظم نصوصه إلا أنها تسكن عند عتبات الحاضر، انهض من تحت أنقاض حلم قديم/متهالك/ احمل انكساراتي /نافضاً عن كاهلي/ركام هائل/من الأوهام هذا المشهد الذي تتراءى فيه حركية الزمن ينتهي في الخاتمة إلى «بين طيّات وسادتي/وقبل أن أغادر جسدي/وجدت خسائري اللذيذة/ تتمدّد على طريق معطوبة/تشبه/خطى راقص/على أرصفة الشفق». تفتيت الأنا تظهر في المجموعة – قيد الدراسة – الأنا المنكفئة داخلها، هي صورة من صور تهشيم الواقع وتفتيته؛ لا لأن – الأنا – غير قادرة على إنتاج الفعل – وإن بدت كذلك – غير أنها محاولة لصنع واقع مهشّم ومرتد إلى ذاته، وبالتالي فالرجوع إلى الماضي والوقوف في أعتاب الحاضر دونما حركة، وتوزيع الأنا وتغريب المكان وتهميش دور الزمن وغيرها من الصور دالة بشكل لافت على تذويب الأنا بصفتها مركزاً نصّياً لتتحوّل إلى هامش متردّد. «كنّا نطارد دخان الكلمات / التي أحرقتنا منذ سنوات / ونحن نقف على مطفأة الذاكرة»، «أنا عاطل عن الأمل / لم أدخل أدغال الكراهية / لذلك شكرت أصدقائي/ الذين اغتالوني بالنسيان» في هذين المقطعين صورتان دالتان على تفتيت مركزية الأنا الشاعر هنا مترق ومغتال «رمزياً» لم يعد الاشتغال إظهار "الأنا" إلا انفعالاً بالآخر وهو ما يلغي مركزيتها، كما فعل بنصوص أخرى منها "إبهام الظلام" و"هو وأنا والنهر"و"خيول الشك" التي أعدّها مقدّمة واضحة لنص آخر يأتي تالياً لها وكونها مقدّمة نص لا يلغي استقلالها بالبوح وشرطية وجودها مستقلة، كما أن كونها نصاً لا لأنها احتملت التأشير النصي للنص اللاحق وإنما مهّدت بشكل من الإشكال لرؤية الوجود الذي اقترحه النص اللاحق وهي رؤية مستلبة إلى حد ما ودالة أيضاً تشتّت الذات وتحييدها، والنص التالي هو «دوائر مربعة» الذي تسرب عنوانه ليحمل اسم المجموعة بقصيدة دالة لما تطرحه المجموعة وسنقف عليه لأهميته، والبداية حين يترك الشاعر دوائره مفرغة من «الضلع الرابع» وهو ما يعني أن الدورة التي تكتمل جزئياً لا تحقّق اكتمالاً كلّياً ضمن إحالة المربع ناقص ضلع، ثم يحل إدارك الشاعر لواقعه من خلال «الدورة العكسية» التي لمسنا مؤشراتها في النصوص السابقة، فهو دائماً يبدأ من نقطة النهاية؛ لا ليعيد ترتيب الواقع وإنما ليكشف عن انكساراته. في هذا النص الذي يبدأ في «الربع الأخير من الليل» يكشف الشاعر عن تلاشي المكان لم يعد قائماً وعن سكونية الزمن، فالصمت لم يعد يقظاً، وعن أسئلة الوجود فالمعنى لم يعد قائماً، هذه الثوابت الثلاث يقترحها أو تقترحها الدائرة الثالثة وهي تتضمن ضمن سياقاتها التعبيرية صورة مسكونة بالتلاشي والتشتيت "أهداباً تحاصر دمعات، لا تتركي الثقة في قاع البئر، ننتظر انشطار الأسرار لتتعفّن الأسئلة" والوصول إلى حافة التلاشي في هذه الدائرة ماذا سيفضي..؟!. تنتهي القصيدة بالدائرة الثانية يواجه الشعر نفسه بلا ملامح واضحة «الجسد هارب، لذا حين دقّ جرس المتاهة في أذني؛ اتجهت إلى ساحة الروح». بُنية النهاية حين تموت أسئلة الشاعر وتتكسّر أجوبته عند النهايات؛ لا يمكن أن يكون ذلك إحساساً عادياً بالأشياء التي تذبل من حوله وترتحل إلى عالمها الأخير، الموت/ النهاية ليس فجيعة فردية تتملك إحساس المرء إلا في حالاته العادية؛ غير أنها عندما تكون إحساساً بارتباك نظّم الأشياء، وتحلّلها وفقدان السيطرة عليها، تعني موقفاً ما، وهذا ما نؤكده هنا في قراءتنا “لجابر محمد جابر”. ربما لم يخلُ نصٌ من نصوصه في هذه المجموعة من دون أن يترك سؤالاً