صدور ثلاثة كتب جديدة للكاتب اليمني حميد عقبي عن دار دان للنشر والتوزيع بالقاهرة    عيد العمال العالمي في اليمن.. 10 سنوات من المعاناة بين البطالة وهدر الكرامة    العرادة والعليمي يلتقيان قيادة التكتل الوطني ويؤكدان على توحيد الصف لمواجهة الإرهاب الحوثي    حكومة صنعاء تمنع تدريس اللغة الانجليزية من الاول في المدارس الاهلية    فاضل وراجح يناقشان فعاليات أسبوع المرور العربي 2025    انخفاض أسعار الذهب إلى 3315.84 دولار للأوقية    الهجرة الدولية: أكثر من 52 ألف شخص لقوا حتفهم أثناء محاولتهم الفرار من بلدان تعج بالأزمات منذ 2014    وزير الصناعة يؤكد على عضوية اليمن الكاملة في مركز الاعتماد الخليجي    "خساسة بن مبارك".. حارب أكاديمي عدني وأستاذ قانون دولي    حرب الهيمنة الإقتصادية على الممرات المائية..    رئيس الوزراء يوجه باتخاذ حلول اسعافية لمعالجة انقطاع الكهرباء وتخفيف معاناة المواطنين    عرض سعودي في الصورة.. أسباب انهيار صفقة تدريب أنشيلوتي لمنتخب البرازيل    هل سمعتم بالجامعة الاسلامية في تل أبيب؟    عبدالله العليمي عضو مجلس القيادة يستقبل سفراء الاتحاد الأوروبي لدى بلادنا    وكالة: باكستان تستنفر قواتها البرية والبحرية تحسبا لتصعيد هندي    لأول مرة منذ مارس.. بريطانيا والولايات المتحدة تنفذان غارات مشتركة على اليمن    هدوء حذر في جرمانا السورية بعد التوصل لاتفاق بين الاهالي والسلطة    الوزير الزعوري يهنئ العمال بمناسبة عيدهم العالمي الأول من مايو    عن الصور والناس    حروب الحوثيين كضرورة للبقاء في مجتمع يرفضهم    أزمة الكهرباء تتفاقم في محافظات الجنوب ووعود الحكومة تبخرت    الأهلي السعودي يقصي مواطنه الهلال من الآسيوية.. ويعبر للنهائي الحلم    إغماءات وضيق تنفُّس بين الجماهير بعد مواجهة "الأهلي والهلال"    النصر السعودي و كاواساكي الياباني في نصف نهائي دوري أبطال آسيا    اعتقال موظفين بشركة النفط بصنعاء وناشطون يحذرون من اغلاق ملف البنزين المغشوش    الوجه الحقيقي للسلطة: ضعف الخدمات تجويع ممنهج وصمت مريب    درع الوطن اليمنية: معسكرات تجارية أم مؤسسة عسكرية    رسالة إلى قيادة الانتقالي: الى متى ونحن نكركر جمل؟!    غريم الشعب اليمني    مثلما انتهت الوحدة: انتهت الشراكة بالخيانة    جازم العريقي .. قدوة ومثال    دعوتا السامعي والديلمي للمصالحة والحوار صرخة اولى في مسار السلام    العقيق اليماني ارث ثقافي يتحدى الزمن    إب.. مليشيا الحوثي تتلاعب بمخصصات مشروع ممول من الاتحاد الأوروبي    مليشيا الحوثي تواصل احتجاز سفن وبحارة في ميناء رأس عيسى والحكومة تدين    معسرون خارج اهتمامات الزكاة    الاحتلال يواصل استهداف خيام النازحين وأوضاع خطيرة داخل مستشفيات غزة    نهاية حقبته مع الريال.. تقارير تكشف عن اتفاق بين أنشيلوتي والاتحاد البرازيلي    الدكتوراه للباحث همدان محسن من جامعة "سوامي" الهندية    الصحة العالمية:تسجيل27,517 إصابة و260 وفاة بالحصبة في اليمن خلال العام الماضي    اتحاد كرة القدم يعين النفيعي مدربا لمنتخب الشباب والسنيني للأولمبي    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    النقابة تدين مقتل المخرج مصعب الحطامي وتجدد مطالبتها بالتحقيق في جرائم قتل الصحفيين    برشلونة يتوج بكأس ملك إسبانيا بعد فوز ماراثوني على ريال مدريد    الأزمة القيادية.. عندما يصبح الماضي عائقاً أمام المستقبل    أطباء بلا حدود تعلق خدماتها في مستشفى بعمران بعد تعرض طاقمها لتهديدات حوثية    غضب عارم بعد خروج الأهلي المصري من بطولة أفريقيا    علامات مبكرة لفقدان السمع: لا تتجاهلها!    