اعترف بداية أنني لم أكن أرغب في الكلام على حداثة شاعرنا الكبير تحت هذا العنوان فقد كنت- ومازلت- أرى أنه شاعر حديث بكل ما تحمله كلمة حديث من مفهوم المعاصرة والتجديد، وباستثناء بداياته القليلة التي كان واقعياً فيها- شأن كل مبدع مبتدئ- تحت تأثير بعض الشعراء القدامى والإحيائيين أمثال أحمد شوقي وحافظ إبراهيم والرصافي وأضرابهم، فإن الشعر الذي كتبه بعد مرحلة البداية يصب في نهر التحديث بكل طموحاته ومغامراته، سواء من خلال الأسلوب الذي يصطنعه أو من خلال الموضوعات التي يتبناها، ويمكن لنا أن نتكلم على هذا الشعر عبر ثلاثة ملامح رئيسية تتحدد بحسب المؤثرات التي خضع لها الشاعر هي: الملمح الرومانسي، والملمح الواقعي، والملمح السوريالي. البردوني الشاعر وحداثة البردوني الإنسان والثائر قد تلازمتا وتناغمتا، وكانتا دليله إلى "مدينة الغد" التي ظل ينشدها في شعره ومواقفه. قبل الاقتراب من الملامح الحداثية في شعر الشاعر الكبير عبدالله البردوني تجدر الإشارة بإيجاز شديد إلى مفهوم الحداثة عند القدماء والمعاصرين من نقاد الشعر العربي عبر العصور، مع التأكيد على حقيقة لم تكن غائبة في وقت من الأوقات ومؤداها أن الشعر العربي لم يعرف حالة الركود والاجترار إلا في القرون التي أعقبت انهيار الدولة العربية الإسلامية وما تلاها من توقف حركة التطور والتجديد ومن عزل للوطن العربي عن سياق التفاعلات الواسعة التي كان أبناؤه يخوضونها بوعي واقتدار، والتأكيد على هذه الحقيقة والتعمق في أبعادها من شأنهما أن يجنبانا بل يقيانا الوقوع في براثن التفكير الرديء وأعني به ذلك المستوى من التفكير الذي يصور لنا أن كل جديد ما هو إلا خروج عن سياق الأصالة وإساءة للنموذج الإبداعي الأول، أن كل حداثة بدعة مستوردة من الآخرين الذين هم أعداؤنا بالضرورة، وأن المحافظة على لغتنا وأدبنا بشقيه النثري والشعري لن تتحقق إلا بالانكفاء على الذات وبرفض منطق التفاعل والقبول بالعيش في دائرة ضيقة بعيداً عن الرؤى والقضايا والعلاقات الجديدة. وتحاول هذه الإشارة الموجزة إلى مفهوم الحداثة قديما أن تسترجع مواقف ثلاثة تيارات إبداعية في الشعر العربي يرافقها أو يعكس مواقفها ثلاثة تيارات نقدية شغلت الماضي كما تشغل الآن الحاضر وكأنها تؤكد نظرية التناسخ في الأفكار والمواقف وهذه التيارات الثلاثة هي: 1- تيار شعري تقليدي محافظ على مرجعيته الأصولية التي تعود إلى شعر ما قبل الإسلام، ويتركز جهده ومحافظته على الشكل البنائي الخاص بترتيب القصيدة بدءاً بالنسيب والوقوف على الأطلال من جهة وعلى الجانب الفني المرتبط بالبلاغة وطريقة بناء الاستعارة بما لا يخرج عما تواضع عليه الشعراء في ذلك الزمن السالف الذي أصبح مرجعا ونموذجا. وشعراء هذا التيار كثيرون ومن نقاده المشاهير عمرو بن العلاء الذي يناوئ كل تحديث ويرى فيه ضعفاً وركة وخروجاً على النموذج الكامل وقد روت عنه كتب النقد قوله بعد تمكن الحديث من إثبات وجوده (لقد كثر هذا المحدث وحسن حتى لقد هممت بروايته). 