عن “ارتداد الأسئلة وانحباس الأجوبة والمضي إلى الرحلة الأخيرة” لذا لا يمكننا عدّها مجرّد نهايات محسوسة، إنها نهايات مرسومة تضع الواقع في زاوية مؤكدة تهشيمه. في نصّه “الصمت الملتبس” عندما كنت في حضيض خيباتي/ وقبل أن أطفئ/ في منفضة الألم/ أسئلتي/ أطل على الموت/ لأن القدر أصر في عبثيته/ عجباً” يكاد يكون هذا النص من النصوص القليلة التي تقف الأنا الشعرية فيها. أسئلة الوجود القلقة لم تعلن جاهزيتها بعد، لذا كان الاعتراض بل الحجاج مع القدر الذي ينتهي بالقبول والرضا بل التهيؤ لاستقبال النهاية أو إذا شئنا لتضع الأنا نهايتها. “وعليه/ سأسقي أصدقائي/ قهوة مرة بيضاء/ وسأنصب سرادق عزائي/ وأفرش سجاداً فاخراً/ لاستقبال من تجمدت دموعهم/ ومن تملكهم/ صمت ملتبس” لكن معظم نهايات الأنا في النصوص هي التي تعلن موتها وتختاره وهي دلالة صريحة على ما نذهب إليه : قرّرت/ أن أخلع هم العمر/ أن أخلق خوفي/ وأعلّقه على مشجب أحلامي/ لم تعد رغبتي قائمة”. نلاحظ إقدام الشاعر على “الإقرار” وما يحتمله من تحدٍ ومجابهة وليس استسلاماً وتقبل وهو ما يعني أيضاً “الاختيار بحرية” أن يعلّق الخوف على مشجب الأحلام وأن “يخلع العمر”. وفي نصوصه القصيرة جداً تتحد ثيمة الموت بإعلان أبدية الروح:“الانتحار/محاولة معلنة/ للبحث/عن موت جميل” و“ليس لديّ فائض من الحزن/ لذلك/ وقفت ساكناً/ عند اقدام/ صحراء من الرمال المتحركة/ أنتظر موتي/ لأني أجله/ ولا أهابه”. الحوار مع الموت لا يعني موقفاً وجودياً وإن تمثّل أحياناً في ذلك وإنما في الأغلب هو موقف ضد الوجود موقف يعلن بينونة الأشياء وحقيقتها. من خلال الانفصال عنها سواء بالموت أم بالرجوع الحنين إلى الماضي الذي غالباً ما يتم باستعادة رموز دالة عليه وليس بوصفه واقعاً، وقد لاحظنا في معظم نصوص الشاعر تلك الالتفاتات “المرمزة بشكل ما إلى الماضي ولاسيما في الميل إلى الأسلوب ذي التراكم الصوري، فالصورة قد لا تلد صورة ولكن قد تجهضها صورة في بنية محكمة تنتج ضياعاً أو تفكيكاً مستمراً للمعنى؛ ما ينتج عنه تهميش وتحييد فكرة الثورة على ظروف الواقع. في نصه "قهوة الضجر" في ليلة ماكرة/تذوقت رائحة الغياب/ بعد أن خلعت أبواب الترقب/ كانت المتاريس/ تجنبني الانزلاق/ وهتك أسرار اللغة/ وعند آخر معاقل الحزن/ وعلى يمين الذكريات/ قبالة الضفة اليسرى لنهر الفرات/ تركت الكراسي/ تحتسي قهوة الضجر/استعداداً لمواجهة بياض الوقت/ الذي سأنفقه في يوم صيفي/ ممطر لا محال/لذلك صفقت باب الحلم/ خلف جيبي بقوة/وفتحت/ ورشة الموت. يتم التركيز هنا على مجموعة من التفصيلات التي – على الرغم من جزئيتها – إلا أنها عامل مهم "لتجميع" بنية النهاية ابتداء من دلالة المكر المسند إلى "ليلة محدّدة مروراً بالغياب وإحالة الترقب إلى الخلع" وتجنب هتك اللغة وترك الكرسي لصناعة "بياض الوقت" التي تحيل إلى تلاشي كل شيء, وصولاً إلى «ورشة الموت». النهاية هنا مقترح بتكتيك الشاعر نفسه خيار للتعامل مع الواقع، وقد لاحظنا أن تلك التفصيلات لا تتجمع لتصنع النهاية إنما هي تجزّأ لتصل إلى النهاية. يمكن أن نخلص في نهاية قراءتنا أن الشاعر «الفاعل» هو من يتمثّل ويتفاعل مع الموجهات الفكرية والتحوّلات العالمية لينتج موقفاً منها على الرغم من أهمية التأكيد على حقيقة أن الحديث عن «ما بعد الحداثة» يجب أن يتم بصيغة الإحالات – على أقل تقدير المعرفية – إلى الماضي بعد أن تحوّل العالم إلى تفكير بعد ما بعد حداثي.