حضرموت اليوم قالت كلمتها لمن في عينيه قذى    القلة الصامدة و الكثرة الغثاء !    عصابات حوثية تمتهن المتاجرة بالآثار تعتدي على موقع أثري في إب    حضرموت والناقة.! "قصيدة "    حضرموت شجرة عملاقة مازالت تنتج ثمارها الطيبة    الأوقاف تحذر المنشآت المعتمدة في اليمن من عمليات التفويج غير المرخصة    ازدحام خانق في منفذ الوديعة وتعطيل السفر يومي 20 و21 أبريل    يا أئمة المساجد.. لا تبيعوا منابركم!    دور الشباب في صناعة التغيير وبناء المجتمعات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المستشفى الجمهوري بتعز .. ترويض المعاناة
عجز في الكوادر.. شحة في الإمكانيات.. ضيق في المكان
نشر في الجمهورية يوم 28 - 07 - 2010

لأكثر من خمسة عقود مضت.. والمستشفى الجمهوري بتعز يقدم خدماته دون توقف.. كان الإطار الوحيد الذي يحتوي كل المرضى..الأمر الذي أكسبه مكانة متألقة في قلوب كل اليمنيين.. [فأبي أبوك.. جدي جدك].. مروا من هنا في سبيل إجلاء معاناتهم.. حين كان الجميع يخدم يُعطي دون مقابل.. إنها الصورة التي لم نعد نلمسها الآن..؟!!
شيده الأجداد بأزاميل الإرادة والكفاح.. سلخوا الصخور الصلدة.. وجاءوا بالمعدات الثقيلة فوق الظهور.. تحت هجير الشمس و”كرابيج” الإمام..”عوامل التعرية لم تحنو على بنيانه المرصوص” قط.. لكنها اليوم أشد ضراوة, والخوف كل الخوف أن يتحول هذا المعلم الرابض ببهاء في قلب الحالمة إلى “ركام”.
حشد من الوقائع والأحداث كانت مغيبة مدفونة في دهاليز النسيان.. جاهداً حاولت جمعها ونثرها في حنايا هذا الملف.. دون تجاهل لواقعه «الرث» في تفاصيل غير مكتملة تشعر المطلع بأن هناك فرقاً.
عديد مشاكل وصعوبات صار يواجهها المستشفى الجمهوري اليوم.. لعل أبرزها تلك التي ولدتها عملية الترميمات أو”التخريبات” التي طالت مبناه القديم وحولته إلى حظيرة فوضى عم بلاها كل المستشفى بصورة تتفاوت من قسم لآخر.. نفتح بهذا الملف المستجد المشكلة, مع الغوص في تفاصيل أخرى لاتقل شأناً عن ذلك.
زريبة بلا بواب
“مستشفى بلا جراحة.. كجسد بلا رأس” تشبيه في محله ورد على لسان الدكتور علي قاسم الجرادي- رئيس قسم الجراحة في المستشفى الجمهوري ومدعاة ذلك التشبيه أن المستشفى خلال خمسة أشهر ماضية بلا قسم جراحة متكامل عدا غرفة مؤقتة بطاولة واحدة محشورة في الدور الثالث من المبنى الجديد.
ولب الحكاية بعد الاستهلال السابق أن ثمة ترميمات أو”تخريبات”- بالمعنى الأصح- استحدثت على قسم الجراحة- الذي كان متكاملاً- في المبنى القديم.. فالزائر للمستشفى اليوم لن يلمس ولن يجد إلا مبنى قديم سُلخت مكامن الجمال الداخلي فيه.. حتى أضحى صورة مشوهة يرتاده متسكعون في الليل والنهار, ليصبوا فوق تاريخه الغض مخلفاتهم النتنة, ليخيل للزائر أنه يمر فوق ماهو أسود من زريبة.
وسبب هذه الإشكالية المتفاقمة أن المقاول- وكما هي عادة مقاولي هذه الأيام- تنصل عن المهام الموكلة إليه”خرب” ثم ذهب ولم يعد بعد أن كان قبل ذلك أشد إلحاحاً بأنه سينتهي من عمله خلال 48 يوماً فقط..؟!