2- التيار الشعري التجديدي الذي يحافظ على الشكل البنائي للقصيدة ويخضعه لاستيعاب المتغيرات في الرؤى والتحول في التعامل مع اللغة وصوغها بما يتناسب مع قدرتها على تلبية ثقافة الواقع وشروطه الثقافية، وله رواده وأقطابه في الماضي ورواده وأقطابه في العصر الراهن ولم يحفل هؤلاء الرواد بمواقف التيار السابق ولا بمقولاته الجامدة ومنها قول الآمدي (وإنما ينبغي أن ينتهي في اللغة حيث انتهوا ولا يتعدى إلى غيره فاللغة لا يقاس عليها) 3- التيار الشعري التجديدي أو الحداثي الذي يسعى إلى تجاوز النموذج البيتي، وكانت البداية مبيتات ومسمطات ثم موشحات وصولا إلى ما يسمى بشعر (البند) الذي يشبه النثر في طريقة كتابته مع محافظته على الوزن، ولقد لقي هذا المستوى من التجديد اعتراضاً شديداً، فكان الموشح، وهو الفن الشعري الذي حاول في وقت مبكر اكتشاف إيقاعات وأوزان وتشكيلات بيتية جديدة- مرفوضاً ومعدوداً خارج الشعر، وجاءت تسميته بالموشح إبعاداً وتمييزاً له عن الشعر بالمفهوم السائد. وهذا يؤكد بوضوح أن العربي كان دائما بحاجة إلى التجديد والتجاوز إما في لغته أو في بنيته أو في موضوعاته، كما يؤكد أن التعايش بين هذه الأنماط أو التيارات الثالثة قد بقي إلى العصر الحديث حيث بدأ التجديد في المهجر على شكل قصائد متعددة البحور وتفيد من نظام الموشحات، كما بدأ التحديث داخل إطار القصيدة البيتية، وحقق شعراء الحداثة المضمونية -إذا جاز التعبير ومنهم على سبيل المثال لا الحصر بشارة الخوري - وعمر أبو ريشة وسليمان العيسى والبردوني والجواهري وسعيد عقل، حققوا نجاحا هائلا في أن يصبوا داخل الإطار التقليدي للقصيدة خلاصة ثقافتهم الحديثة، وكما اخترق أبو نواس ومن بعده أبو تمام المألوف ليحدثا جديداً داخل القصيدة العربية دون أن يضطر إلى تهشيم نظامها البيتي فقد أحدث الشعراء المعاصرون ثورة فريدة مؤكدين بذلك أن الشاعر الحقيقي في كل عصر لا يخضع للتقليد ويرفض الاستسلام لأساليب سابقيه والكتابة على منوالهم والحداثة في أبسط تعريف لها هي التعبير عن الفاعلية الزمانية والمكانية وعلى ضوء هذه الفاعلية يعيد كل جيل ترتيب أفكاره وأساليبه ويحاول كل فرد موهوب في هذا الجيل أن تكون له لغته الخاصة أو بعبارة أدق امتلاك لغة تستوعب رؤاه وتسمو إلى أفقه الفني والمعنوي. ويستطيع القارئ أن يكتشف بنفسه أن البردوني الذي كان أكثر الشعراء المعاصرين -المشار إليهم فيما سبق- محافظة على نظام القصيدة البيتية هو في الوقت ذاته أكثرهم خروجاً على هذا الشكل من داخله ومن خلال استيعاب المغامرة،. وفي كتابي "أصوات من الزمن الجديد" دراسة بعنوان "عطر جديد في آنية قديمة" مقاربة تحليلية لهذا المستوى من التجديد في القصيدة البردونية وقد بدأت الدراسة بالسؤال الآتي: (هل رأيت العطر أو "الباروفان" الباريسي الحديث في زجاجة قديمة؟ إذا لم تكن قد رأيته فإنني قد رأيته أنا، ولكن في ديوان شعر.. نعم ديوان شعر يجمع بين المحتوى الحديث والشكل القديم، بين الرؤية التحليلية التي تتواءم مع الرؤية التمثيلية لشاعر حديث مثل (سان جون برس) والبنية التراثية التي تذكرنا بالأعشى، والنابغة، وأضرابهما من الشعراء الجاهليين، كيف حدث هذا؟ وأين حدث؟ وتمضي الدراسة بعد ذلك إلى القول: (إن قراءة عابرة في ديوان الصديق الشاعر الكبير عبدالله البردوني كفيلة بالرد على السؤال، وقادرة كذلك أن تعطينا تصورا كاملا عن كيفية اللقاء الواعي بين الماضي الحاضر، والعناق الملائم بين الإبداع والتراث، ولقد تمكن شاعرنا في ديوانه الأخير، "زمان بلا نوعية" ان يتوصل إلى المعادلة الصعبة في عالم الشعر، واستطاع أن ينجح فيما فشل فيه الآخرون، عندما حافظ على الغنائية المتكاملة، وهي أهم ما تتميز به القصيدة التراثية، في الوقت الذي شحن فيه قصائده بالمضامين المواكبة للعصر، وكأنه بذلك يضع شعار الأصالة والمعاصرة موضع التطبيق). وفي كتابي "من أغوار الخفاء إلى مشارف التجلي" دراسة أخرى بعنوان "البردوني ورحلة التجاوز من القصيدة البيتية بالقصيدة البيتية" وفيها أي الدراسة قراءة متأنية لعدد من الدواوين الأخيرة للشاعر وما تحمله من مغامرة جديدة ومدهشة داخل النظام البيتي، مغامرة تصنع اللامألوف من المألوف وتقيم الجسر المفقود في حركة التنوير الشعري في امتدادها من البيت إلى القصيدة، ومن القصيدة إلى النص الفني المعاصر، وهو أي البردوني- بهذه الدواوين يثبت أن كل الشعراء العرب المبدعين والحريصين على الانتماء بشعرهم إلى الوجود المعاصر قد شاركوا جميعاً وبمستويات مختلفة في هز القصيدة التراثية وآفاقها كلٌّ بأسلوبه فمنهم من حاول تفكيك القصيدة إلى مقاطع ومنهم من حاول تفكيك البيت إلى تفعيلات مع الاحتفاظ بموسيقى البحر، ومنهم من حاول تفكيك القصيدة والبيت معا وصولا إلى القصيدة النثرية، وكل هذه المحاولات مشروعة وضرورية للشعر إذا كان الهدف هو الإبداع وإثبات أن نبض القصيدة كنبض التاريخ تطورٌ لا يتوقف ولا ينتهي ولا يعترف بالقيود والسدود، فالتوقف صيغة للموت وصورة من إعلان إفلاس الإبداع. وتصل الدراسة إلى الدور المهم الذي نجح فيه شاعرنا البردوني في الخلاص من التأثير البنائي للقصيدة الموحدة البحر والقافية والخروج بها إلى مرحلة التحدي التاريخي حين تبدو ظاهريا تكراراً لصيغة الشكل التقليدي في حين أنها تتمتع بمقومات الحداثة والمعاصرة، وحتى الإيقاع الموسيقي الذي يبدو مع القافية أقل عناصر القصيدة البردونية حداثة لا يخلو من الجدة، فهو يستجيب للتمرد اللغوي ولخللة تركيب الجملة الشعرية، والقافية وهي جزء من الإيقاع الموسيقي لا تؤدي إلى تقطيع أوصال القصيدة أو إلى تفتيت معانيها، كما كانت ولا تزال تظهر في شعر كثير من النظامين، وإنما هي جزء من البنية ليست ملتصقة بالبيت ولا خارجة عن النسق الشعري ولم تعد مهمتها إيجاد التوافق الصوتي مع بقية الأبيات أو إعلان نهاية المعنى وإفساح الطريق لمعنى جديد، إنها تتلاشى بإيقاعها الحاد في البنية الداخلية للقصيدة وتوشك القصيدة من هذا النوع عند البردوني أن تصير مدورة، ويستطيع القارئ أن يلم بها دون أن يتوقف عند نهايات الأبيات وهذا هو المقطع الأول من قصيدة زمان بلا نوعية غريبة ياطارئات مثلي شريدة مثلي ومثلك أهلي منقادة مثلي لكل ريح رمل الفيافي أهلها وأهلي لأنها رملية شبيهي أتى غباراًً كنسلها، ونسلي كما التقى مستنقع قبيح كان تفاجئ زمرها وطبلي مثلي بلا فعل ولا تخلٍّ هل فعلنا أخوَى أم التخلي مثلي بلا ماض، وما يسمى (مستقبلي) يأتي، يموت قبلي - المادة مجتزأة من دراسة طويلة للدكتور المقالح بنفس العنوان.