ربما تملك مكتبة كبيرة تلمع كتبها ومجلّاتها ووسائطها المدمجة بعناوينها البرّاقة من خلف ظهرك، ومن المنطقي أنك تكون قد قرأت الكثير من تلك المعارف؛ لكن ذلك ليس دليلاً كافياً على أنك قد مارست القراءة الثقافية، فالحكم الفصل في ذلك هو جدوى ما تملك من عمق وما ينتج من تخمّر في ذاكرتك كي ينعكس في حياتك؛ وذاك هو ما يمكننا تسميته ب«القراءة الثقافية».. فالقراءة بدافع الوعي وجدلية الاستيعاب الحر تصنع تفاعلاً ذاتياً مع النص المقروء أو المشاهد، تفاعلاً يمكّننا من ثروة ثقافية تتيح لنا امتلاك قدرة الاستنارة المعرفية، وتدفع بنا إلى اتخاذ قرارات منسجمة مع السعادة المطلوبة للعيش بكرامة، خارج إطار القراءة الثقافية تقع الكثير من قراءاتنا اليوم بما فيها القراءة للتراث والكتب المقدّسة، لذا لم تفتح تلك القراءة رغم كثرتها مقامات معرفية في جدار الوعي، كما أنها لم تفكّك منظومة التخلّف بقدر ما دعمته، خالقة حالة الثقافة الكاذبة التي لا تملك عمقاً يدفع بمحوريتها لتقود التحوّلات. تقول الكاتبة الأردنية (مثل الحسبان) الثقافة ليست محشوة في الكتب فقط، قد يقرأ أحدهم ألف كتاب ولا يتضاعف مخزونه المعرفي، بل على العكس قد يتعب عقله ويفرغ كل ما كان يحويه - هذا إن كان يحوي شيئاً في الأصل - العقل السليم هو ما تحتاج فقط؛ لأنك إن ملكته تستطيع أن تحصل على الخبرة والمعرفة من أمّي لا يعرف القراءة والكتابة. وهذا ما نلحظه حتى في مخرجات التعليم، رغم المناهج المكثّفة التي يتم فرضها في واقع التعليم العربي المعاصر، فنتائج ومخرجات تلك المناهج - غالباً - لا تؤهّل الأفراد ثقافياً ومعرفياً لواقع الحياة المتطوّر، بقدر ما تعيق حركة التطوّر ذاتها. وما ينطبق على المنهج التعليمي ينسحب على الحياة الثقافية، حيث التخبُّط الواضح في مخطّط التثقيف دراسة وتطبيقاً والعجز عن تفعيل دور القراءة كمدخل فاعل للثقافة، وتحويل الثقافة من هذر كلامي إلى بناء معرفي يستهدف تغيير الواقع إيجابياً، وكل ذلك لن يكون إلا بالقراءة الثقافية المستوعبة للتغيرات، والمنتمية إلى جيل المعرفة المفتوحة على ما وراء النص تدبراً يعيد هيكلة التفكير فاتحاً باب الاجتهادات والتطوّر الإبداعي. القراءة الثقافية ومتغيّرات العصر ويمكننا القول ونحن نصف واقع الحال المعاصر ثقافياً وإعلامياً إن وسائطهما التثقيفية والإعلامية قد بلغت من التطوّر والتعقيد ما يجعل القراءة العادية عبثية وترفاً غير مثمر؛ كون القراءة العادية تفتقر إلى المكاشفة وإيضاح المدلولات العميقة، الكامنة وراء الوسائل والرسائل المنسابة مع كل لحظات الوقت على عالمنا، حيث تنتج الآلة الضخمة والمتنامية للتثقيف والدعاية والإعلام كماً هائلاً من المعلومات الفلسفية الإبداعية والثقافية وبسرعة فائقة، مخلقة حالة تُماهي كلَّ من السياسة إلى الدين والاقتصاد والتاريخ.... إلخ، جارفة معها الكثير، ومخلّفة وراءها كل ما يظل عالقاً في دائرة ردّة الفعل المتصلّبة أو المتشنجة دون وعي وقراءة ثقافية عميقة. إن مسلّمات كثيرة وخاصة تلك المستندة إلى العادات والتقاليد سوف تدمّر ذاتها إن شكّلت عائقاً أمام القراءة الثقافية ولم تتطوّر، سواء في الطرح أم التلاقح وإتاحة مشهد القراءة المتفاعلة، فالمشهد الثقافي العالمي يتجاوز كل يوم سنين مما أنجز خلال التاريخ، بسبب تخلق فرص كثيرة، ابتدءاً من الوسائل المتقدّمة إلى الحرية المنفتحة؛ وهو ما يلزمنا بالقراءة الثقافية، كي نتواءم مع عصرنا، ونتطوّر نحو أفق يتناسب مع طموحاتنا الحضارية, فالقراءة الثقافية وهي تتعامل مع متغيرات العصر؛ يجب أن تتجاوز حالة العشوائية والترف، وأن تكون على قدر من الفهم والوعي والتمثل الثقافي، والجمع بين شتات الخيوط التي تشكّل أرضية الانطلاق للآفاق التي تسود التقدّم والتطوّر العالمي. فالنماذج الثقافية المعتادة لم تعد تفي بغرض القراءة الثقافية، أو تستطيع إنتاجاً معرفياً يتكامل مع الواقع، أو يخلق حالة الفرق والتطلُّع إلى الأفضل، فلابد من الإقرار بأهمية القراءة الثقافية ومواكبتها لتطورات الوسائل التثقيفية المعاصرة، بما يتيح لنا ردم الفجوة وخلق حالة الحراك الثقافي الداعم للتحضر المنشود. فالبحث عن الأفكار في المقروء ينقلنا إلى مرحلة التفاعل والاستيعاب وتفهّم الرسائل والإشارات وشذرات التفكير، ويحقّق مستويات وعي وإدراك تهضم حالة الحراك الثقافي والفكري في المحيط والإقليم والعالم.