غرفة لاتكفي
ولأن شر البلية مايضحك.. يضحك هنا وبألم الدكتور الجرادي من هذا الحال الذي أوصلهم تخريب المقاول إليه.. فغرفة واحدة للعمليات الإسعافية والمبرمجة.. وفي مستشفى كبير لاتكفي.
ومما أكده د/الجرادي أنه اقترح وزملاء له- قبل أن تتم عملية التخريب- أن ينجز المقاول عمله على مرحلتين بحيث لايتضرر قسم الجراحة بالكامل- مثلاً يبدأ عمله بجناح رقود العمليات وبعد أن تكتمل المرحلة ينتقل إلى الجناح الآخر جناح العمليات مضيفاً.. لو كان تم ذلك لكنا سلمنا هذه الفوضى..
ومايهمنا في هذه التناولة ليس”تناويب- لو” فالحال كما عايشته لا يسر وكثير من الحالات الإسعافية التي تستدعي إجراء عمليات مستعجلة يتم تحويلها إلى هذا المستشفى أو ذاك والشيء المشين فعلاً أن يبقى المستشفى الجمهوري هكذا بلا غرفة عمليات متكاملة.
لخبطة في لخبطة
بما أن عملية الترميم لم تتم كما كان متوقعاً: د/الجرادي اقترح أن يتم تفريغ الدور الذي هم فيه بالكامل لقسم الجراحة , حتى يتسنى لهم ممارسة مهامهم باقتدار وبنفسية جيدة.. معتبراً ذلك قمة الايجابية وسيلمس المواطنون من ذوي الدخل المحدود هذا الأمر عن قرب خاصة وأن غالبية هؤلاء الكادحين وفي ظل الظروف المعيشية الحالية لايستطيعون الذهاب إلى المستشفيات الخاصة المشهورة بمتاجرتها بأرواح البشر.
د/الجرادي أضاف وبكل ثقة أن الإدارة الحالية بيدها الحل.. وبما أن قسم الصدر فيه الكثير من الغرف الشاغرة والواسعة في ذات الوقت اقترح د/الجرادي على الادارة الحالية أن تقوم بنقل قسم القلب الذي يشاركهم نفس الدور المؤقت إلى قسم الصدر- مع العلم- يضيف د/الجرادي أن قسم القلب نقل قبل فترة إلى هذا الدور بسبب هدم المبنى القديم واستحداث مبنى جديد محله.
وبما أن الوضع كله نقل في نقل ومشاريع متعثرة وأخرى تنجز فالأولى- الكلام لي هنا- أن يتم ترتيب الأقسام بما يتناسب والدور الخدمي الذي يقوم به هذا المستشفى العريق لأن الأسوأ أن يبقى الحال كما هو عليه هكذا”لخبطة في لخبطة”.
مهام صعبة
قسم الإسعاف أو”الطوارئ” له من الأهمية البالغة بما لايمكن اختزالها في هذه الأسطر المشتتة.. فهو يمثل”العمود الفقري” لأي مستشفى, ويكفي أنه تجاوز ساعات الدوام المحدودة.. واستعصى على جميع العطل الدينية والرسمية بما فيها الاضرابات المطلبية.
من هذا المنطلق كان لي تواصل مع الدكتور/أحمد مهيوب- رئيس قسم الإسعاف في المستشفى الجمهوري- الذي عرفني أكثر على طبيعة عملهم واصفاً إياها ب”المهام الصعبة” وأنها فوق طاقة فريقه المتواضع.
ومما زاد الطين بلة حسب وصف الدكتور مهيوب أعمال الترميم- التي أشرنا إليها سابقاً- فقد ساهمت إلى حد ما بزيادة الضغط على القسم, فقد أدى ذلك الترميم إلى حشر العيادات المتخصصة في مكان ضيق.. ولذا كان لزاماً على الفائض من مرضى تلك العيادات أن يتم تحويلهم إلى قسم الاسعاف.
أين الدكتور”فلان”؟!
وأنا في هذا الصدد- الكلام لي هنا- أشارك الدكتور مهيوب هذه المعاناة ولكن من زاوية مختلفة.. فقد سبق وأن أصبت قبل أيام بوعكة صحية في معدتي.. لأبقى أنا وحشد هائل من الناس في انتظار أطباء العيادات التخصصية”أين الدكتور فلان” بين لحظة وأخرى كان يتردد ذات السؤال وبصوت مبحوح مني ومن غيري ليأتي الجواب كالصاعقة”معه استراحة”؟!!
بعد أكثر من ساعة لم يأت الدكتور ولكني هميت بالرحيل بعد أن تلقيت نصيحة أحدهم صورتك بن ناس أحسن لك روح مستشفى خاص والا عيادة خارجية وكأن المستشفى أسس لغير البشر.. المهم لم آخذ بنصيحته الخبيثة ولكني يممت”معدتي” صوب قسم الاسعاف وهناك وجدت الطبيبة المناوبة شكوت لها ألمي وفي قلبي غصة وغليل أسئلة لم يهدأ ثورانها إلا هناك عند ادارة المستشفى.
نصف ساعة
نقلت هذه القضية إلى الدكتور/زكريا أحمد الشيباني- نائب المدير العام بدوره أرجع سبب هذه الاختلالات إلى عملية الترميم اللاقائمة- موضحاً أن للأطباء استراحة يومية في منتصف كل دوام ومدتها نصف ساعة.. ومن سابق كان يؤخذ هذا الزمن المحدد وبدون زيادة لأن الأجواء كانت مهيأة داخل المستشفى وكان الطبيب يأخذ استراحته أمام مكتبه, حتى جاءت هذه الترميمات وغيرت الأجواء النفسية والعملية الجيدة.. مضيفاً ونحن على كل حال سنعمل على حل هذه المعضلة وفي أقرب وقت.
كشافة معطلة
وبالعودة إلى موضوع قسم الاسعاف سألت نائب المدير العام عن سر عدم وجود كشافة خاصة بقسم الاسعاف لأفاجأ أن الكشافة موجودة ولكنها معطلة؟!
يقول الدكتور الشيباني: الكشافة معطلة منذ فترة طويلة جداً وقد طرحت هذا الموضوع لأهميته القصوى منذ تم تعييني في هذا المنصب ونحن الآن بصدد إصلاح أرضيته جديدة للأشعة حتى يعود العمل بكشافة الاسعاف من جديد بل وأحسن من سابق.
الحافز مهم
قبل أن أتجاوز هذه الجزئية أعود مرة أخرى إلى الدكتور/أحمد مهيوب- رئيس قسم الاسعاف الذي أضاف أنهم يستقبلون المرضى والمصابين على مدار 24 ساعة, خاصة ضحايا الحوادث المرورية والحوادث الأخرى مثل السقوط وإطلاق النار والاختطافات وأيضاً الحالات الحُمية والحالات الجراحية.. وبمجرد أن تصل الحالة إلى القسم يتم التشخيص الأولي ومن ثم استدعاء الطبيب المختص الذي لايصل إلى المستشفى إلا وجميع الصور الاشعاعية جاهزة بما فيها تركيب”الفراشات”.
وأضاف د/مهيوب أنه في حالة وصول حالات تستدعي جراحة المخ والأعصاب يتم إحالتها إلى مستشفى الثورة.. لأنه ليس لدينا إلا طبيب واحد مختص في هذا الشأن. وأوضح د/مهيوب أن القسم يشكو من عجز كبير في الكادر التمريضي والكادر الخدمي مؤكداً على ضرورة صرف مكافآت تشجيعية لفريق العمل في قسم الاسعاف.. فهذا الحافز سيكون له عظيم الأثر لدى هذا الفريق الذي كانت ومازالت جهوده متواصلة في خدمة هذا المستشفى العريق ومرضاه.
عجز عام
هذا العجز في الكادر الطبي والخدمي ليس حكراً على قسم الاسعاف وحسب بل تكاد تشكو منه غالبية الأقسام.. وهذا بدوره سيكون له انعكاسات سلبية, وسيؤثر على سمعة المستشفى, وسيجعل المرض وأربابهم يبحثون عن مستشفى آخر يلبي طلباتهم.
الدكتور زكريا أحمد الشيباني وبصفته نائباً للمدير العام غصنا معه في تفاصيل هذه الاشكالية وبصورة عامة هذه المرة, حيث أشار خلال حديثه أن المستشفى الجمهوري يتميز بالأخصائيين فيما يشكو من الناحية الأخرى من قلة الكوادر وشحة الدعم.. فكل الدراسات المتاحة أثبتت أن الكوادر المتوفرة لن تغطي إلا 60 % من خدمات المستشفى.. ومافوق هذه النسبة عبارة عن جهود ذاتية تبذل على حساب طاقة وجهد العاملين.
وهنا يضيف الدكتور الشيباني أنا حتى أقدم خدمات بصورة متكاملة وبنسبة 100 % احتاج لتغطية العجز.. فمثلاً نسبة العجز القائم بالنسبة للفنيين حوالي 40 % أما بالنسبة للممرضين بنسبة 40 إلى 50 %.. الخ.
مدونا أنتم
وفي هذا السياق يناشد الدكتور الشيباني جميع الجهات المختصة سواء في وزارة الصحة.. أو مكتب الصحة في المحافظة وذلك بالالتفات إلى هذه الإشكالية القائمة وبجدية أكبر.. لافتاً أن مطالبتهم مستمرة في هذا الشأن منذ سنوات دون أي تطمين يذكر بل بعرقلة مستمرة من مكتب المالية؟!
وأردف د/الشيباني: كلما مديناهم بأسماء نريد توظيفها أو التعاقد معها يرفضوها بحجة أن تكون فيها مجاملة أو شيء من هذا القبيل.. والآن نقول لهم عبر صحيفة الجمهورية”طيب مدونا أنتم بالكفاءات الطبية التي نشكو من العجز فيها..؟!”
- ((الحياة ليست ما يتذكره أحدنا...وإنما هي ما يتذكره ...وكيف يتذكره ليرويه..))
هنا على أورقة هذا المستشفى العتيق..ثمة مؤسسون كُثر..مارسوا مهامهم باقتدار..وسطروا صفحات مضيئة بخدمات جليلة يتذكرها القاصي والداني..ما أن تسأل عن أحدهم ممن عايش لحظات التأسيس الأولى..حتى تتوارد الإجابات بغير ذلك ..فجميع تلك الأسماء إما أحيلت إلى التقاعد أو نتقلت إلى الرفيق الأعلى..
الأحمدي
وحده الحاج- محمود الكوكباني 81عاماً قهر الزمن..بإصرار شديد على أن تكون لحظاته الأخيرة هنا، فهذا المكان يعني له الحياة بكل تفاصيلها..ولديه ذاكرة جيدة، فتاريخ الأيام الخوالي ينساب على لسانه بسهولة ويسر وكأنه يعلم ما أريد.
وجل ما يتذكره الحاج محمود أنه التحق بالمستشفى في العام 1958م بعد أن تخرج من المدرسة الأحمدية..من الوهلة الأولى ابتدأ عمله بتفاني لترتقي قدراته التمريضية من خلال الممارسة إلى أفضل ممرض، حتى أستحق أكبر راتب لموظف يمني في المستشفى وهو مبلغ أربعة ريالات”فرنص”.
ويضيف الحاج/ محمود أن للمستشفى اسم قديم لصيق بالمدرسة التي كان يدرس فيها “المستشفى الأحمدي” وأن البدايات الأولى لتأسيسه كانت إبان حكم الإمام يحيى..وأن مبانيه الرائعة شيدت بفضل السواعد اليمنية الماهرة، تحت قهر وجبروت الإمام أحمد وعكفته”الأعفاط” وكان يبدأ العمل من بعد صلاة الفجر حتى قبل المغرب.
وفي رد الحاج محمود عن إشاعة خطيرة تلوكها بعض الألسن..وفحواها وجود مخطط سابق يراد منه هدم المبنى القديم- قسم الجراحة الذي ابتدأ العمل لترميمه- ويشيد محله مبنى جديد يستغل مساحته والمساحات الشاغرة بجانبه..وهنا أجاب بنبرة حادة”حرام عليهم” هذه المباني جزء من تاريخ تعز واليمن ككل..وعين الظلم أن يعتدى عليه..مناشداً الجهات المختصة أن تعمل على ترميمه بدلاً من هدمه.
حريم الإمام
كما يتذكر الحاج محمود تلك الزيارات التي كان يقوم بها الإمام أحمد بين الفينة والأخرى للمستشفى..واصفاً إياها بأنها لم تكن لله، متهماً الإمام بتصنيع المواقف، وزياراته تلك كانت للتباهي أمام الأطباء الأجانب الذين كان يحبهم ويغدق عليهم ..وأمام الشعب ينعتهم بالكفار وأن الله سخرهم لخدمته.
وفي ذات الصدد يضيف الحاج محمود أن المبنى الحالي للإدارة- الذي يتوسط المستشفى- كان في تلك الفترة جناح خاص بالأسرة الحاكمة وحريم الإمام اللاتي شكلن مع بداية الجمهورية دعاية مضادة للثورة وقد تم نقلهن إلى المقام الشريف في العرضي ومن ثم أفرج عنهن في نبأ تناقلته أغلب وكالات الأنباء.
وأردف الحاج محمود أن سيف الإسلام”على”- أخوا الإمام- كان مقيماً في ذلك الجناح بسبب مرض نفسي، وقد أشتهر بسكره وعربدته، وكانت نهايته في العاصمة صنعاء على يد المناضل هادي عيسى.
ممرض الرئيس
وبالنسبة لحياة الحاج محمود الشخصية فقد كان شاباً متحمساً ولاءه للوطن، نمت مداركه الثقافية والوطنية على يد المناضل الشهير سعيد إبليس..تربطه علاقة جيدة بفخامة رئيس الجمهورية علي عبد الله صالح من يوم ما حل الأخير ضيفاً على قسم القلب ليشمله الحاج محمود برعايته الطبية وذلك في منتصف سبعينيات القرن المنصرم.
يقول الحاج محمود” عرفت الرجل عن قرب فوجدته طيباً كريماً لا ينسى المعروف ويذكر محاسن الناس..”ليس للحاج محمود زوجة أو ولد ، أبوه قدم من كوكبان برفقة عبد الله الوزير وأمه من تعز فكانت النتيجة محمود الذي عشقه للمستشفى الجمهوري لا يضاهى فها هو بعد خمسة عشر عاماً من تقاعده لم يبرح غرفته العتيقة في قسم الصدر..لا يحب الظهور فإصراره كان حتى آخر لحظة أن يذيل هذا الكلام باسم مجهول، بل عجزت حيلي بأن التقط له صورة.
ثور بلدي
من الوجوه السمراء التي آثرت البقاء وما زالت حية ترزق، عبده قائد فرحان-73عاماً- يتكلم عن الماضي وكأنه وقع بالأمس دون أن يدقق في الأعوام..التحق بالمستشفى الأحمدي في مجال الخدمات بعد التأسيس مباشرة تخللتها فترة مناوبة متقطعة في المستشفى العسكري الخاص بعكفة الإمام – وهو المكان الذي بني عليه لاحقاً محكمة تعز وثانوية تعز الكبرى.
وقد كان راتب فرحان في تلك الفترة ريالين ونصف الريال متبوع بنصف قدح من الحبوب، ليرتفع مع بداية عهد الثورة المباركة إلى خمسة ريالات فرحان ومن سابق الحاج محمود يصفان أن المستشفى بعد الثورة شهد قفزات نوعية من حيث الخدمات الطبية وغيرها..ولعل فرحان ركز على جانب التغذية أكثر فهي كما يصف كانت جيده حيث كان يتم ذباحة ثور بلدي كبير وبصورة يومية وأنه ظل وأبناؤه السبعة عشر يقتاتون من خير هذا المستشفى العريق لسنوات.
حتى النهاية
وأضاف فرحان أنه كان يعمل في المستشفى الجمهوري في تلك الفترة نخبة من الأطباء اليمنيين الأوائل غالبيتهم قد فارقوا الحياة أمثال الدكتور لطف مطهر ويحيى الشامي وأحمد راشد وحميدان...الخ.
فيما يؤكد الحاج محمود أن جميع هؤلاء أتوا بعد الثورة أما قبل ذلك فلم يكن يوجد طبيب يمني.
وبالعودة لفرحان فقد أحيل إلى التقاعد قبل أكثر من عشر سنوات براتب 13.900ريال ولأن إدارة المستشفى لم تستطع الاستغناء عن خدماته تعاقدت معه من جديد وبمعاش مقداره 8000ريال وما أثار استغرابي إصرار فرحان وزميلة الحاج محمود على البقاء في المستشفى حتى آخر لحظة من عمرهما.
الجمهوري العام
من بداية الثورة وحتى العام 1984م كان المستشفى الجمهوري متخصص بالأمراض القلبية والصدرية..هذا ما أكده لنا أحمد قائد الخطابي مساعد المدير العام وأول كوادر المستشفى التمريضية منذ عام 1978م –هكذا وصف نفسه- مضيفاً أن سبب حصر مرضى الصدر في هذا المستشفى وبمدينة تعز بالذات يرجع لعدة ميزات لعل من أبرزها الجو المناسب إضافة إلى وجود كم هائل من الكوادر الأجنبية والمحلية المؤهلة وذات الخبرة العالية والطويلة.
وأردف الخطابي أن المرضى في تلك الفترة كانوا يتوافدون على المستشفى من أغلب محافظات الجمهورية لتبدأ بعد ذلك مرحلة جديدة حيث استحدثت أقسام أخرى مثل العيون والولادة والعظام لتتوالى بعد ذلك بقية الأقسام المرضية عدا قسم “الحروق” الذي كان ولا يزال حكراً على مستشفى الثورة.
إذاً المرحلة التخصصية انتهت وابتدأت مرحلة جديدة مرحلة “المستشفى الجمهوري العام..”
- قلة هم الذين يشيدون لأنفسهم عروشاً جميلة في قلوب البشر
أثناء تجوالي بأروقة المستشفى استوقفتني لوحتان ممهورتان بعناية..مكتوبتان باللغة العربية والفرنسية..مرسوم على جوانبهما العريضة العلمان اليمني والفرنسي..في الأولى تعريف بقسم الصدر العتيق -الخاوي على عروشه- وعليها ذيل اسم الدكتور الفرنسي”أندريه” مؤسس القسم فيما الثانية تعريفيه بقسم التشخيص بالأشعة والموجات فوق الصوتية واسم مؤسسة الدكتورة “فيالارد”.
شيخ المشايخ
في البدء سألت الحاج محمود الكوكباني عن سر حضور الأسماء الفرنسية هنا فأجاب لأنهم خدموا المستشفى أكثر من غيرهم ولأكثر من أربعين عاماً فالدكتور”أندريه” مثلاً قدم إلى تعز في عام 1955م وظل في خدمة المستشفى والإنسانية حتى العام 1989م عام وفاته بعيداً عن أهله ووطنه ويعرفنا الحاج محمود أكثر بالطبيب الفرنسي”اندريه” فهو كما يصف ذو أخلاق دمثة يتفانى في خدمة الجميع دون تفرقة على يديه تعلم الكثير من الأطباء اليمنيين المهنة الرائعة والتعامل الإنساني الراقي..الجميع يذكره دون استثناء لأن رحيله ترك فراغاً هائلاً يصعب تعويضه.
وأضاف الحاج محمود: هو المؤسس الأول لأقسام الصدر والقلب وبسبب شهرته ذاع صيت المستشفى وكان المرضى يتوافدون من كل المناطق ..وقد سبق وإن أطلق عليه الإمام أحمد لقب” شيخ المشايخ” وسبب ذلك حضوره ذات يوم مجلس الإمام وبجانبه حشد من المشايخ والأعيان وبعد أن عرف بهم الإمام جميعاً قاطعه “أندريه” وأنا أيش..؟! فرد عليه الإمام “أنت شيخ المشايخ”
بينما يقول عبده فرحان بأن الدكتور”كان طبيب الإمام الخاص وكان يعزه ويثق بخدماته كثيراً..كما كان للدكتور “أندريه” حصان ادهم – هوكما يعتقد هدية الإمام إليه- وقد اشتهر الدكتور “أندريه” بمجيئه فوق ظهره إلى ساحة المستشفى وذلك في غالب الأيام.
دموع كالمطر
بالنسبة للدكتورة”فيالارد” مؤسسة قسم التشخيص بالأشعة والموجات فوق الصوتية فقد خدمت المستشفى الجمهوري كثيراً وقدمت خدماتها الإنسانية باقتدار مُلفت..حتى وهى في أرذل العُمر لم تبخل على المستشفى وكل محبيها بزيارتها الرحيمة ليبقى اسمها خالداً محفوراً في قلوب الكثيرين خاصة أولئك الذين عايشوها عن قرب.
محمد عبد الودود- مندوب الحوادث المرورية في المستشفى- أحد هؤلاء يقول عن “د.فيالارد” لقد تعلمنا منها الكثير ..تعلمنا أن نعطي بدون مقابل وأن نرحم الضعيف ..لقد كانت ماهرة في أداء عملها..قادرة على استجلاب الدعم والمساعدات الأجنبية في سبيل خدمة المستشفى.
وما يتذكره عبد الودود عن هذا الطبيبة الرائعة جيداً..جلبها لأجهزة أشعة حديثة من بلدها”فرنسا” ولجهل المشرفين على تخزين الأجهزة وضعوها في أحدى المخازن الأرضية غير المحمية من مياه الأمطار غير مدركين أن الموسم “صيف” وأن الأمطار قد تهطل في أيه لحظة.
ذات مساء غائم هطلت أمطار غزيرة على الحالمة لتأتي الدكتورة”فيالارد” بسيارتها متلهفة للاطمئنان على”أولادها” هكذا وصفت تلك الأجهزة هبطت المفاجأة عليها كالصاعقة حين وجدت الأمطار قد أطفأت حلمها الكبير نادت الجميع وهي تبكي حد الجنون والدموع تنهمر على وجنتيها كما المطر تسابق الزمن في إنقاذ ما يمكن إنقاذه.
تلك صورة جميلة لا زالت مرسومة في أذهان الكثيرين ..ولعل الأجمل ما ختم به صاحبنا عبد الودود حديثه..” لو مات أبناؤها في تلك اللحظة الغامرة ما أضنها سكبت مثل تلك الدموع..”
- ويلٌ.. للمطوفين؟!
في الجمهوري المستشفى ثمة”مطوفين” كثر.. أو بالمعنى الأصح”سماسرة خدمات” في طواريد المستشفى المختلفة ينتشرون.. يقنصون.. يخدعون ضحاياهم بعناية فائقة.. من الغلابا والقرويين السُذج.. المشدودين لخدمات وهمية, لاتستنفد إلا جيوبهم الرثة.. ولم تكن أصلاً لله.
فهذا قاسم عبدالعزيز- مواطن غلبان- قاده المرض إلى دهاليز المستشفى الجمهوري ظناً منه أن حالته المزرية ستُطمع من يطمح لنيل الأجر والمثوبة من الله من خلال خدمته.. ليتلقفه هذه المرة مطوف لايخاف الله.. قاده إلى الطبيب الذي وجهت روشتته.. باجراء الفحوصات اللازمة.. الفرصة التي ينتظرها المطوف لينقض على فريسته.
المهم دخل قاسم الفخ بكل سهولة.. ماإن أوهمه المطوف بأن مختبرات المستشفى رديئة جداً, وأن زملاءه في الخارج- خارج المستشفى- سيقومون بهذه المهمة على أكمل وجه.. أعطاهم الدم والبول والبراز.. ليطلبوا منه 6000 ريال أجور الفحص بزيادة صفر فقط عن التكلف الرسمية داخل المستشفى؟!
ولأن قاسم فقير معدم خاطبهم بأنه ليس لديه إلا النصف من ذلك المبلغ, إلا أن المطوف وأصحاب المختبر رفضوا حتى أن يضع تلفونه السيار «رهناً» لديهم ليأتي في اليوم التالي ومعه كل المبلغ ليستلم نتيجة فحصه المشؤوم المذيل ب”نجتف”.
قصص كثيرة
هذه القصة واحدة من حكايا كثر حدثت ومازالت تحدث هنا في دهاليز المستشفى الجمهوري بل وفي أغلب المستشفيات الحكومية.. والغريب في الأمر ماأكده لنا أحد رجال الأمن في المستشفى أنهم بين الفينة والأخرى يقبضون على أعداد من هؤلاء”المطوفين” وهم متلبسون بجرمهم وأمام ضحاياهم.
المفاجأة التي أعلن عنها صاحبنا أن ادارة الأمن تفرج عنهم ليعود هؤلاء”المطوفون” إلى ذات عملهم السابق ولسان حالنا يقول قد ملينا من القبض عليهم.
مسئولية الأمن
من جانبه الدكتور/زكريا أحمد الشيباني- نائب مدير المستشفى لم ينكر هذه القضية من ناحية تواجد هؤلاء المطوفين وكثرتهم وأن معاناتهم مستمرة منهم.. لافتاً إلى أنهم على تواصل مستمر مع الجهات الأمنية المختصة, وقد سبق وأن قامت إدارة المستشفى برفع مذكرة بهذا الشأن إلى إدارة البحث الجنائي في المحافظة معززة بكشف يحوي أسماء هؤلاء المطوفين دون فائدة.
وأردف د/الشيباني أن إدارات المستشفى سعت إلى التقليل من تحركات هؤلاء”المطوفين” وذلك بأن قاموا باغلاق بوابة المستشفى الفرعية التي تتوسط المستشفى وتفصل بين المبنى القديم والجديد.. كي يحدوا من تحركات”المطوفين” ويحصروا مرورهم من البوابة الرئيسية أمام أعين الحراس.
مضيفاً أن ذلك الاجراء جزء من الحل لأن الحل الأبرز والناجع يقع على عاتق الجهات الأمنية في المحافظة.. فهي وحدها من يخول لها متابعة هؤلاء الذين يقتاتون على معاناة الناس.. ومحاسبتهم ومعاقبتهم بشدة حتى يتعظوا ويكونوا عبرة لغيرهم.
الصفحة أكروبات...


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.